الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الحفر السيكولوجي في رواية-رجال وكلاب- لمصطفى لغتيري

هشام بن الشاوي

2009 / 1 / 27
الادب والفن



رواية "رجال وكلاب" (2007) هي أولى روايات الكاتب المغربي مصطفى لغتيري، وقد صدر له قبلها ثلاثة مجاميع قصصية، وهي: "هواجس امرأة" (2001)، "شيء من الوجل"(2004)، "مظلة في قبر"(2006)، و صدرت له هذه السنة رواية "رقصة العنكبوت" ومجموعة قصص قصيرة جدا "تسونامي".

تبدأ الرواية، والتي يمكن تصنيفها ضمن النوفيلا بإحساس السارد بأنه وحيد في هذا العالم، ومصير أي شخص كيفما كان لا يهمه، بهذا الإحساس يغذي تجاهله لحادث القبض على الجار صاحب المحل، يحس بالذنب، ويسعى للبحث عنه في مخفر الشرطة.. يتخيل السائق نفس الرجل، ويعاتبه على عدم اتصاله بعائلته.. لكنه يتوهم ذلك فقط، و عند سؤاله عن اسم الرجل في المخفر، يجيب بأنه يجهله، فيطرده الشرطي لأنه يضيع وقته، وعند عودته يفاجأ بأن الرجل في محله.

ويخاطب السارد قارئه المفترض عن وهم ذلك الصباح، ومثل هذه الحوادث تتكرر معه دائما، لدرجة أنه غير مقر سكناه، فهو يتوهم أحداثا لا تحدث إلا في مخيلته... ويحس القارئ أنه إزاء سرد سيكولوجي، وحتى السارد يعترف باطلاعه على كتب التحليل النفسي وعلم النفس، ويستحضر مصطلح "الوسواس القهري"، كأنما يشخص حالته لا شعوريا. ويورط قارئه في مهمة الإصغاء إليه، وهو ممدد على سرير طبيب نفساني، يعترف بأن المرض وراثي، فجده مات ميتة غريبة، وهو الفلاح الذي كانت له علاقة قوية بكلبه، وحين أصيب الكلب بالسعار رفض قتله أو طرده، واستمر يرعاه، بيد أن الكلب فرّ، وحزن الجد، صار يواظب على حمل الطعام إلى كوخ الكلب كل صباح، ثم بدأ يكلم نفسه كأنما يخاطب الكلب ليحثه على الأكل، ورفض مغادرة الكوخ وتمرغ في التراب، ووجدته العمة- ذات صباح- يربط نفسه بحبل الكلب، وبقيت تواظب على الاعتناء بالجد الذي صار يحبو "متماهيا مع حالته الكلبية"، تجاهلته بقية الأسرة، وأطلق عليهم لقب (بني كلبون)، وكأن لعنة الجد تطاردهم فاضطروا إلى الرحيل، لا سيما بعد أن ساءت حالة العمة، وبدأت تهيم على وجهها في الخلاء.




والسارد يقطع حبل السرد غير الخطي، ويكسر زمن الحكي غير عابئ بإيهام القارئ بواقعية الأحداث، ويتدخل مباشرة ويخاطب القارئ.. ولعل لتشذير الكتابة وغرائبية السرد ارتباط بالتداعي الحر والاستبطان الذاتي، حيث يضطر المريض النفسي إلى استحضار أحداث ووقائع غير مترابطة ولا مرتبة، وبالتالي ينتصر لغتيري لجمالية التمرد على البناء الفني الكلاسيكي للرواية.



صار الأب انطوائيا لا يكلم أحدا من زملائه في المعمل، وتفانيه في العمل جعله مقربا من رب المعمل الفاسي، و تزوج صاحبة المكنسة، العاملة التي تكنس المعمل- و هي أم السارد-، وتنشأ علاقة بينها وبين العمة المريضة، في حين اتسمت علاقتها ببقية العمات بالتوتر والنفور.. مما جعلها تلح على الأب في الاستقلال في السكن، وتهتم بالعمة التي تقطن معهما، تأخذها إلى العرافات و الأضرحة، لكن مع ولادة الابن علال- الذي يحمل اسم الجد- تتغير علاقة الأم بالعمة، تخاف عليه من عدوى المرض، و هذا ما لم يحدث مع الأخت الكبرى وهذا يدل على مكانة الابن في مجتمع ذكوري. فتم إيداعها في "بويا عمر"، رغم رفض الأسرة السابق لترك الجد هناك، لكن الكل تنصل من الاهتمام بالعمة.




