الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عن الواقعية السياسية

عبدالمنعم الاعسم

2009 / 1 / 17
مواضيع وابحاث سياسية



دائما، حين يجري الحديث الناشط عن ضرورة اعتماد الواقعية السياسية، فان الدعوة لا بد ان تكون مسبوقة باحتقان سياسي واجتماعي لا حل له بالقوة او بالاساليب "الثورية" الانقلابية، او بتصفية الآخر.. وهذا ما يحدث عندنا، وما يملي الحاجة الى واقعية سياسية تؤثث الصراع بالحكمة.. حكمة النظر الى الواقع، تحليله وتغييرة، لا حكمة نكران الواقع.
تقول الواقعية السياسية، بوجيز الكلام، ان الحقيقة لا تظهر في شكل واحد، وليس لها، او عليها وصي، وان الصحيح الآن قد يتحول الى خطأ في آنٍ آخر، والمرذول في هذا الوقت قد يصبح مقبولا في وقت ما، وعكس الشئ واردٌ، وليس ثمة سقف، او حدّ، او مدى للاحتمالات، ومن ينظر الى الحقائق على انها ثابتة كمن ينظر من قعر بئر سحيق الى رقعة من الفضاء فيظن انها السماء.
والواقعية السياسية قد تكون مُرة، مرارة العلقم، او تكون حلوة حلاوة الشهد، وقد تستعين بحكمة جبان او فروسية شجاع لكي تصل الى غايتها، وفي (زهر الآداب) للحصري القيرواني حكاية تفيد في هذا المقام، إذ اتى قومٌ شيخا لهم قد اربى على الثمانين، فقالوا: ان عدونا سرق مواشينا، فماذا تشر علينا "بما ندرك به الثار وننفي به العار؟". فقال الشيخ: الضعف فسخ همّتي، ونكث إبرام عزيمتي، ولكن، عليكم باستشارة الشجعان من ذوي العزم، والجبناء من ذوي الحزم، فان الجبان لا يبخل برأي يقي مهجكم، والشجاع لا يبخل براي يشيّد ذكركم، ثم اخلصوا الرأي بنتيجة تبعد عنكم عار الجبناء وتهور الشجعان "فاذا نجم الرايُ على هذا كان أنفذ على عدوكم من السهم الصائب والحسام القاضب".
والواقعية السياسية عملية توفيق كيميائية بين متنافرات على ضوء ما هو معلوم، وبمعنى ما، لا تستقيم الواقعية السياسية مع الفرضيات المجردة، ولا مع غير المعلوم، علما بان الحكمة– يقول الفخر الرازي- "عبارة عن العمل بالعلم، فكل من اوتي العمل بالعلم فقد اوتي الحكمة.. اي العمل على وفق المعلوم" فان المعلوم الذي يرى بالعين المجردة ويرصد بالعقل هو اثاث الواقعية السياسية وهو مدخلها الى تأويل الاحداث وتفسير الصراعات وتقويم الافكار.
والواقعية السياسية ضد الجهل، لأنها توظف المعرفة في كشف اسرار الواقع واتجاهاته، لكي تضع مسار الحركة المطلوبة، والمقترحة، ونحتاج هنا الى التوقف عن اصناف الجهل، كما لخصها هادي العلوي عن الفلاسفة المسلمين الطليعيين بقوله: "الجهل نوعان: بسيط ومركب. الاول هو ان لا تعرف شيئا، والثاني، هو ان تعرف شيئا على وجه الخطأ. والمركّب افضل من البسيط، لأن معرفة شئ على وجه الخطأ افضل من عدم معرفة اي شئ".
الواقعية السياسية ليست مطلوبة لانها تأخذ بقاربنا الى استراحة المراجعة، فقط، بل انها ايضا ضرورية لحاجتنا الى الحاق الهزيمة بثقافة الشعارات الانشائية.
فليس ثمة خصومة مع الواقعية السياسية اكثر من الشعارات الانشائية. الاولى ميدانها ومطبخها الواقع، والثانية تحلق في الوهم وتتمترس به. الاولى تلزم المرونة وتلتزم احترام خصوصيات الراهن، فيما الثانية تهرب الى التشدد والعناد. الاولى تستعد للعطاء، والثانية لا تعطي شيئا، لانها لا تملك ما يمكن ان يُعطى.
في الظرف العراقي الحساس، ما احوجنا الى الواقعية السياسية، وقبل ذلك، ما احوجنا الى ثقافة تكشف عن حقائق الواقع وتصنع منها حشوة للسياسة، وبمعنى ما، فاننا من خلال تطبيقات الواقعية السياسية نستاصل بؤر التوتر بين الحافات المذهبية والقومية ونكيف انفسنا للتعايش مع الاختلافات والتنوع وصراع المصالح، ومن الطبيعي القول بان اشاعة منهج الواقعية السياسية في مفاصل العملية السياسية يتوقف، الى حد كبير، على قناعة سلطة القرار والحلقة التي تدير ماكنة الدولة الجديدة بجدوى هذا المنهج، وايضا في حسن تطبيق لوازمه على استحقاقات المرحلة.
فان الواقعية السياسية، واحدة من ممهدات السلم الاهلي في مجتمع متخاصم مع نفسه، فوق انه ضحية لعسف نظام شمولي فردي، فمن دون منهج يستوعب خصوصيات الواقع العراقي وينمي ويرتقي بايجابيات وعناصر هذا الواقع الى مسار البناء والتغيير فانه يتعذر رؤية نهاية قريبة للدوامة الامنية والاجتماعية والسياسية التي يمر بها العراق، ومن هنا فان الواقعية السياسية لا تراهن على الصدف، ولا ترجئ القرارات الصائبة بانتظار المعجزة.
ولعل الخطوة الاكثر اهمية على طريق التغيير، وهو الهدف المعلن للعملية السياسية في العراق، تتمثل في التخلي عن السياسات التي اصطدمت بالواقع، واثبتت الحياة عقمها وفشلها، وبين ايدينا سجل طويل من تلك السياسات الفاشلة والعقيمة، في المجال الاقتصادي وفي مجالات اعادة البناء، اخذا بالاعتبار حقيقة ان مراجعة الحصائل والنتائج تدخل في صلب الواقعية السياسية التي تعني، في ما تعنيه، تصويب القرارات والخطط وترشيد السياسات العامة بما يضمن نجاحها.
وفي التطبيق، لابد ان من البحث عن افضل السبل لتوسيع قاعدة المشاركة في تقرير مصائر البلاد والشعب، بل ولتعميق مفهوم المشاركة لتصبح حقا بدل ان تكون منّة من سلطة القرار، وهذا، في نهاية المطاف، هو جوهر الواقعية السياسية.
يردد العراقيون، دائما وبعفوية: "علينا ان نعترف في الواقع" وهي الغرسة الثقافية التي علينا رعايتها لتورق سياسات نركب في زوارقها الى ضفاف السلامة.
ـــــــــــــــ
كلام مفيد:
" عندما تلتقي السياسة والعناد إقرأ على البلد السلام".
نجيب مخفوظ








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. معركة رفح.. إسرائيل تتحدث عن خيارات بديلة لهزيمة حماس | #غرف


.. العلاقة بين الولايات المتحدة وإيران.. عقبات -لوجستية- و-سياس




.. قصص ومعاناة يرويها أهالي منطقتي خزاعة وعبسان الكبيرة بسبب تو


.. شهداء غزة من الأطفال يفوقون نظراءهم الذين قضوا في حروب العال




.. نتنياهو: قمت بكل ما في وسعي لإضعاف قوة حماس العسكرية وقضينا