الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


شمعة العسل

ايناس البدران

2009 / 1 / 27
الادب والفن


بعض الرجال بلا طعم بلا ملامح بلا موقف يذكر .. مجرد هياكل خشبية مسندة مطلية لحما ، تحمل روبوتاتا مبرمجة على شيء بعينه تكرر نفسها كلعنة حتى تسقط الأقنعة الشمعية قبل أو بعد فوات الأوان .. أما النساء فهن في نظرها مجرد أزاهير ملونة بانتظار أن يقطفن ليزين عراوي البدلات الأنيقة ، وهي لا تغبط الأزهار على أية حال ، فكل ما تفعله هو أنها تذوي وتموت في صمت .
أين الابتسامة الحلوة ؟ قالها متصنعا اللطف .. أومأت برأسها محاولة رسم إبتسامة مقتضبة ، فيما كانت تبلل شفتيها بقطرات من العصير البرتقالي الحلو علها تزيل شيئا من مرارة ما مرت به ناهيك عن عذاب الانتظار وفوضى الزحام عند نقاط التفتيش ، فيما عواصف الأرتال الترابية الهجينة تعلن عن نفسها بفجاجة مستفزة عبر مصابيحها المتوهجة حتى في وضح النهار وهي تسير ( رونغ سايد ) ضاربة عرض الحائط بكل ما عداها ناهيك عن العوارض الكونكريتية الجاثمة على صدور الطرقات التي أحالت واسعها ضيقا وغايتها وسيلة للتعذيب وبهجتها جحيما لا يطاق .
وشاء سوء الطالع أن تتعثر قدمها الخجلى عند أول سلمة مفضية الى القاعة المخصصة للحفلات ، وبدلا من أن يأخذ بيدها ليقيها عثرتها جز على أســـــنانه وقال :
عمى
أطلقت زفرة حرى فيما عيناها تتابعان الفاتنات يعلن عن أنفسهن كفراشات بين الموائد يسبقهن أريج عطورهن ورنين حليهن الغالية ، فيما الرجال لفرط أناقتهم تبدوا لها كبطاريق تعد مناقيرها لحفلة صيد !
أجالت النظر في أرجاء القاعة الفخمة بعينين أثقلهما الحزن ، ها هي الكعكة المتعددة الطبقات تتوسط القاعة كجبل جليد وعلى بعد خطوات منها سمقت شمعة العسل ، أكبر شمعة في الشورجة إنتقتها والدتها بفخر لتخطف الأبصار بوميض لهيبها المتراقص .
تذكر يوم صارحها بحبه بعد عدة لقاءات عمل ، نظر بعينيها وقال بلا مقدمات :
أحبك
في تلك اللحظة غمرتها فرحة عارمة ، وسألت وهي تكتم إبتسامتها :
أنا .. لماذا !؟
لأنك مختلفة
وكيف ذلك ؟
قال بلهجة العارف فيما عيناه تعكسان رجاء من نوع ما :
كلهن متشابهات لدرجة الملل ، تصنعهن الدلال في البداية ، تصديقهن لأي شيء ، ثم تهافتهن وغيرتهن العمياء فيما بعد .
تعني أن كل النساء صنف واحد ؟
رد بغرور : في الواقع هناك صنفان .. صنف يأتي بالكلمة الحلوة ، وهذا مفتاحه في أذنه ، والآخر مفتاحه المال ، وفي الحالين النتيجة واحدة .
أ لا يوجد صنف ثالث ؟
بلى أنت .
وضحكا.. يومها تمنت من كل قلبها أن يكون هو ، فارس أحلامها . . كل ما حولها يدعوها الى الحياة ، الثريات الباهرة الموزعة بأناقة في سقف القاعة ، البرودة المنعشة ، الموسيقى الممتزجة بخرير الماء ، وهي تحاول رسم إبتسامة للكاميرات التي كانت تحوم حولها لتسجل ليلة العمر . . لكنها تشعر بيد الحنين الى شيء مجهول تهزها ، بالدموع تحفر أخاديد في حنايا صدرها دون أن يكون لها أثر في عينيها . كلامه عن المال والمشاريع لاينقطع وهي تحرك رأسها بين الفينة والأخرى تجاوبا ، فيما عيناها تتابعان حمائم بيضاء أطلقت في فضاء القاعة بعد ربط سيقانها بأشرطة حريرية طويلة بما يكفي لسحبها عند اللزوم لأعادتها الى أقفاصها.
همست في سرها :
من منا لم يغبط الطيور ؟ .. حتى لهذه اخترعوا الخيوط والأقفاص ، وهي يوم وضعوا الأصفاد في يديها علت الزغاريد .. يومها سألته كأنما لتصل ما أنقطع بينهما من ذلك الحوار .
وماذا عنكم ؟ . . رفع حاجبيه تعجبا وسأل :
ماذا عنا ؟
كم صنفا أنتم ؟ أجابها بزهو :
كل رجل صنف بذاته
ردت عليه ببرود :
لا أظن
