الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


العشاء الانتخابي الاخير، هيمنة جديدة بادوات غير تقليدية

حمزة الحسن

2009 / 1 / 27
ملف: الانتخابات والدولة المدنية والديمقراطية في العراق


في الاسبوع القادم سوف يتم عرض العراقيين على شاشات العالم كشعب يقرر مصيره بنفسه في سلوك ديمقراطي انتخابي حر لكن واقع الحال يقول ان نتائج الانتخابات القادمة قد حسمت وتقررت منذ عدة شهور وعلى أحدث أجهزة الحاسوب والطرق البوليسية والسياسية في الوقت الذي يقوم المرشحون فيه عن وعي أو بدون وعي، عن سذاجة سياسية أو اكراه واضطرار، عن دهاء عريق أو علم مسبق ـ تختلف الاسباب باختلاف الاشخاص والاحزاب ـ باستعراضات انتخابية وحفلات دعاية جماهيرية تعرض فيها البرامج والنوايا والاحلام في سوق الخطاب وفي سوق السياسة حتى يبدو المشهد كأننا على موعد مع تاريخ جديد ومصير مختلف.

ولكن حقائق الامور ـ والحقيقة تميل دائما الى التخفي ولا تظهر ولكنها تكتشف ـ عكس ذلك تماما: فالمظهر المهرجاني القادم واحتفالات الخطاب وعرض الاحلام والاوهام هي جزء جوهري وبنيوي من مشهد زور اعد مسبقا يدفع فيه هذا الشعب الجريح ـ في كل مرة ـ الى الحلم بالنجاة من هذا الغرق الدامي وعقلية الغريق لا تأبه بالمنقذ بل بفكرة الانقاذ بصرف النظر عن اخلاقية وهوية المنقذ سواء كان قديسا أو وحشا. عقلية الغريق هي عقلية تشبث واضطراب لا تكون فيها صور الاشياء والاشخاص والمشاعر في مكانها الصحيح لان العقل والشعور يتمحوران حول فكرة مركزية: الخلاص ـ خارج الاخلاق.

هذا الحلم النبيل تعرفه مراكز خفية اليوم في العراق وخارجه وهو ليس صعبا ولا مخفيا لأنه حلم بشري عادل في السعادة والامل والحرية لذلك سيتم اشباع هذا الحلم/ الوهم/ في استعراضات ومهرجانات وحفلات يظهر فيها الناس احرارا في الاختيار مستبشرين فرحين بممارسة فعل الحرية وفي المصير، وهذا الفرح ـ مع كل الفارق والاعتزاز ـ يشبه فرح الاغنام المسرورة في الطريق الى المسلخ الواقع في حقول العشب المشرقة.


لكن ماذا بعد العشاء الانتخابي الاخير؟ كيف تم تشكيل الطبقة السياسية العراقية كي تنسجم مع القوى المحتلة الخارجية والقوى المحلية المساندة؟ ولماذا لا أحد يصغي على سبيل المثال الى خطاب يتكرر هذه الايام وعلى السنة كثيرة يقول: "ان المزاج العراقي السياسي قد تغير".

بهذه البساطة، بل بهذه التفاهة، يرداد اقناعنا ان" المزاج السياسي" العراقي قد تغير وهو أمر يحتاج الى عدة اجيال لكي يتغير بل انه لم يتغير في عدة اجيال سابقة كما لو ان" المزاج" يعمل كشعور منفصل عن العقل والمشاعر والعقائد والاعراف والقوى الاجتماعية ووراثة التاريخ وصراع الهويات وطموحات الساسة والشيوخ ورجال الدين والمحتل وعلاقات السوق وتحولات العالم وموقع العراق السياسي والاقتصادي والثقافي والحضاري في هذه اللحظات الاستثنائية من تاريخه ومن تاريخ العالم.

وكنا في يوم توقيع الاتفاقية الامنية وفي مقال نشر على هذا الموقع في 22/ 11/2008 بعنوان" المؤجل والمسكوت عنه في الاتفاقية الامنية" قد قلنا صراحة ان الولايات المتحدة الامريكية ستقوم " بتغيير البنية السياسية القائمة خلال السنوات القادمة" بحيث يجد الائتلاف السياسي الاسلامي نفسه إما خارج السلطة أو على اطرافها او هوامشها دون القدرة على حذفه نهائيا من اللعبة السياسة لان هذه تتضمن مخاطر كثيرة بل مجازفة غير محسوبة النتائج.

ان الترديد بتبدل المزاج السياسي ـ وكنا سنكون سعداءً لو كان الامر صحيحا ـ هو تهيئة الرأي العام الى عملية اعادة تشكيل النخب السياسية الحاكمة والاحزاب المهيمنة أو الدفع بالهامشي منها الى مواقع متقدمة وتكوين" خلطة" جديدة لا يكون التحالف الاسلامي القائم اليوم على هذه الدرجة من القوة والنفوذ وهو امر غير مسموح به من قبل الادارة الامريكية ومؤسساتها ولا من قبل قوى محلية اخرى حليفة لها ربطت مصيرها، بثقة وأمانة، بها وهي تشبه ثقة وأمانة ذاك الاعرابي البسيط الذي ودع عقاله أمانة تحت ضوء القمر ـ وكان يشرق، بين الغيوم، على بقعة معينة.

ليس الامر هو تبدل المزاج السياسي للناس واذا حدث فمحسوب ومحكوم، خاصة في الجنوب، بعوامل لا يكون فيها المزاج السياسي هو الحكم في هذه الخيارات بل هناك ارادات وقوى ومصالح ومؤسسات أقوى من المزاج واقوى من الارادة ومتعالية عليها ومن قضية الاختيار ـ من الغريب ان النخبة المثقفة تتعامل مع هذا النوع من الخطاب ببساطة شديدة وترديد ببغائي كما لو انه مسلمات وخلاصات مؤكدة.

هذا امر مفهوم في لغة سياسية لا مجال فيها للمقاربات والاحتمالات والتوقعات والصدمات والمفاجات.اللغة السياسية اليوم، على مستوى " التحليل" هي لغة اخبارية ، وفي كثير من الاحيان لغة " فقهية" تشريعية ولو صدرت من مواقع اليسار أو من الطبقة السياسية المثقفة ـ الوصف العام ـ لغة يقينية تقريرية لا مجال فيها للشك والسؤال والاحتمال وهذا ناتج من كون لغتنا العربية مرتبطة بالموروث الديني وهذا الموروث يعطي اللغة سلطة الثابت والمقدس، اي ان اللغة هي التي تقول وتجيب وتسأل وليست الحياة: كل شيء موجود في اللغة، في النصوص، في الكتب، وفي مواجهة معضلات الحياة لا نعود لمساءلة الحياة نفسها بجهاز مفاهيم جديد بل نعود لمساءلة اللغة والنص، سواء كان النص مقدسا دينيا أو الايديولوجيا.

لذلك لا توجد في اللغة السياسية اليوم اي امكانية للاحتمال لانها لغة" مقررة" سلفا: لغة حكم، وتشريع، ووصف، ووصم، وادانة، وتنشنيع ودعم ... الخ... الخ... وليست لغة كشف أو بحث أو غوص في الاتي لأن الآتي في هذا النوع من الثقافة لا ياتي من المستقبل بل من الماضي. هو موجود في النص وحين يتحقق فليس يعني ان الحياة انتجت جديدا بل لأن النص تحقق. المستقبل هو الماضي القادم.

وقوع النخبة السياسية والثقافية والفكرية في شرك هذه اللغة ـ النخبة التي تحترف الكتابة والتفكير والانتاج المعرفي والرمزي ـ هو الذي سيجعل الاحلام الاستعمارية ممكنة وليس لكونها قدرا لا خلاص منه. تكرار ان" مزاج الناس قد تغير" أو" السلطة القادمة ستكون من نوع مختلف" الخ هذه الشعارات وكنا نتمنى صدقها، هو تهيئة مسبقة واعداد المسرح، نفسيا، لسلطة منتقاة تستطيع فيها الولايات المتحدة الامريكية والشركاء المحليون من السيطرة على العراق لفترة قادمة ـ التغير ليس في المزاج العام ولكنه تغيير متحكم فيه ومضبوط في النخب السياسية وفي بنيتها السياسية وقد تم ببطء وعلى يد جنود ـ غير المارينز.

يساريون تائبون وجنرالات قدماء تم اخراج سيرة ذاتية منقحة لهم وشيوخ قبائل انتهازيون وربما تعرض بعضهم لبعض الضيم سابقا وسياسيون ابالسة تكوينهم النفسي خليط من الحزب الحاكم السابق ومن خبرة بوليسية ومن شطارة وطائفية وعشائرية و" فتوة" ومن حداثة مشوهة وعلمانية قشرية يمكنهم مخاطبة قوى الحزب الحاكم في المرحلة الدكتاتورية ومد الجسور معهم، ومن خطاب مبهرج عن حق المقاومة وشرف الارض والسيادة الخ، ومن زعماء طوائف هذا الطيف أو ذاك، ورجال مخابرات متمرسون في الحركات الاسلامية ومن قوى قومية محلية وشخصيات فردية هامشية أو صاحبة نفوذ سابق وتجار ومقاولون وملاك لمد الجسور مع السوق الرأسمالية وتكون هذه الشريحة هي جسر العبور الى الشركات والدول ويكون دورها عرقلة نمو ثقافية وطنية جادة واصيلة وخلق طبقة استهلاكية كمالية تدمر الباقي من الثقافة الوطنية.

هذه الخلطة ليست جديدة بل هي موجودة في" وثيقة التوجهات الامريكية السرية" الصادرة سنة 1992 عن صورة النظام الدولي الجديد ومكونة من 64 صفحة وهذه الوثيقة تشرع بصراحة ووقاحة " لعالم قوة عظمى وحيدة" و" واستخدام القوة لتغيير انظمة دكتاتورية حليفة وصديقة غير متحكم فيها" و" العودة للاعمال القذرة" و" القيام بآليات مضبوطة متحكم فيها من التحول الديمقراطي" و" اضعاف العناصر الثورية عن طريق استهدافها بالعنف المباشر أو القوة الثالثة ـ سي، اي، ايه ـ والانكار الظاهري المقبول" و الاخطر من ذلك كله هو بعد الاطاحة بانظمة قمعية صديقة أو عدوة غير مسيطر عليها وبعد " استعمال ذريعة اسلحة الدمار الشامل أو شعارات الديمقراطية ـ هذه من نصوص الوثيقة" يجري القيام" باليات دستورية مقتصرة على النخبة الحاكمة ويتم اضعاف الحركات النقابية والوطنية والثورية من خلال دمج الحدود القيادية والدستورية فيما بينها لضمان مجتمع السوق الحر" وتقول الوثيقة صراحة وهي وثيقة عمل لسنوات طويلة ان علينا ـ عند تغيير انظمة قمعية ـ ان نمنح النخبة الحاكمة بعض الوجاهة أمام الناس ونجعلها تتصرف كما لو كانت تتخذ قراراتها بحرية من اجل الحفاظ على الهيبة.

على هذه الوثيقة علق الصحافي الامريكي وليام روبنسون في مجلة" فصلية العمل السري" الامريكية خريف عام 1994 قائلا: هكذا تفرض الهيمنة على العالم من خلال استخدام أدوات السياسة الخارجية والمؤسسات ما فوق القومية التي تقوم بها نخب" الشمال" مع الشركاء" الصغار" في الجنوب. هذا يتجاوز بكثير فرض السيطرة على العالم بوسائل تقليدية. انه اكثر نعومة ولطفا" ـ انتهى تعليق روبنسون.

وماذا سيفعل الائتلاف الاسلامي؟ الاحتجاج؟ انتفاضة في الجنوب؟ لا يمكن في اللحظة الراهنة استبعاد اي امكانية كما لا يمكن الجزم بها لأن الاحداث في العراق لا يتحكم فيها العقل والمنطق والتسلسل بل تخضع في لحظات معينة الى عناصر مجهولة وقادمة من مناطق عصية لا ندخلها في التحليل ومن قوى خاصة متنفذة ولكنها شديدة التكتم والقوة في الوقت نفسه ومن حوادث ومفاجات غير منتظرة ولا متوقعة وهذه العناصر قد تصنع أحداثا مصرية.

المؤسسة السياسية القادمة تقررت وهي خلطة كالوصف السابق وقد يتحول الامر الى " صدمة" لكن صدمة لمن؟ لمن يعتقدون ان التاريخ يصنع حسب الحق والقانون والتشريعات والعهود والمواثيق والعقل والمنطق والاحتفالات الخطابات والمهرجانات والدساتير. اما الذين يؤمنون بغير المتوقع وغير المنتظر ويفسرون الاحلام ويؤمنون بالطالع والتسلطن والشطح وقوى اللاوعي وقراءة المخبوء وهذيانات الكوابيس والخيرة والمسبحة ومن على شاكلتهم فسيكونون على موعد مع" حدث" معروف لديهم منذ شهور: حدث وقع في الشهور الماضية في الدهاليز ولم يبق سوى عرض الاخراج.عرض سيشارك فيه الكثير من الابرياء ومن الحالمين بالخلاص من الغرق الدامي.
لا أحد يمنع أحدا من الحلم.

لنتذكر دائما ان القضية العراقية في لحظتها الراهنة لا يفسرها العقل ولا المنطق والحكمة ولا التحليل العقلاني لأنها ليست قضية عقلانية ولكن لانها قضية ارهاب دولي كولونيالي قديم بشكل جديد، والارهاب والسطو غرائز وحشية لا تفسرها الحكمة بل المخيلة!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حاكم دارفور: سنحرر جميع مدن الإقليم من الدعم السريع


.. بريطانيا.. قصة احتيال غريبة لموظفة في مكتب محاماة سرقت -ممتل




.. عائلات المحتجزين الإسرائيليين يضرمون النيران بشوارع تل أبيب


.. بإيعاز من رؤساء وملوك دول العالم الإسلامي.. ضرورات دعت لقيام




.. بعبارة -ترمب رائع-.. الملاكم غارسيا ينشر مقطعاً يؤدي فيه لكم