الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الجنين

علي زين الدين

2009 / 1 / 23
الادب والفن



كانت السيارة تنهب الطريق مسرعة، وإلى جانبي كانت مريم وهي المستيقظة قبل قليل، تفتح عيناها بتثاقل نعاس الصباح الجميل..اراحت راسها على كتفي واسهمت مطرقة في مكان ما.. خارج السيارة. في الناحية الاخرى قافلة عسكرية معادية تسير بالاتجاه المعاكس وسط قرقعة الجنازير، غيمة كبيرة من الغبار المشبع بندى الصباح إرتفعت بتثاقل وبقيت لثقلها على مستوى منخفض مما حجب الرؤية أمامنا. عندما تجاوزتنا الآلية الأولى إستيقظت مريم فجأة، وقد تملكها الذعر والارتباك، رفعت راسها عن كتفي.. فتحت عينيها الى أقصى إتساعهما.. مصوبة نظراتها الحادة والغاضبة نحوهم، هؤلاء:"الساقطون من الجنس البشري"، كما كتبت في مذكراتها. وبحركة لا شعورية تلمست بكلتا يديها بطنها المنتفخ، ثم ما لبثت أن ارخت عضلات وجهها التي إنكمشت لبعض الوقت، بعد أن إطمأنت إلى جنينها.
عندما بدأ "الإجتياح" أجهض رعب القصف المجنون على "المدينة الرياضية" جنينها الأول. يومها حدثتني جادة، أنها: "إذا ما بقيت طيبة بس تخلص الحرب، راح قدم شكوى إلى كل من يهمه الأمر ضد هالـ (برميل) اللي سأطني ودمر بيتي". وعندما حضرت لجنة لتقصي الحقائق حول جرائم "الجيش الاسرائيلي" أثناء "الاجتياح"، أضافت في شكواها:"مع أني لا اني، ولا اللي كان ببطني، أوصنا على السفير بلندن، ولا هددنا "أمن الجليل" بصواريخ "الكراد". وحين عادها نفر من الصديقات والاصدقاء من الذين بقوا داخل دائرة الحصار والموت، قالت:"مش مهم طالما انو فيي رحم راح ولد. ثم تطلعت بي:"جوزي بعدو شب وبصحتو".
أن تصبح أما، كان ذلك أعز أمنياتها:"حتى يصير معنى لوجودي" كما كانت تردد دائما. دعيت مرة لحضور ندوة نسائية موضوعها( تحديد النسل)، وكأنها لم تطق صبرا حتى تنتهي المحاضـِرة، هتفت مقاطعة بإحتجاج شديد:"تحديد النسل.. تحديد النسل. كأنو ما فيه شي بيشغل بال المرا الا هالموضوع؟. ما بدك نخلف ولاد؟ منيح. بس ليش عندي رحم؟؟مثلك ومتلنا كلنا؟؟ بس علشان نتصنف اننا من الجنس البشري اللي بلا حظ؟ والاكثر شقا؟ للشغل والكد؟؟ شو انتي مفكري انو ما كان فيه امكانية انو البشر يتعذبوا وهني من جنس واحد؟؟".
حدجتها السيدة المحاضـِرة، ذات الشعر الأحمر المزين والمصفف بعناية، وقالت بنبرة مثقفة متعالية:"لم أنتهِ بعد". "ولكنك مش عم تحكي منيح". تطلعت النساء المحتشدات في القاعة بإنشداه حين تكلمت تلك السيدة الانيقة المزينة شعرها بعناية بصوت عال وحازم لتحسم نقاشا لم تتوقعه ارستقراطيتها:" تبا لك ولأمثالك، انكن تلدن كالأرانب". ردت مريم من فورتها:"ومين آل لك اننا أرانب، لا يا ست انتي غلطاني، مش راح نكون الا بشر. انا إلت أنك عم تبالغي وعم تشوفي الأمر بعين غير واقعية. نحن مناش هون في مكان آخر عايش بالامن والحرية والطمأنينة. والله مش حاسي بأنو عندنا حرب؟؟!! الولد أو التنين مابيكفوا لأنن ممكن ما يعيشوا، وممكن الحرب تخطف اعمارهن على بكير مثل ما بيحصل كل يوم. الغريب انك تحكي عن تحديد النسل بوأت حرب (إسرائيل) علينا عم تبيدنا!!. بعدين كلامك عن تحديد النسل كان راح يئنعني انو الاغنياء ما عندهن اولاد!".
