الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حجر قايين

يوسف ليمود

2009 / 1 / 12
الادب والفن


لا تملك العين غير نداها الساخن تشفق به على جليد الشر المتصلب قبل أن تعمّد به براءةً مسفوحة على فقاعة الرب الطائرة. للبراءة مساراتها الآمنة على القضبان الممدودة بين السرمدية وبين الأبد، فالأم تلد أباها، والرضيع يحمل أمَّه في داخله. لا مطر ولا دموع تروي أرضا تصلبت فيها أشواك انغرست في جحيم ذاتها قبل أن تغرس سنَّها في صدر هيكل مازال يرضع. جليد الضمير لن تذّوبه سخونة الدموع أو بخار الدم, فالتمادي كرة حديد تتدحرج إلى قاع الوحل أو سلّم ضوء يصّاعد في السماء, وهذه الأرض التي خذلها قابيل بحجرٍ تمادت في الخرس مثل أم فقدت الأمل في صلاح أبنائها ولم يبق لها غير التحديق في ورقة الزمن الباهتة.

جبال وحل الذاكرة ارتفعت وألقت بظلال نتوءاتها على الوجه الذي يحمل صورة الله في هالته. هاملت يرفع الجمجمة ويخاطب في محاجرها الدود ويهزأ بالمصير: من أجل ماذا يا هوراشيو كل هذا الدم الذي تسبح فيه المسرحية؟ من الذي يكتبها ومن هو المخرج؟ أملهاة أم تراجيديا؟ أيقوم بتصويرها الممثلون أم المتفرجون أنفسهم؟ ولماذا قَدَر البطلِ الموت, وفي الغالب غدرا ؟ أهو احتياج جمالي تستدعيه سادية غائرة في أعماق المشاهدين؟ إذ لماذا يصفقون في النهاية دائما؟ ألأن هناك من قام بفعل القتل ولو على شكل لعبة بدلا منهم؟ وأين يذهب الممثلون بعد إسدال الستارة؟ ولماذا لا نستطيع تعديل النص طالما أن كاتبه لم يهبط علينا بمركبة من القمر؟ ومن هو البائس الذي يقوم بتنظيف الخشبة من الدم المستعار؟ أهو ممثل فاشل يحمل داخله روح فنان؟ وهل يتأمل خشبة المسرح بعد ذهاب الجميع: السكونَ والصمت والظلام المخيم والمصائر, ويسمع دبيب حشرات الليل تخرج من مخابئها لتقيم مسرحيتها الخاصة من غير متفرجين؟ من هو ذلك المسكين, حارس البناية هو أم مسيح تعثّر في زمان ومكان ليسا له فارتضى في خيبته مهنة التنظيف؟ المتفرجون ذهبوا للنوم متثائبين بعد أن أغرقوا خشبة دماغهم بدم بديل, دمٍ خيالي! لكن أحدا لم يخطر في خياله ما يدور في تأملات عامل النظافة - مسيحِ المسرح المعتم!

ارتمي الشاعر في نوبة جنونه على عنق حصان يلهبه صاحبه بالسياط في الشارع لأن تاريخ العالم عار. لأن الإنسان لم يصل بعد إلى طهارة الحيوان, ولأن الممثلين لا يحسنون أداء أدوارهم. لأن العالم يصغُر وتكبُر حدبته. لأن صغار الناس أصبحوا سادة الأرض وتعود بهم دوما عجلة سامسارا. لأن روح الله في الفجر لم تعد تُحس والصرخة لم تعد تسمع. فأيهما, تخيّر الموت أم الجنون؟
لا وقفة على الجسر لحساب المسافة بين الما وراء والما أمام. بين الهنا والهناك. بين الهوة تحت القدم وبين سلم ضوء الصعود. ليس سوى دم على حدبة المعبر, وصرخة زارادشت تضرب في أصداغ الجبل.
ربان السفينة فقد بوصلة روحه فكيف مسار السفينة والأرضُ تميد وجبال الحنطة تحترق ونوارس الله لم تعد لها صارية آمنة تحط عليها! المدُ عالٍ وكرة الحديد تتدحرج إلى قاع الجحيم، فمن يحمل حجر سيزيف ويصعد ليواسي زارادشت في صقيع عزلته!
لا تملك العين غير نداها الساخن تشفق به على العنق والحجرِ والهاوية, على لحدٍ صغير يحتضن الحرفَ الكلمة الآية, الفمَ الوردي المفتوح على حلمة الأرض الباردة. فليشرب كل يهوذات الدنيا أكواب حليبهم الدافئة, ولينشط تجار الموت في أعمالهم , فهذه الأرض مقتولة ٌوالوقت موسمهم.
هل لأضرحة القديسين قداسة بجانب لحد صغير امتزج فيه الدم باللبن؟ إذن فلنقم للأرض ضريحا أو صليبا بحجم الكون ونعلن على أنفسنا الحداد، فكرة الحديد تتدحرج إلى الهاوية, وهيرودس في شرفته يشرب كوب العصير.
انظر ياهوراشيو! هل رأيته؟ الشبح, إنني أراه الآن, خيال الطفل المذبوح يتحرك على الحائط. إنه غامض في صمته وفي معجزة جسده الجميل. فمه الدقيق مغلق، لكن لا يبدو من نظرته أنه يعرف معنى الثأر, انظر جيدا ياهوراشيو, أرى طيف أمه في عينه الصافية, يخيل لي أنه جاء ليطمئن عليها أو ليهمس لها في لوعة أحلامِها بأسرار الحبل السري, أو ليخبرها أن الله حزين. آه، ما أحقر مصيرنا يا هوراشيو, إن العالم عميق وأعمق منه أوجاع الإنسان.
لا تملك العين غير نداها الساخن ترطب به مستطيل رمادها, وتبارك به لحد الأرض النازفة!

يوسف ليمود








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مت فى 10 أيام.. قصة زواج الفنان أحمد عبد الوهاب من ابنة صبحى


.. الفنانة ميار الببلاوي تنهار خلال بث مباشر بعد اتهامات داعية




.. كلمة -وقفة-.. زلة لسان جديدة لبايدن على المسرح


.. شارك فى فيلم عن الفروسية فى مصر حكايات الفارس أحمد السقا 1




.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا