الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


اكتئاب العصافير

شيرين يوسف

2009 / 1 / 29
الادب والفن


أصبحت أكره حساء الجزر الأصفر فكلما أراه ممددا ً أمامي في الصحون باصفرار الحزن أتذكر المشهد الذي غاب عني منذ عام تقريبا ً حين كنت اطعم "فارس" و يسيل الحساء من طرف فمه المرتعش ليلوث ثيابه و ينتهي المشهد بصفعة من أبيه فوق خدوده الوردية المنتفخة و مسبات حقيره على شاكلة " مجنون ... متخلف ... أخرق "
حين كان يهم بالسير بطريقته المهتزة كان يشير إليه هازئا ً فيسقط "فارس" من الارتباك و حين كنت أشرع في معاونتة على النهوض كان يدفعني بعنف صارخا ً بوجهي "دعيه يعتمد على نفسه"
كان لفارس صوت مميز مضطرب تعلو وتيرته بشكل مفاجيء مما كان يثير غضب أبيه، و بمجرد خروجه من البيت كان"فارس" يغني لي و أشجعه ..اصفق له .. و حين ينتهي أقبله بين عينيه، كانت العصافير تحط على كتفيه كلما أجلسته في الحديقة تحت الشمس، كانت تزقزق و ربما كان يفهم منطقها كانت تأكل من يديه تقلم وحدته ..تآخيه..تصنع له جنة وارفة الأحلام..كان يناديها بتلعثمه البريء بسجيته الخضراء، كان ارتعاش يديه يسبب له أكثر المشكلات مع أبيه لا أنسى حين غافلنا و دخل إلى الحجرة الكبيرة ..مشط شعره بمشط أبيه و ارتدى ربطة عنقه المفضلة و حين شرع في إتمام المشهد بوضع العطر سقطت الزجاجة على الأرض محدثة فضيحة لمغامرته الصامتة،جرى أبوه إلى الغرفة عنفه على فعلته ركله بقدمه و لطم وجهه حتى سال الدم من أنفه، جري إلى حديقة المنزل و اختبأ داخل الكوخ المخصص لكلب الجيران باكيا ً .. متمتما ً بكلماته المشوشة ، بات ليلته وحيدا ً بالكوخ بينما منعني أبوه من مجرد مغادرة الغرفة مهددا ً إياي ببندقية الصيد خاصته، سجنني بالغرفة حتى استفاق النهار على بكائي.. فتح الباب و ببرود المقامر اعترض فراري و بنبره لم أميز مغزاها قال "لا تحزني .. هكذا أراد الله مات فارس" أسقطتني المفاجأة أرضا ًو حين استفقت من غيبوبتي اخبرني بأنه قتل "فارس" برصاصة طائشة من بندقيته حين كان ينظفها لم أصدقه بالطبع إلا أنني لم ارى جدوى من تكذيبه ...
مضت الأيام ثقيلة بين اكتئابي و بكائي المزمن و هلاوسي و كوابيسي و صوت"فارس" الذي لا يفارقني ، بدأت العصافير تذبل فوق أغصان الشجرة التي كان يجلس تحتها حتى هجرت الحديقة تماما ً .
لم أنم تلك الليلة و لم أستطع تجاوز الذكريات التي كانت تحوم حولي بينما هو كان يغط في نوم عميق ، حين استيقظ كنت قد أعددت الإفطار، ألقى تحيه الصباح ببرودة المعهود وجلس قبالتي يتناول إفطاره ، اقتربت حمامتان من حبل الغسيل المشنوق بين شجرتين بحديقة المنزل نظر فجأة عبر النافذة ثم توقف صائحا ً: القذرتان ستلوثا الثياب...