ومن الحوادث التي ستخلف جراحا داخلية في أعماق السارد زيارته لبيت الجار الدجال، حريق البيت وهم نيام، وصفعات معلم اللغة العربية المرعبة، والذي بسببه ترك بعض التلاميذ الدراسة، ورغم الانغماس في الهم الذاتي لا ينسى السارد الهم العام، حيث ضغط الظروف السوسيواقتصادية، ما بعد استقلال المغرب. ويتجاوز طفولته الأليمة للحديث عن مراهقته وعلاقة المرتبكة بالأنثى، وفشله في إنشاء علاقة مع الجنس الآخر، هذه الرغبة المحبطة ستعشش في لاوعيه، يحاول تعويضه بأمل آخر سرعان ما سينكسر مخلفا جرحا إضافيا، حين يرفض الأب أن يحتفظ بجرو، فيرميه خارج البيت، و يلازمه الجرو في أحلامه، التي تغدو واحة للتنفيس عن المكبوتات، ومثل أي أوديبي يتولد في أعماقه الشعور بكراهية الأب- هذا الأب الذي يعد رمز الطابو الإنساني الأول- و تمنى موته، و الجرو بقي يزوره في أحلامه حتى أضحى كلبا ضخما.... ويتعرف على الشباب الملتحين في المسجد، وبدأ القلق يخفت، لكنه يعيش موزعا بين حياتين، حياة الشاب المتدين وحياة الأحلام، وهو غير القادر على التخلي عن الكلب والأنثى، لا سيما بعد أن عرف رأيهم في مصاحبة الكلاب. ربما قد يفهم بعض السذج أنه منافق، لكن كلمة نفاق تبدو هنا مهلهلة وفضفاضة، فالسارد يبني عالما من التوازيات، اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا وحتى نفسيا ... إذ سرعان ما سيهجر الجماعة حين افتقد الراحة النفسية، ولم يجد أي علاج عندها لما يعانيه من مشاكل نفسية و اجتماعية غير كلمة الصبر، وحتى معارفهم بدت له محدودة ومكررة الإجابات، فانغمس في القراءة وأحب الفن والفلسفة الوجودية، وتسلح بقيم جديدة، قيم تمجد الفردانية والنفعية، وتحسنت علاقته بالأنثى وتعددت علاقاته، فتولد لديه الإحساس بالحرية والاعتزاز بالنفس.

وفي عمله بالمدينة النائية صار محط أنظار زميلاته العازبات، الباحثات عن الاستقرار(نفسيا، عاطفيا، اجتماعيا)، وهي الكلمة الأنسب مادمنا أمام رواية سيكولوجية فانجذب إلى إحداهن، وصارحته بسؤاله: "ألا تفكر في الزواج؟"، فكان جوابه أنه يشعر بالقرف عند سماع هذه الكلمة، فغادرته، وبدأت تتجنبه وكذلك فعلت بقية الزميلات، وكأنه لا يريد خسران تلك الأنثى الأولى، الأم التي فقد حبها، ثم المراهقة، فعوض حبهما بالكلب، لكن رغبته انكسرت.. وأحس بالابتهاج لرد فعلهن، ولولا مرض الوهم لأحس بأنه أسعد الناس.

وفي الختام، يدعو السارد القارئ إلى تأمل نفسه، والتخلي عن سلبيته، وأن يواجه نفسه، وكأنه يقول لنا: لكل واحد منكم عقده النفسية، ففتشوا عنها، فلا أحد يولد مشوها نفسيا. ألم يقل إحسان عبد القدوس وهو الذي برع في الغوص في أعماق أبطاله: "لا تسألوا الناس.. اسألوا الظروف.."؟!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أسيل مسعود تبهر العالم بصوتها وتحمل الموسيقى من سوريا إلى إس


.. فنانو الشارع يُحوِّلون العاصمة الإسبانية مدريد إلى رواق للفن




.. كريم السبكى: اشتغلنا على فيلم شقو 3 سنوات


.. رواية باسم خندقجي طلعت قدام عين إسرائيل ولم يعرفوها.. شقيقته




.. كلمة أخيرة - قصة نجاح سيدة مصرية.. شيرين قدرت تخطي صعوبات ال