كانت تخوض حربها الشخصية ضد شارون وعلى طريقتها:"انت بتحملوا بواريد للحرب ضد شارون وانا بحمل ولاد، هاي طريئتي بالحرب". قالت لابن الجيران المقاتل ذات صباح اثناء الحصار.
لسبب ما بدا لي، أنا الجالس إلى جانبها على المقعد الخلفي لسيارة الاجرة التي تقلنا، وأنا من لم تذق عياني طعم النوم منذ البارحة، بدا لي ان الطريق طويل جدا. أغمضت عيني وأسندت رأسي إلى هيكل السيارة، محاولا الإغفاء قليلا على وقع دبيب محركها..وفجأة طرقت اذني أصوات طلقات .. ثم دوى إنفجار حاد، تبعه آخر تلته رشقات طويلة من عدة رشاشات.. ليهدأ كل شيء فجأة كما بدأ. "الهيئة انو كمين للمقاومة" هكذا أجاب سائق السيارة المحاذية الشاب على سؤال سائق (سيارتنا)، وأشار بيده حيث مكان "العملية" تحديدا.
أدى تدافع السيارات الى عرقلة السير بالاتجاهين!!.. فالكل، عدا عن أنه يتصارع مع الزمن قبل الازدحام عند الحواجز، سارع أكثر وأغدق على محرك سيارته كميات إضافية من البنزين.. بدافع الخوف من الرصاص الذي راح يطلقه "الاسرائيليون" المرعوبون. كانوا يطلقون النار عشوائيا باتجاه المارة والمنازل والسيارات من كل صوب.
حين حاذت السيارة التي تقلنا آليات العدو، أمكننا مشاهدة ما جرى.. آليتان إنحرفتا عن الطريق.. إحداهما إحترقت كليا، من لم يصب من الجنود كانوا يدورون حول انفسهم كمن يبحثون عن عقولهم...
وعلى مقربة شاهدناه..
...كان منطرحا أرضا إلى جانب الطرق... غير بعيد عن جنود العدو، والدم ينزف من من مكانين في جسده.. وكان يزحف نحو الطريق مندفعا، رغم جراحه، بحيوية سنواته العشرون.
وبدون وعي تصرخ مريم بالسائق:"وقاف. خلينا نحملو ونوصلوا على بيروت.. اذا تركناه راح يعتئلوه ويمكن يقتلوه". وكمن يخاطب بلهاء، صرخ السائق:"شو انتي مجنونة؟؟بدك (الاسرائيليي) يموتونا؟؟ شو مش شايفي هالخنزير وين واقف؟". قال ذلك واشار بيده الى جندي(اسرائيلي) يقف على سطح مبنى محاذي للطريق، مصوبا بندقيته تجاهنا.
في داخل السيارة المندفعة نحو النبطية، راحت تنتحب كطفل:"عار علينا نتركوا لئدروا وهوي بطل عم يـْآتـِل عدوينا ". امسكت راسها ضممته الى صدري بيدي الاثنتين:"هذه هي الحرب لا تخافي سيأتي من ينقذه". قلت لها ذلك، لاهدئ من روعها ومن روعي انا ايضا قلقا عليه. "إحميه يارب" قالت متمتمة وهي تمسح انفها وعينيها.
في اليوم التالي، وحين عدنا الى بيروت، أحسست أنها تريد أن تقول لي شيئا لكنها لم تفعل, الا انها قررت فجاة البوح لي:"عارف شو بدي خبرك؟" قلت لها:"صارلك ساعة بدك تحكي شي ومش عم تحكي"؟. "إنه موجود في بيروت سالم معافى". قالتها والفرحة تغمر وجهها. "مين؟". سالتها ببلاهة. "الجريح اللي شفناه بـ - وادي الزينة - اول مبارح". "انه بطل". تمتمت فرحا انا الآخر. "لا.. لا.. انهم ابطال". قالت.

بيروت 10/4/1983








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مهندس الكلمة.. محطات في حياة الأمير الشاعر الراحل بدر بن عبد


.. كيف نجح الأمير الشاعر بدر بن عبدالمحسن طوال نصف قرن في تخليد




.. عمرو يوسف: أحمد فهمي قدم شخصيته بشكل مميز واتمني يشارك في ا


.. رحيل -مهندس الكلمة-.. الشاعر السعودي الأمير بدر بن عبد المحس




.. وفاة الأمير والشاعر بدر بن عبد المحسن عن عمر ناهز الـ 75 عام