الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


خطوط عرض بغداد

علي عبد السادة

2009 / 1 / 25
الادب والفن


مثلما للأرض، لبغداد، أيضا، تدوير هندسي يحتضن ملايين الدوائر الصغيرة؛ دوائر حياة يبعد قطرها عن المركز، الإنسان، عصا البصيرة أينما تلاشت. ومثلما للأرض، لبغداد، أيضا، خطوط عرض تطرز وجه المدينة بنسق عمراني فريد، يكاد الخط الواحد فيه أن يكون قاسما يشرك صغار الدوائر تلك بالمرور عوالم ومجتمعات.وخلافا للأرض، حيث خطوط العرض رسوم وهمية يصنعها الجغرافيون والفلكيون لمراقبة ظواهر الكوكب الفريد. فإنها، أي الخطوط، في بغداد، أخاديد عملاقة تغور في أحشاء المدينة، وعلى جانبيها تستلقي حيوات صنعتها دوائر الآدميين. لا يمكن لغير البغدادي أن يعرف كيف تنشأ مجتمعات حية من صوت الفقراء ورائحة طابوق عتيق..هكذا تلد خطوط العرض ثنائية الصوت والرائحة على جانبيها.
وبين خطي عرض تنحصر الفضل والحيدرخانه، أنهما ثنائيتان متضادتان، وربما عليك الوقوف في شارع الجمهورية، خط عرض الحياد بين الأضداد، لتتمكن من مشاهدة تصادم الدوائر الصغيرة، وما تخلقه خطوط العرض من نواتات صراع الثقافات المختلفة.
(1)
يسكن (الاسطة علي) حي الفضل، فوق علبة زيت نحاسية فارغة مقلوبة على وجهها، قرب بوابة محله لصناعة الشبابيك. نعم..فهو، مع جرس أباريق الصباح حتى وقع أقدام الدوارة في المساء، يجلس على العلبة ذاتها يراقب صٌناعِه الصِغار، مرتديا زي عمل متسخ، وفي جواره قدح شاي كبير. ومازال ثقب، صنعته أعقاب السكائر، علامة فمه الفارقة. ورغم انه رجل غزير العلامات الجسدية، فهو أصلع قصير ببطن مندفع نحو الأمام كثيرا وانف كبير، لكن السكان الذين يمرون عليه صباحا يحيونه بالقول: (شلونك اسطه أبو جكارة). وابو جكارة ملتهب المزاج، عصبي، حاد الطباع. كان اذا زمجر في وجه صبية الحي وهم يلهون بعدده المتناثرة على الرصيف، ولوا فزعا من عصف صوته، حتى انهم يتعثرون بأقدام بعضهم البعض؛ الاسرع منهم يلوذ بالهزيمة، ومن يسقط ينال عقاب ابو جكارة: عصا الخيزران تنزل، نارا، على مؤخرات الصغار.
لكنه (انعم من الدخن) كلما بزغت عباءة احداهن وهي تطل على الزقاق. تجحظ عيناه على الفور، يسيل لعابه على ذقنه الكثيف. ثم ينهض وهو يسحب قميصه وينفض بنطاله، عبثا، من دهان العمل الاسود. تقترب فيطل عليها، حانيا رقبته صوب وجهها، ويهمس لها:( هذا الحلو منين). وبينما يصادف ان اعترض طريق شابة تربصت له بعصا تحت ثوبها، كان الصبية يتذكرون ألم مؤخراتهم عندما شاهدوا جلادهم ينحني لضربات بنت الجيران وهي تنزل عصاها على ظهره. لم يفعل شيئا، سوى انه استدار نحو محله وصاح في صبيانه: (شنو هذا الكسل كوموا أشتغلوا(. في نهاية يوم العمل، يجعل صبيانه يقفون في طابور حضرة يده وهي تمسك بدنانير الاجرة، يبحث لكل منهم عن ذريعة لخصم ربعها او حتى نصفها، لا يجرؤ احد منهم على مجادلته؛ النتيجة ستكون العودة الى المنزل بخفي جيب فارغ.
