الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مَحْض صُدَف - قصة قصيرة

محمد علي ثابت

2009 / 1 / 29
الادب والفن


صعود، هبوط، صعود، هبوط، ثم هبوط آخر، وأخيراً: إقفال للتداول على صعود كبير لم يتوقعه كثيرون غيري وربما لم يجن الربح من ورائه أحد في الجلسة مثلي. يا له من يوم شاق متقلب ذي نهاية سعيدة، ويا لي من محظوظ بحق فيه.. الحظ والصدفة يقفان في صفي دائماً، أو على الأقل منذ التحقت بتلك المهنة.. منذ دخلت إلى عالم الأرقام، والتخمينات، والمضاربات التي لا تُبنى في كل الأحوال على أسس من المنطق.. تماماً كتلك المضاربة الأخيرة التي تشبثت فيها بأمل أخير ضئيل - ولكن صائب - كما يتعلق الموشكون على الغرق بأي شيء يطفو بالكاد تستطيع أيديهم الوصول إليه.. كانت مضاربتي الأخيرة والمثالية لهذا اليوم، ومضاربتي الأكثر ربحاً لهذا الأسبوع، ومضاربتي العشوائية الرابحة التي تحمل الرقم سبعين - تقريباً - منذ تقدمت بسيرتي الذاتية المقبولة لهذا العمل في يوم سعدي.. لكن ماذا كان يمكن أن يحدث لو لم يرتفع قطاع الـ ** في اللحظات الأخيرة من التداول؟ ولماذا لم يرتفع قطاع الـ ** أيضاً رغم أن كل المؤشرات كانت ترجح ذلك؟ ثم.. لماذا لم يرتفع المؤشر العام بأكثر من ** نقطة في نهاية التداول رغم أن ذلك كان منطقياً ومتوقعاً هو الآخر؟ .. أووووووه، تعبت... أريد قسطاً من الراحة في هذه الظهيرة الحارة، بعد هذا اليوم الشاق المثير.

...

واجهة هذا المقهى الأنيق الزجاجية الشفافة هي أكثر ما يروق لي فيه.. لم أتناول الطعام أو الشراب فيه كثيراً من قبل رغم وقوعه على مقربة من "السوق".. لكنني كنت دائماً أحب واجهته هذه، وكم أغضبني أن غطوا مؤخراً الجزء السفلي منها بطبقة من الورق اللاصق الداكن اللون باتت تحول بين المارة الفضوليين - مثلي - وبين التطلع إلى سيقان الحسناوات الجالسات إلى الطاولات الدائرية الصغيرة، وحيدات أو مرافقات. الآن يمكنني الدخول إلى المقهى، للمرة الثالثة تقريباً منذ قبلوا سيرتي الذاتية ومنحوني وظيفة عمري التي أستطيع من خلالها على الأقل مرة واحدة في كل يوم - وأحياناً مرة واحدة في كل أسبوع - أن أثبت جدارتي بلقب "ملك التوقعات والصدف" الذي أطلقوه عليّ في المرحلة الثانوية،، الآن يمكنني الدخول لتناول الباتيه، والكابوتشينو، ولاستراق النظرات إلى سيقان أجنبية جديدة، بيضاء، وحليقة بالتأكيد.. فما أكثر الأجانب والأجنبيات في هذا الوقت من اليوم في شارع كهذا، تجاري وهام وراق.

آه، وأظنهم خلعوا عليّ لقب "ملك التوقعات والصدف" في المرحلة الجامعية، وتقريباً في النصف الثاني منها، وليس في المرحلة الثانوية.. في المرحلة الثانوية لم يكن هناك مجال لكثير من التوقعات ذات البال، باستثناء ما يتعلق منها بمباريات الكرة التي يسهل التنبؤ بها في المسابقات الضعيفة كمسابقتنا، على أية حال.
...

طاولة واحدة فقط كانت حولها مقاعد خاوية، مقعدان بالتحديد، لكن أحداً كان قد حجزهما أو حجز أحدهما قبلي وتوجه إلى الحمام، على الأرجح.. رأيت جريدته على الطاولة، وإلى جوارها: الباتيه المحشو بالجبن الأبيض والطماطم وقطع الزيتون، والكابوتشينو الساخن.. يا لها من صدفة جديدة! وصدفة أخرى: الجريدة كانت مفتوحة على صفحة البورصة، جدول التداول وكل هذا الهراء الذي أجبرني مجموعي المتوسط في الشهادة الثانوية على الانغماس فيه حتى النخاع، أو لعله ذلك اللقب الجامعي التافه هو الذي دفعني إلى تلك المهنة دفعاً. إذن فجاري على هذه الطاولة، أو شريكي المؤقت فيها، له نفس اهتماماتي وميولي، وذوقي.. بل إنه حتى يحب غسل يديه بعد أن يملي طلبه على النادل، وليس بمجرد دخوله المكان - مقهى كان أو مطعماً.. المهم أنني طلبت من النادل نفس طلباته، باستثناء أنني طلبت ألا يكون بالباتيه زيتون لأن شكله في وعلى باتيه جاري لم يرق لي كثيراً.

