الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


العروس ترتدي الحداد

صبحي حديدي

2004 / 3 / 16
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي


ليست هذه الزاوية المقام المناسب لاستقصاء الخلفيات السياسية لما جرى في مدينة القامشلي، السورية الشمالية، من أحداث دامية نهار الجمعة الماضي. أكتفي هنا باقتباس جملة واحدة من نداء عاجل أصدرته الأحزاب السياسية السورية المعارضة، إسوة بأحزاب كردية، ومنظمات وجمعيات وهيئات حقوق الإنسان والمجتمع المدني: "بديهي أنّ مثل هذه الأحداث ما كان لها أن تتطوّر بهذا الشكل المأساوي إلا بفعل تفاقم حالة من الاحتقان السياسي والاجتماعي في البلاد، ناجمة عن غياب الحياة الديمقراطية واحترام الحريات العامة، بما في ذلك إهمال حقوق الكرد السوريين، وغياب المساواة بين المواطنين أمام القانون".
تشدّني، في المقابل، رغبة عارمة في امتداح المدينة التي شهدت المأساة، وهي اليوم محاصرة أو تكاد حسب معظم التقارير المحايدة، وتخيّم عليها أجواء مقيتة أمنية ناجمة عن انتشار الجيش في شوارعها، وأخرى بغيضة اجتماعية تصنعها طواحين الإشاعات الرهيبة، من طراز تلك الإشاعة المفزعة التي سادت قبل يومين، حول تسميم مياه الشرب في المدينة! ولا تفوتني الإشارة إلى أنّ القامشلي مسقط رأسي، فيها ولدت وكبرت وشهدت حفنة من أبهى وأجمل سنوات حياتي، وما كنت سأغادرها في أيّ يوم إلا ضمن سياق واحد وحيد: مكرَهاً ومبعَداً وطريداً! أهي، إذاً، شهادة مطعون في صدقيتها؟ لا أتردد في الإجابة بالنفي، ليس لأنّ شهادة الوليد عن مسقط رأسه متطهرة من الانحيازات، إذْ أنّ العكس هو الصحيح وهو الطبيعي المنطقي، بل لأنّ الشهادة في خصوصية هذه المدينة السورية محطّ إجماع واسع لدى كلّ مَن أقام فيها، وكذلك لدى سواد أعظم من السوريين الذين لا يعرفون عنها إلا ما سمعوه من زائريها وأهلها.
والقامشلي مدينة صغيرة تقع في أقصي الشمال الشرقي من سورية، وادعة جميلة، نابضة بالحياة، صاخبة على عكس ما توحي به جغرافيتها واقتصادها وتاريخها وهندستها الاجتماعية ـ الاقتصادية. يخترقها نهر صغير بهيّ غريب الاسم، "جغجغ"، يسيل إليها قادماً من تركيا في الشتاء والربيع، ثمّ يجفّ صيفاً بالمعنى الحرفي للجفاف، ما خلا حفنة سواقٍ هنا أو أحواض عميقة هناك. تأسّست في عشرينيات هذا القرن لكي تكون محطة زراعية تخدم مواسم زراعة وحصاد القمح والشعير وبعض القطن، وسرعان ما أصبحت "عروس الجزيرة"، المنطقة التي سُمّيت هكذا بسبب وقوع سهولها المنبسطة الخصبة بين نهرَي الفرات ودجلة.
والموقع الجغرافي لهذه المنطقة يفسّر تنوّعها الإنساني والثقافي واللغوي والإثني: من الشمال تحدّها جبال طوروس، ومن الشرق كردستان والعراق، ومن الجنوب بادية الشام وتدمر، ومن الغرب امتداد سورية حتى مدينة حلب والساحل السوري. وبالمعنيين السوسيولوجي والإقتصادي كانت علاقة البشر مع المواسم الزراعية قد جعلت منطقة الجزيرة ، وبالتالي مدينة القامشلي بوجه خاصّ، تنفرد عن بقية المناطق السورية في أنّ معظم سكانها خليط ثنائي التركيب: إمّا من الوافدين الذين قَدِموا من مناطق الداخل السوري بحثاً عن العمل الموسمي ثم استقرّوا، أو من المهاجرين الذين توافدوا من تركيا والعراق وأرمينيا هرباً من الإضطهاد العرقي أو السياسي.
ذلك جعل القامشلي موطناً لأقوام من الأكراد واليزيديين والأرمن والسريان والآشوريين والبدو الرحّل والعشائر المستوطنة الإقطاعية، الأمر الذي استدعي تعدّدية أخرى علي صعيد اللغات والأديان والمذاهب والتراثات والأساطير. وشخصياً كنت أتكلم الكردية مع أصدقائي في المدرسة والشارع، رغم أنني لست كردياً. واليوم، ورغم آثار السنين وانعدام الممارسة وضعف الاحتكاك، فإنني ما أزال قادراً على فهم هذه اللغة، واستخدامها بما يكفي لصياغة جملة مفيدة مفهومة. كذلك كنت أرطن ببعض السريانية، وبعض الآشورية، وأفهم الكثير ممّا يُقال أمامي باللغة الأرمنية. وفي سنوات الصبا كنّا، نحن المسلمين، نستضيف أصدقاءنا المسيحيين (على اختلاف طوائفهم ومذاهبهم) في مسجد المدينة الكبير حيث يجري الاحتفال بعيد المولد النبوي. ومن جانبهم كانوا يستضيفوننا في احتفالات عيد الميلاد، فندخل كنائسهم لا كالغرباء أبداً، ويحدث أيضاً أن نشارك في بعض شعائرهم!
مختلف حكومات حزب البعث، ومنذ استلامه السلطة سنة 1963، تكفّلت بالإجهاز علي الكثير من أخلاقيات التعدّد الراقية هذه، أو رسّخت نقائضها علي نحو منهجي مقصود. وتمّ ذلك ضمن سياستَين: ممارسة العديد من أشكال التمييز ضدّ الأكراد؛ واللعب علي حساسيات طائفية ومذهبية بين المسلم والمسيحي أو حتى بين المسلم والمسلم، وإيقاظ ما كان منها خاملاً نائماً، وإحياء ما اندثر وانطوي. أفهم، بالتالي، غليان الشارع الكردي إزاء أحداث دامية كهذه التي وقعت في القامشلي، وأتفهمّ الكثير من ذهاب ردود الأفعال إلي حدود قصوى. ولكني لا أفهم، ولا أقرّ البتة، أن يحرق كردي العلم السوري في القامشلي! هذا ليس علم البعث، طبعاً، وثمة كرد كبار ساهموا في صناعته قبل وأثناء وبعد معارك الاستقلال، وإحراقه إساءة مباشرة إلى نضالاتهم.
ذلك، في كلّ حال، لن يبدّل حقيقة أنّ "عروس الجزيرة" ترتدي اليوم ثوب الحداد... وعسى أن لا يكون القادم عليها أعظم وأدهى!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ترامب يحصل على -الحصانة الجزئية- ما معنى ذلك؟ • فرانس 24


.. حزب الله: قصفنا كريات شمونة بعشرات صواريخ الكاتيوشا ردا على




.. مشاهد من كاميرا مراقبة توثق لحظة إطلاق النار على مستوطن قرب


.. ما الوجهة التي سينزح إليها السكان بعد استيلاء قوات الدعم على




.. هاريس: فخورة بكوني نائبة الرئيس بايدن