لكن (ابو جكارة) لا يجعل الامور تصل الى هذا الحد. يخصم مايريد ويبقي لهم ما يريد.المهم في يوم العمل بالنسبة للرجل، ان ينتهي في مطعم (أبو علي) في الجمهورية..انه يتلذذ البقاء فيه ساعة او اكثر يصرخ في العمال ليملأوا طاولته بالطعام.
(2)
يا انت..
متى تستيقظ القصيدة منك؟
انى لهذا الجسد ان يستريح من قيود القوافي؟
واين ستجد نفسك، بغير عينين تذرف الشعر صورا، فارغا كما الاخرين:
تفكر لتأكل، وتأكل لتنام، وتنام لتموت.متى تعيش؟
متى تموت القصيدة فيك؟
هذه هي دوامة (عبد) الصعلوك الشاعر الذي يظهر للعيان بهيئة بائع كتب في شارع المتنبي. دوامة البحث عن الذات، والاجابة عن استفهامات تعترض البصيرة وتحجبها، وربما، اصلا، البحث عن الأستفهامات نفسها. هذا البحث يتواصل ليتحول الى ادمان هو رأس مال شعره ومحاولات الالتقاء مع الروح. جاء الى الشارع ليسهل عليه تخيل ان المسافة، مسافة الوصول الى الاجابات - الاسئلة، باتت قصيرة. لكنه مازال في المربع الاول. الشارع لوحده دوامة اخرى.
ـ بكم هذا الكتاب؟
ـ لماذا تريد أقتنائه..عن ماذا تبحث؟
ـ ما علاقتك انت؟، اخبرني بسعره لأشتريه.
ـ السعر غير مهم، دعني احدثك عن فائدة هذا الكتاب: يوصف فرانز كافكا برائد الكتابة المأساوية، انه يعتبر الادب فرارا من الواقع، و..... انتظر..انتظر سابيعك، لا يهمك ما يقوله الكاتب فليذهب كافكا الى الجحيم.بينما يترك الزبون (بسطة) عبد، يقترب احد بائعي الكتب، كان يراقب طريقة ترويج الشاعر لكتبه:
ـ ستموت من الجوع في هذا الشارع، لن تبيع كتابا واحدا في الشهر.
ـ وانت ستموت من الجهل في شارع سيلفظك الى ساحة الميدان في يوم من الأيام.
لولا سويعات الخلوة مع نزوات الكتابة الأبدية، لكان عبد ضحية دوامته، تخيلات ان الشارع في منأى عنها تغذي روحه المتهرئة صبرا جديدا، ووقتا أضافيا قبل أن تأتي الدوامة من جديد. لذلك لا تعني له شيئا دنانير الكتب سوى تلك التي توفر له ورق كتابة، ووجبة طعام وحيدة في اليوم..انه مواظب على تناول حساء رخيص في مطعم (أبو علي) في شارع الجمهورية.
(3)
في وقت متأخر من ذلك المساء، كان (الاسطه علي) قد اجهز على زوجته بخيزرانته، انتفخ جسدها بالكدمات وهي تهمس لنفسها :" كل هذا لأنني سألته البقاء يوما أخر معي قبل أن يذهب إلى زوجته الصغيرة الثانية..لا ربما لأنني طلبت منه ان ياخذ حماما ساخنا ليغير لون بشرته من سخام الحدادة الى سماره المضمر، لا أعرف سبب ضرباته". الاسطة علي ينقض على مائدة دسمة. وما أن انتهى حتى دعا المسكينة إلى الفراش
(4)
في وقت متأخر من ذلك المساء، يتكئ (عبد) على عمود في الرشيد، كان اجهز على ثلاث علب سكائر رخيصة، وعشرات الأوراق التي انتهت ممزقة، سلبها الرشيد بعاصفة شتوية. كيف تعالج نفسك من نفسك؟.
كابوس الخصوبة يلاحقك: كم مرة تموت عندما تراقب بوابة المدارس وهي تزدحم بالصغار؟
حلم القصيدة. تلاحقه. تلهث وراءه:كم مرة تعيش عندما تولد الصورة؟هل وجدت حلا لمشكلتك؟: أن تجعل القصائد تقرأ على قبرك تراتيل الرحيل في جمعة النجف....نم، عمود الرشيدوسادة الصعاليك على أمل أن تبيع كتاب كافكا غدا.