لم يسبق لي أن دخلت حمام هذا المقهى من قبل. سألت النادل: "أين الحمام هنا يا...؟"، وأجابني بنوع من الاندهاش الغامض بالنسبة لي: "إنه في نهاية ذلك الممر يا سيدي، لكن ألم...؟ حسناً، لا شيء لا شيء، سيدي".. لم أعبأ كثيراً بسؤاله التافه الذي سحبه من على طرف لسانه في اللحظة الأخيرة خشية أن يشكوه الزبون الجديد - الذي هو أنا - لصاحبة المقهى البدينة السمجة. توجهت إلى حيث أشار وغسلت يدي ووجهي ورأسي جيداً، وتطلعت إلى وجهي في المرآة لدقيقة وسألت نفسي: لماذا كبرت إلى هذا الحد وأنت بعد صغير؟ وهل للأرقام والتوقعات وضغوطهما المستمرة علاقة بذلك؟ ... هل أصبحت شريكاً لعدو من أعدائك؟

لكني لاحظت أنه لم يكن هناك أحد بالحمام غيري.. ووجدتني، بدافع فضولي التقليدي، أطرح سؤالاً جديداً على نفسي: بما أنه ليس موجوداًً في الحمام، فأين هو الآن ولماذا ترك - شريكي في الطاولة - جريدته وطعامه السريع ومشروبه الساخن إن لم يكن ليغسل يديه وووجهه ورأسه جيداً كما فعلت؟

...

لما عدت إلى الطاولة ووجدت أنه - الشريك المفترض - قد أكل قطعة الباتيه (الكبيرة) كلها وشرب الكابوتشينو (الساخن) كله وأخذ جريدته معه وترك للنادل الحساب موضوعاً على الطاولة بنظام دقيق يشبه نظام من لا يعرفون غير لغة الأرقام، انتابني إحساس بأن ذلك الشريك المفترض ليس سوى شبح... إنه لم يظهر لي قط، ولكن كل شيء حولي يدل على أنه كان موجوداً من قبل أن أدخل أنا إلى هذا المكان وظل موجوداً فيه حتى بعد دخولي.. ولا أدري ما الذي أثار فضولي بخصوص أمره برمته إلى الحد الذي جعلني أنادي النادل فجأة بصوت عال جعل الحسناء الأجنبية الوحيدة في المكان - التي لم أعبأ كثيراً بساقيها - تبدي انزعاجاً واضحاً مني.. ولم أكترث بها كثيراً، وسألت النادل حين أتاني مسرعاً: "أين الرجل الذي كان يجلس على هذه الطاولة قبلي؟؟ أجبني فوراً!"، فأجابني: "سيدي، لم يكن أحد جالساً عليها خلال الساعة الأخيرة كلها سواك أنت".. ماذا؟

صدمني بمحاولته الكذب عليّ بلا أي هدف سوى اتقاء شر المرأة البدينة السمجة، ذات الصوت الذي أدركت كم هو أجش ومزعج وهي تردد نفس الأغنية الستينية التي كانت قناة الطرب تذيعها، إذا ما وجهت أنا له الاتهام - أمامها - بأنه يكذب على الزبائن أو بأنه لا يحتفظ بدرجة عالية من التركيز في وجوه وملامح الزبائن أثناء دوامه.. سألته عن قيمة الحساب، وأجابني: "ولكنك دفعت حسابك يا سيدي وتركت لي البقشيش كذلك". قلت له بغضب: "كيف ذلك أيها المغفل؟ لقد طلبت منك الباتيه والكابوتشينو ثم توجهت إلى الحمام وعدت الآن تواً، فكيف أكون شربت أو أكلت شيئاً أو دفعت ثمن شيء؟!!".. ثم أضفت: "فلتذهب إلى الجحيم أيها النادل المغفل.. لا تريد الحساب؟ حسناً، هذا أفضل لي لأنني لم آكل ولم أشرب". وقبل أن أغادر المقهى توجهت إلى صاحبته وقلت لها: "تأكدي أيتها البدينة أن هذا النادل سيتسبب ذات يوم لهذا المكان في خسائر جمة". ثم غادرت.

...

خرجت إلى الشارع مسرعاً أحاول اللحاق بالرجل الخفي الذي له نفس ذوقي واهتماماتي، ولم أدر ماذا سأقول له أو سأطلب منه إن وجدته ولحقت به، لكن المهم بالنسبة لي كان أن أفهم تفاصيل تلك الصدفة الجديدة التي قابلتني في يوم لعبت الصدف معي فيه ما يكفي من الأدوار، الإيجابية في تحليلها الأخير.. لكنني لم أجده، طبعاً، وعدت من جديد إلى المقهى لآخذ حقيبتي التي تحتوي على كل أوراق العملاء الهامة وعلى حصيلة ربحي الخاص لهذا اليوم بعد أن اكتشفت أنني نسيتها، غالباً في حمام المقهى السخيف ذي الواجهة الزجاجية التي ما عادت تروق لي البتة.. وهناك كانت مفاجأة، أو صدفة، أخرى في انتظاري، ويا لها من صدفة.. إنها الصدفة التي وضعت حداً نهائياً لتعاملي مع الأرقام والصدف والمضاربات والتوقعات.. لقد فقدت حقيبتي، ووظيفتي معها.

لكن من قال إنني غضبت؟ على الأقل لن أبدو أكبر من سني، كثيراً، بعد اليوم.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أمسيات شعرية- الشاعر فتحي النصري


.. فيلم السرب يقترب من حصد 7 ملايين جنيه خلال 3 أيام عرض




.. تقنيات الرواية- العتبات


.. نون النضال | جنان شحادة ودانا الشاعر وسنين أبو زيد | 2024-05




.. علي بن تميم: لجنة جائزة -البوكر- مستقلة...وللذكاء الاصطناعي