الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عندليب المتفائلين

عدنان الدراجي

2009 / 1 / 28
الادب والفن


صباح شتوي أخر لكنه ملبد بمنغصات لا يمكن تأجيل معالجتها, اكتظاظ رأسه بالمشاكل المتنوعة جعله لا يعي ما حوله إذ ترك زمام قياده إلى قدميه المتمرستين على طي المسافة بين بيته و مقر عمله وانشغل برسم ارخص الوسائل وأنجعها لغلق المنافذ التي أتاحها سطح بيته الشائخ لماء المطر ليلة أمس.
غشيته أحلام اليقظة فتخيل نفسه واقفا في فناء منزل صغير يكفيه عناء التشرد والانتقال الإجباري من سكن إلى أخر حسب رغبة أصحاب الأملاك ويقيه مشقة مواجهة موعد دفع بدل الإيجار.
زعيق آلة الإجرام الحديثة المسرعة التي مرقت بمحاذاة حذائه المتسخ أفقده توازنه فأتقى السقوط بساعديه, تابعها ببصره لكنه عجز عن تصنيف نوعها ولونها وسنة صنعها, قذفها بنظرة ازدراء وحث خطاه من غير اكتراث بالتسحجات التي أحالت لون جلد ذراعه الأسمر إلى أحمر مقزز لكنه تألم لضياع جهوده المضنية التي بذلها لكيّ ملابسه على مراحل تبعا لمزاج التيار الكهربائي المتقطع.
عاد بخياله إلى ابنته الحبيبة آمنة ذات الثمانية أعوام, الزهرة الجميلة التي زينت باقة أبنائه الخمس, ما أسرع نمو البنات, لقد ضاقت عليها كنزتها التي اشتراها لها العام الماضي لذا قرر أن لا يعود إليها اليوم إلا ومعه كنزة وحذاء جديدان, تحسس جيب بنطاله المزركش ببقع الطين واخرج قصاصة الورق التي دون فيها ليلة أمس قائمة احتياجات البيت, زجاجة فانوس وحصير محاك من البلاستك لدرء رطوبة الأرض التي عاثت بمراتب الأطفال فسادا وقنينة زيت وعلبة معجون الطماطم.
لم يعد يبعد عن الدائرة الحكومية التي يعمل بها إلا بمقدار عبور الشارع المنصّف لمدينته الصغيرة, كاد يرتقي الرصيف الوسطي للشارع لكنه بوغت بسيارة كأن الأرض انشقت عنها, أطاح بجسده في الهواء فسقط فوق حافة الرصيف, مرق الوحش الآلي بجواره كعاصفة سوداء, تحسس أعضاءه غير مصدق بنجاته, هرع عدد من الرجال وتحلقوا حوله وهم يهمسون بلعن تقنية الموت التي كادت أن تسحق عظام الرجل البريء, لم يفقه من كلامهم شيء فقد كان يراقب امتزاج قطرات دمه مع الطين.
أبى إلا أن يضمد جراحه بنفسه رغم عروض زملائه بمرافقته إلى المستشفى, لم تفارقه ابتسامته وهو يروي بسخرية وتهكم ما جرى له في هذا الصباح وقد اقسم لهم انه حين غادر بيته قبل ساعة كان متفائلا بالحصول على جائزة ما أو نيل ترقية أو مكافأة وحين مازحه صديقه أنس وسأله: هل ما زلت متفائلا؟ أجاب: نعم فقد تملكني شعور خفي منذ الفجر أن صفحة شقائي ستطوى قبل غروب شمس اليوم ولن أفرط بتفاؤلي أبدا.
لم يثر جوابه استغراب الزملاء فقد أكتسب بجدارة لقب (عندليب المتفائلين) منذ سنين ويقال أن سبب ذلك ترديده المزمن لمقولة(تفاءلوا بالخير تجدوه) إلا انه في تلك اللحظة لم يجد سببا معقولا لتفاؤله غير خوفه المرضي من التطير والتشاؤم.
من حسن الحظ كان حمام الدائرة مجهز بالماء الساخن فغسل يديه ودعك بقع الطين اليابس من ملابسه فعاد إلى هيئته المعتادة حتى انه حين نظر في المرآة لم يعثر على آثار تجربته المرعبة.
تناسى جراحه وانهمك بعمله المكتبي لغاية انتصاف النهار حيث تباطأت وتيرة العمل فخرج من غرفته يبحث عن حلقات الثرثرة, وجد عددا من زملائه جالسين في باحة البناية ليستمدوا دفئا مفتقدا من أشعة الشمس المنفلتة من بين كتل الغيوم المتحركة البيضاء, كان أنس يلذع بلسانه البذيء بدانة زميلتهم راجحة بسخرية هامسة تثير زوابع من قهقهة سامعيه, حياهم باقتضاب وأنصت بكل أذنيه لمقالب أنس وحكاياته المضحكة التي لو رواها غيره لكانت غاية في التفاهة.
نظر إلى ساعته الصدئة ثم التفت إلى بوابة البناية فشاهد السيارة التي أدمت ذراعيه قد ركنت بإزاء الرصيف القريب وفي اللحظة ذاتها توقفت السيارة التي شجت جبهته بمحاذاة الرصيف المقابل وترجل منهما عدد من الشباب المتجهمين وبأيديهم رزم من الملصقات الانتخابية فهم بمواجهتهم وفضح أفعالهم المتهورة إلا أن بروز مسدساتهم الفاضح من تحت ملابسهم كبح محاولته وحشره في زاوية العجز والقنوط لكنه تدارك الأمر فنفس عن غضبه المكبوت بتمزيق(كروت الدعاية الانتخابية) التي امتلأت بها جيوبه.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. المخرج كريم السبكي- جمعتني كمياء بالمو?لف وسام صبري في فيلم


.. صباح العربية | بمشاركة نجوم عالميين.. زرقاء اليمامة: أول أوب




.. -صباح العربية- يلتقي فنانة الأوبرا السعودية سوسن البهيتي


.. الممثل الأميركي مارك هامل يروي موقفا طريفا أثناء زيارته لمكت




.. أمسيات شعرية- الشاعر فتحي النصري