نظرت إلى ذلك المشهد المستأنس جدا ً في تلك الساعة من النهار تحت أشعة الشمس الخفيفة، وحبل الغسيل يهتز برقة و ترفرف فوقه القمصان ذات الأكمام الطويلة و السراويل الغامقة، سقطت إحدى الحمامتين على الأرض و الأخرى إلى جوارها، هو لم يعد على المقعد أمامي ها هو عائد من الحديقة شاهرا ً بندقيته، التي برصاصة واحدة منها قتل (فارس) طفلي الوحيد منذ عام، ببساطة شديدة تمكن من تغيير ملامح هذا الصباح بل تمكن من تلويث يومي بالكامل بقطرات الدماء التي تناثرت فوق أكمام القمصان المبتلة و السراويل، أعدت تهذيب الحبال و فككت المشابك و بدأت في لملمة الثياب المبتلة، بينما بدأت الدماء تسير عبر الحشائش الخضراء التي تكسو الحديقة، لو شربها الطين لأنبت شجرة تليق بتمجيد الموت المدهش.
في حوض الماء كانت الملابس تطفو بين رغوة الصابون و بقايا الدم و بعض من الريش الأبيض، كانت أصابعي تموت ببطء داخل هذا التابوت المائي، حقدت كثيرا ً على تلك القمصان و السراويل لأنها تتخلص ببساطة من ذكرياتها السيئة ببضع من الماء و الصابون....
يخيل إلى ّ في كل لحظة كف (فارس) تداعب الدقيق و تعصر البرتقال، بحافة السكين تأكدت من أن الكعكة نضجت تماما ً، حملتها إلى منضدة المطبخ الخشبية و بدأت في تزيينها بحلوى الفانيليا التي أحبها و الكاكاو التي يحبها هو، كعكة مشطورة إلى نصفين من اللون و المذاق، فهذا هو الاحتفال الأول بيوم ميلاد(فارس) بعد أن رحل احتفال بيوم ميلاد ميت، بدأت في رش الشيكولاته المبشورة على وجه الكعكة و هي تستحيل أمامي إلى قطرات من الدم _ دم (فارس) _ و دموعي الساخنة.
بدأت جموع الأطفال تطير إلى حديقة المنزل في أسراب ملونة بعلب الهدايا و الأحلام و الحلوى، بينما بدأت الفرقة الصغيرة في عزف أغنية عيد الميلاد و قد ارتدى احد الأطفال قناع لوجه مهرج باعثا ً نوعا ً من المرح و البهجة إلا أنه تعرقل في حبل الغسيل المقطوع و سقط أرضا ً باكيا ً من تحت القناع_مهرج يبكي_في يوم ميلاد (فارس) مهرج يبكي و موسيقى الخلفية بكاء......
بعدت قليلا عن المشهد الحي لاقترب من الكوخ الخشبي، حاولت فتح الباب الصغير ..ناديت (فارس) لم يجبني سوى صدى صوتى و صرير الباب، كانت الشمس نصف موجودة و لذلك تمكنت من رؤية ما بداخل الكوخ بنصف وضوح، كانت هناك ساق بلاستيكية لدمية صغيرة و كرة بيضاء مفرغة الهواء كانت هناك رائحة_ رائحة (فارس).
في المساء عاد و حول رقبته عقد من العصافير التي اصطادها و بدأ يصرخ بوجه الصغار المحتشدين بالحديقة حتى تفرقوا تماما ً و بت ليلتي في الكوخ الصغير و قد زارني(فارس) ثلاثة مرات في أحلام متقطعة خلال نومي المتوتر تلك الليلة التي أيقظني فيها عند الفجر شعاع ضوء مريض و صوت طلقة اخترق صمت تلك الساعة المسروقة ما بين الليل و النهار، دخلت بعدها إلى البيت لأجده قد أنهى الأمر برصاصة أخرى و جسده ممدد إلى جوار المدفأة، و بدأت العصافير تحلق فوق البيت من جديد حائمة حول الشجرة التي بدأت تلقي بظلالها الخضراء على البيت








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مقابلة فنية | المخرجة ليليان بستاني: دور جيد قد ينقلني إلى أ


.. صانع المحتوى التقني أحمد النشيط يتحدث عن الجزء الجديد من فيل




.. بدعم من هيئة الترفية وموسم الرياض.. قريبا فيلم سعودي كبير


.. المخرج السعودي محمد الملا يتحدث لصباح العربية عن الفيلم الجد




.. الناقد الفني أسامة ألفا: من يعيش علاقة سعيدة بشكل حقيقي لن ي