(5)
اشعر بالتعب والجوع واليأس والفراغ..حتى إنني لا اعرف، حال أفرغ من هذا الحساء، ما الذي سأفعله؟ أين سأذهب.. لا أحد
لا مكان
لا أنا
مطعم أبو علي مزدحم إلا مني، عدميتي لا تشكل فارقا في فوضى المعالق وهسيس المضغ الحيواني، الكرسي الذي اجلس عليه صفر على شمال الطاولات، وثمن الحساء سيوفر لصاحب المطعم علبة أعواد تنظيف الأسنان. هكذا لا أشكل فرقا.
لو لم أكن هنا على هذه الطاولة، سأموت من الجوع، لكن الآخرين بامكانهم الاستغناء عن تنظيف أسنانهم.
(6)
يدخل الاسطه علي، فينهض له صاحب المطعم، يرافقه إلى الطاولة حيث اجلس. يرحب به فينادي بالعمال لرعايته وتلبية طلباته المعتادة. دقائق وامتلأت المائدة بما لذ وطاب. بينما أنا أتناول جوعي فأشبع، قبل إن يأتي حسائي الرخيص.
(7)
-(الاستاد منين، وين يشتغل)
- أنا بائع كتب
ضحك الاسطة علي ساخرا :
ـ( ليش، يا غبي بهذا الزمان يبذر فلوسه على الكتب)؟
لا يبدو انه الرجل المناسب لأجالسه في لحظة مهمة وفريدة في الحياة لا تتكرر سوى مرة واحدة في النهار، هنا في مطعم أبو علي.
انه فظ لدرجة انه سيشاركني حسائي رغم مائدته الغزيرة..صحيح..
أين سيضع النادل صحن الحساء؟، لا يوجد مكان يتسع له على الطاولة. انظر إليه يا عبد.. يده تدور، سريعا كما هو فمه، على كل الاواني".
)-وأنت شنو شغلك)
) -أني حداد بالفضل)
(8)
احد الأصدقاء اعترف أخيرا بأنه مهمل لبيته، لقد افرغ خزانة الملابس ليضع كتبه فيها، وانه يزور المتنبي أكثر من عدد مرات زيارته لفراش الزوجية في الأسبوع الواحد..كما إن شباك بيته بحاجة إلى تصليح، وكلما قادته السيارة إلى الفضل ليذهب إلى حداد هناك، طلب من السائق تغيير مساره نحو المتنبي. وشيئا فشيئا تمتلئ خزانة الملابس كتبا، ومازال الشباك مكسورا.
(9)
ـ (شنو هذا الكتاب)
ـ هذا الكتاب عن فرانز كافكا، وكافكا رائد الكتابة المأساوية، انه يعتبر الأدب فرارا من الواقع، و.....
ـ (بس ..بس..سديت شهيتي)
(10)
يا أنت..
متى يستيقظ العالم لك؟
أنى لهذا العالم أن يريحك؟
وأين ستجد نفسك، بعينين تذرف الشعر صورا، على غير حال الآخرين:
تفكر لتعيش، وتعيش لتبقى.
متى تفكر؟
متى تكتب قصيدة جديدة؟
(11)
يصاب الاسطة علي بالسمنة والسكري والروماتيزم، ومازال يسكن فوق علبة الزيت، إلا إن صبية الحي لا يلهون بعدده وحسب، بل يرمونه بها. وباتت نسوة الزقاق يمرن من إمامه بسلام.
***
خطوط العرض في بغداد لا تسمح بالتقاء طرفيها ولو في مطعم صغير عابر.









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مرضي الخَمعلي: سباقات الهجن تدعم السياحة الثقافية سواء بشكل


.. ما حقيقة اعتماد اللغة العربية في السنغال كلغة رسمية؟ ترندينغ




.. عدت سنة على رحيله.. -مصطفى درويش- الفنان ابن البلد الجدع


.. فدوى مواهب: المخرجة المصرية المعتزلة تثير الجدل بدرس عن الشي




.. الأسطى عزيز عجينة المخرج العبقري????