الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تلك اليد

الهام ملهبي

2009 / 1 / 17
الادب والفن


طوال طريق عودته من العمل ، كان صدى الصوت يتردد شديدا في ذهنه ، لا تريد تلك العبارة العنيدة أن تفارق مسمعه : " إذا كانت هناك يد ما تسيء إليك و أنت عاجز عن قطعها فعلى الأقل لا تقبلها" ، الكلمات تفرض نفسها بقوة في ذهنه ، يحاول طردها و تظل تحاصره . فيتذكر صورة الصديق الذي سمع منه يوما هذه الكلمات . كان يزوره باستمرار في حانوته الصغير، حيث يعمل طوال النهار و جزءا من الليل في زخرفة الأواني الفخارية و المعدنية ، كلماته كانت كلها إبداع ، لم تكن أصابعه فقط هي الفنانة ، و لكن لسانه كان يبدع ما يشبه شعرا أو غناء . كان يزوره ليتعلم منه فن الزخرفة و النقش ، و استطاع فعلا أن يتقن الصنعتين ، غير أنه لم يستطع أن يتعلم و لو القليل من الصنعة الثالثة : فن اللسان.
تذكر كيف كان يحلم دائما بالحصول على شهادة الباكالوريا . ما الذي كان سيفعله بهذه الشهادة ؟ ربما دخل بها الجامعة ، ربما استطاع أن يجد عملا آخر أفضل من عمله في مصنع الأواني ، و ربما لم يستطع أن يفعل بها شيئا ، و لكنه كان حلما لم يستطع تحقيقة مثل الكثير من الأحلام الأخرى.
أثناء هروبه من التفكير في الجملة التي تتردد في ذهنه ، تذكر يد المدير مساء هذا اليوم حين ارتفعت في وجهه تريد لطمه .
طرق الباب بهدوء و دخل إلى مكتب المدير مطأطأ الرأس :
ـ هل طلبتني سيدي ؟
ـ نعم . من تظن نفسك ؟ لماذا لا تزخرف الأواني بحسب التصاميم التي نعطيها لجميع العمال ؟
أجابه بنفس النبرة المنخفضة و الرأس المطأطأ :
ـ لا أعرف سيدي ، يدي وحدها تزخرف و تنقش بعيدا عن إرادتي ؟
ـ مالي أنا و مال يدك ؟ نحن نستأجر هنا مصممين لوضع هذه التصاميم . و أظنك تعرف أننا لا ندفع لهم أجرتهم مجانا كي نترك ليدك الحرية الكاملة في التصرف .
ـ و لكنني فنان يا سيدي ، و يجب أن أمتلك بعض الحرية في الإبداع .
صاح المدير فجأة في وجهه :
ـ إخرس !
و ارتفعت يده عاليا تريد صفعه ، كانت يدا قوية و كبيرة برغم نعومة الجلد الذي يكسوها . وقف هو ينظر إليها بخوف و صمت و كأنها جزء مقدس من هذا العالم يستحق التبجيل .
ـ لم يبق سوى لعامل حقير مثلك أن يتفلسف . انصرف من أمامي الآن ، و مرة أخرى إذا كررت نفس الخطأ لن تدخل المصنع أبدا .
انصرف بصمت . و بعد خروجه من العمل فضل أن يعود راجلا إلى البيت ، لم يرد أن يركب الشاحنة مع زملائه حتى لا يسألوه عن السبب الذي جعل المدير يستدعيه إلى مكتبه .
أثناء سيره كانت تلك اليد تتبعه أينما اتجه ، فاكتشف أنها ليست أول مرة يراها فيها . صحيح أنها تختلف من مرة لأخرى : مرة تكون سمراء متسخة ، و مرة بيضاء نظيفة ، و مرة خشنة ، و لكنها تظل نفسها ، هو متأكد أنها نفس اليد.