كانت نظرات والدتها تشويها ، وبعد خروجهم من لقاء الخطوبة ، وبختها إذ لا يليق بفتاة أن تناقش أو تبدي رأيا صريحا وإلا وصمت بالجرأة و الاسترجال .
ها هي تطل إطلالتها الأخيرة بفستانها الأبيض المشغول باللؤلؤ كسحابة صيف تائهة ككذبة بيضاء .. كملاك إحترق جناحاه فهوى مرغما على الأرض ، لتجد نفسها ككل مرة أمام خيار( هوبسن ) ، إما أن تأخذ الشيء المعروض عليك أو لاشيء . إستحضرت لحظة رمت الكلمات في وجه والدتها قائلة :
لا أريده
الأم تلطم صدرها إمعانا في إستثارة الوالد كيما ينحاز الى صفها ويحسم النقاش كالعادة لصالحها
تقولين هذا قبل أسبوع من العرس ؟ الأب بنفاد صبر :
أعطني سببا
هناك أكثر سبب .. لا توجد بيننا لغة مشتركة ، أنه لا يفهمني
وهل أنت النظرية النسبية
أبي من فضلك .. أحيانا كثيرة أجده متذبذبا غامضا كذوبا
كل الرجال .. يعمدون أحيانا .. لمثل هذا بحكم الخبرة والتمرس بدهاليز الحياة
اكتشفت أنه غير مخلص .
الأم وهي تطبطب على كتفها ..
البركة بك .. الزوجة الحكيمة هي التي تعين الرجل على نفسه بعد الزواج .
أمي أنه متسلط أناني ثم أني لا أحبه
ما هذا الكلام الفارغ ؟ .. حب ستحبينه بعد الزواج .. أنه عريس تتمناه أي بنت ، أم تريدين أن تعنسي ؟
تنهدت وهي تتساءل في سرها :
لم يخيفوننا بالعنوسة حتى لكأنها أفضع ما يمكن أن يحدث لأنثى .. آه الخوف هو ما يجدر بنا أن نخشاه .. الخوف هو ما يدفعنا للإرتماء في أحضان أسوأ كوابيسنا .
تتأمل الشمعة وهي تحترق بنارها ، وهجها يتشظى يتناثر نتفا من لهيب تلفح وجهها ، والفتاة الموكلة بقص فتيلها منشغلة بمتابعة الراقصين الفتيل يستطيل يهوي ، يلتصق بخاصرة الشمعة ، يبدأ بإلتهامها بشراهة ، الشمعة الهائلة تميل تدريجيا بنصفها العلوي لتهوي فوق الموكيت مشكلة بحيرة من شمع ذائب ملتهب ، الذهول بات سيد الموقف ، الدهشة عقدت الألسن ، الضحكات تجمدت ، إيماءات البهجة ذبلت على حين غرة في الأكف التي تحجرت .. ألنار تمسك بالدواغ والأذرع تحاول إنتزاعه لتدوسه بالأقدام .
في لحظة بعينيها بدأت ترتسم أمامها خارطة خلاصها ، لحظة قد تشكل الإنعطاف في حياتنا وكل ما بعدها يأتي مكملا ونتيجة .. لحظة تحمل في أعطافها سحر ومضة متفجرة شجاعة رافضة مفاجئة .
صوت يشق طريقه وسط الجلبة : - العروس
الأجساد تقترب منها تلتحم ترتطم تقلب المناضد والكراسي .. وكلحن يعزف على كمان وجدت نفسها تنسل من بين الصفوف بخطوات واثقة كأيقاع منتش متعاقب متسارع .. إلتفتت برأسها ناحية الجمع لتلمح بطرف عينها الدواغ يداس بالأقدام يتعفر برماده وهو يلفظ آخر أنفاس الدخان ..
اللحن يعود بتناسقات سماوية ، كلمة واحدة تخفق في رأسها مع دقات القلب المتسارعة .. الحرية .. كلمة زغردت في حنايا صدرها .. كشهقة خلاص .. كصرخة ميلاد .. الحرية ، ليست حرية من جدران ما إنفكت تطاردها ، ولا من صحبة متكلفة ، ولا من مشاعر متحولة كبلت روحها وغمت عينيها عن حقائق مرة ، لكنها الحرية المنبعثة من روح تجردت من الأقنعة لتتوج بجسارة غير آبهة بمزاجية النظرات والآراء و إزدواجيتها ولا بأي نتائج ستأتي بها الأيام .
كانت تجري كفرس برية يسبقها لهاثها المحموم متجاوزة كل العقبات .. لم يكن في مقدورها التكهن بما تخبؤه لها الأيام لكنها استشعرت داخلها قوة تتقبل كل ما سوف يحل بها بروح حرة طلقة تعوم فوق الخوف .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أمسيات شعرية- الشاعر فتحي النصري


.. فيلم السرب يقترب من حصد 7 ملايين جنيه خلال 3 أيام عرض




.. تقنيات الرواية- العتبات


.. نون النضال | جنان شحادة ودانا الشاعر وسنين أبو زيد | 2024-05




.. علي بن تميم: لجنة جائزة -البوكر- مستقلة...وللذكاء الاصطناعي