هي نفسها اليد التي ارتفعت أمام وجهه حين دخل عليه أبوه الغرفة و وجده يقبل صورة امرأة في مجلة مصورة ، هي نفسها اليد التي كانت تضربه على قفاه حين كان يضع يده اليسرى في طبق الطعام ، هي نفسها اليد التي صفعته حين وجده معلمه يكتب أشعارا للمتنبي في الصفحة الأخيرة من كتاب الإسلاميات ، هي نفسها اليد التي صفعته بشدة ذلك اليوم حين كان سهرانا مع أصدقاءه في حانوت صغير بالسوق ، كان أصدقاءه يدخنون الحشيش و لم يكن يشاركهم ، كان فقط يفضل التسامر معهم . انسحب بهدوء من السهرة ، و بمجرد ما خطا خطوتين تفاجأ بسيارة الشرطة أمامه ، فصاح به شرطي :
ـ ما الذي كنت تفعله هناك ؟
ـ كنت مع اصدقائي ......
فارتفعت يد ضخمة و صفعته بشدة حتى اختلطت عليه الألوان .
ـ تدخن حشيشا يا ابن الكلبة ؟
فركض مذعورا و لم يتوقف حتى باب منزله .
يوم سمع أول مرة تلك الكلمات من صديقه النقاش : " إذا كانت هناك يد ما تسيء إليك و أنت عاجز عن قطعها فعلى الأقل لا تقبلها" ، فكر مليا ، و لماذا لا أقطعها ؟ فتخيل أن لون الدم سيكون مقرفا عندما سينفر منها . و لكن كيف يستطيع قطعها ؟ إنها يد متعددة ، جذورها ضاربة في الأرض ، إن قطعها ستنبت من جديد . قادرة هي و قوية ، تستطيع التشكل باستمرار دون أن تتغير .
غير قادر على قطعها ، و لكنه أيضا غير قادر على ألا يقبلها و يطأطئ أمامها . تصيبه بالرعب و الإرتباك كلما رآها ، و لا يستطيع سوى الركوع و الصمت . سمع في صغره حكايات عن عفريت إذا قطع رأسه ينبت له من جديد و يحيا ، و لكنه لم يسمع عن هذه اليد . لم يقرأ يوما عن أسطورة اسمها اليد ، يد تشبه يديه فعلا ، و لكنها ليست مثلهما . بها خمسة أصابع ، و لكن قوتها تفوق خمسة فيالق أو خمسة جيوش .
حمل سترته و اتجه صوب الباب يريد الخروج ، فركضت زوجته باتجاهه :
ـ إلى أين تذهب ؟
ـ و ما شأنك أنت ؟
ـ أسألك لأنني خائفة عليك ، أعرف أنك ستذهب عند أصدقائك الحشاشين.
ـ و من أنت لتنصحيني بهذا الشكل ؟
فرفع يده عاليا يريد لطمها ، و لكنه أرجعها في آخر لحظة و فتح الباب و انصرف . في طريقه صادف طفلين يشحذان أما المسجد ، كلما أعطاهم شخص صدقة يمسكان يده و يقبلانها أكثر من مرة . اقترب منهما ، فركض احدهما باتجاهه يطلب صدقة ، فرفع هو يده عاليا و لطمه بقوة صارخا :
ـ لماذا تقبلون الأيادي ؟
وقف متسمرا ينظر إلى يده . اكتشف فجأة أنه يملك نفس اليد ، نفس اليد التي سقته العذاب لسنوات ، نفس اليد التي حيره وجودها دائما . رآها قبل قليل عندما ارتفعت في وجه زوجته تريد لطمها ، و لكنه لم يصدق . الآن أصبح متأكدا أنه يراها أمامه ، مغرورة فخورة بإنجازها . فطرقت في رأسه مطرقة حادة ، و سمع صوت صديقه النقاش :
ـ و لكنك لم تستعملها إلا في وجه من هم أضعف منك.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مت فى 10 أيام.. قصة زواج الفنان أحمد عبد الوهاب من ابنة صبحى


.. الفنانة ميار الببلاوي تنهار خلال بث مباشر بعد اتهامات داعية




.. كلمة -وقفة-.. زلة لسان جديدة لبايدن على المسرح


.. شارك فى فيلم عن الفروسية فى مصر حكايات الفارس أحمد السقا 1




.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا