الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ما بعد غزة، الجزيرة: سلطة رابعة؟

نادر قريط

2009 / 1 / 29
مواضيع وابحاث سياسية



السلطة الرابعة هي سلطة مجازية ولدت في مجتمعات حداثية ذات عقد إجتماعي ومؤسسات تشريعية وتنفيذية وقضائية، ورافقت إزدهار الثقافة الكتابية وإختراع مطبعة غوتنبرغ. وتمثلت السلطة الرابعة في بداياتها بالصحف عموما التي عكست مصالح أعمدة العقد الإجتماعي (ملاك أراضي، كنيسة، برجوازية، صناعة، حرفيون شغيلة..إلخ) حيث مارست سلطة أخلاقية وأنابت المجتمع وصرخت بما يعتريه ويعتوره من آلام وغصات وأمراض. عبر عنها حملة الأقلام من رجال صحافة وكتاب ومفكرين وصحف ودور نشر مثلوا معا قوة الضمير الجمعي والرقيب الأخلاقي لحماية الدستور والسيادة العليا وعمل مؤسسات السلطة
في عالمنا العربي الذي لازال يتعثر في بناء دولة العقد الإجتماعي والمؤسسات، والذي مازال يخضع عموما لأنظمة أبوية تقوم على مبدأ الغلبة والعصبية والعنف، وإحتكار السلطات بأيدي أنظمة عائلية أو قبلية أو خونتا Juntaعسكرية، متصاهرة مع طبقات تراثية وتجارية، فإن السلطة الرابعة تكاد تكون غائبة.. وجميع الصحف ودور النشر محتكرة تقريبا لأمراء وشيوخ وأجهزة مخابرات أو سماسرة أرتهنوا ببطانة الأنظمة
وقد هيمنت هذه الصورة على المشهد وترسخت تدريجيا في فترة أفول حركة النهضة العربية الليبرالية منتصف القرن العشرين وغياب الروّاد من صناّع المعرفة وإستفحل الأمر مع إزدياد سطوة دولة السجون والقمع . وإستمر الحال حتى ظهور الميديا الجديدة التي كسرت إحتكار التلفزبون والراديو الوطني الذي كان يسبح صباح مساء بحمد القائد الأوحد راكب الأمة، وملهم الأجيال (على رصيف البطالة ومقاهي الذباب والتشرد والتسوّل والهجرة)
لكن ذلك الإنفراج لم يؤدي إلى ولادة سلطة رابعة، بسبب العجز الفادح في الثقافة الكتابية، ورواج الأمية وتدهور الكتاب وطباعته وإستمرار هيمنة الثقافة الشفهية. ونفوق أدوات الثقافة والإنتاج المعرفي قياسا بفترة الأباء الأوائل لجيل النهضة والتي تميزت بإزدهار المسارح والسينما والفنون والتراجم الثمينة لأمهات الكتب
وبهذا إستمر الإنشاد والترتيل لطويل العمر بطل البرين والبحرين وخادم البيضتين (بإستثاء المرحوم بورقيبة الذي إعترف بواحدة، مما خفف عن تونس وطأة ومصائب البيضة الأخرى)
وهكذا جاءت "الجزيرة" فاتحة لعصر الفضاء ولتلعب دور الحكواتي في مجتمعات اللغة الشفهية واللغو!! وتقص على الناس مايفرحهم ويبكيهم. بأساليب بصرية مؤثرة قادرة على التهويش والإثارة وقادرة أيضا على قيادة الشارع في وجهة تتحدى الأنظمة وتقزم الحكام وتحطم هالتهم القدسية.
وقد ساهم تراجع الجيوش العربية التقليدية أمام فكرة منازلة إسرائيل وإتفاقية أوسلو وسقوط بغداد وإزدهار حركات المقاومة وقدوم أشرطة ملثمي المجاهدين والمقاومين والظواهري وأبو عدس، وأبو القعقاع وانهيار النظام العربي الرسمي وتآكل جامعة عمرو موسى، وحرب لبنان 2006 . أقول ساهم كل ذلك في تعبيد الطريق أمام الجزيرة لتصبح "سلطة أولى تتحدى منظومة الفساد العربي الرسمي" ساعدها في ذلك فيالق إعلامية مدربة تخوض المعارك الطاحنة (الحقيقية منها والدونكيشوتية) وتقود أمة لسان الضاد (من نجد إلى يمن إلى مصر فتطوان مرورا ببغدان ومعبر رفح)
وقد ساهمت الحرب الأخيرة الهوجاء البربرية التي شنتها إسرائيل على غزة بلوغها الإرب حيث توّجت بديلا للجامعة العربية، فقد إستطاعت بجدارة وكفاءة أن تتصدى لإسرائيل وتهزمها بصوّر تهزّ الوجدان، وتشحن المخيّلة بفداحة الظلم والعنصرية.
لكن السؤال الذي كنت بصدده هو دور "السلطة الرابعة الإفتراضية" فأين يمكننا متابعة الخطاب المكتوب وما هو دور المثقف العربي وتأثيره إزاء ما يدور حوله؟ وهل لدينا مثقف منتج للمعرفة ؟ أم أننا مجرد كتاتيب لتدوين الإنفعالات وإجترار الأخبار والسير، بما يرضي أولي الأمر " أدام الله نعمهم وأحذيتهم"
أكاد أزعم بأن دور الثقافة الكتابية كان ولايزال متهافتا، ومنقسما بين حارات السياسة. وقد أثبتت الحرب على غزة ميولا معادية لقيم الضمير والحق والعدالة وعداء لمفاهيم حق الشعوب في التحرر وصلت أحيانا لحد الشماتة بآلام الأطفال والجرحى والموتى، وتنكر لقيم والإخاء وإغاثة الملهوف. وكادت بعض الأقلام تفوق لؤما وغلواء وعدائية أقلام صحفي هآراتس (الأرض) ويديعنوت أحرنوت وتعكس بجلاء الموقع الطوبغرافي للديكة الصائحة، على خريطة المزابل السياسية العربية، وبما أننا نتحدث عن الثقافة الكتابية فلابد للمرء (والمرأة) أن يتوقفا أيضا عند خطبة ابن سعود التي وعدت غزة بألف مليووون دووولار (مع مط الكلمات لتبدو ألف مليون أكثر من مليار) فقد كانت هذه الكلمة نكبة للغة العربية خصوصا أنها رفعت المجرور بالضمة (والواو) وجرت الفاعل على المفعول. وأظهرت أن ملك الأعراب أميّ، وكأننا بحاجة لهذا الدمار اللغوي بعد دمار غزة؟ لكن يمكننا أيضا أن نعتبره صورة صوتية للإعلام المرئي ولا شأن له بالكتابة والقراءة
وربما لا أكون متشائما إذا زعمت بأن ثقافة الإنترنت زادت من مأساوية الصورة، إذ تحوّل آخر منتجي المعرفة والأدب الرفيع إلى كتاب ردود وإيميلات وكائنات منفعلة نرجسية مرضية تبحث عن ذواتها في غوغل، غير آبهة بأسئلة وقضايا المصير والضمير. وهذا يمكن ملاحظته في نصوص مايسمى كبار الكتاب وبعض المفكرين (حالهم مفكرين) هناك تجد إختلاط الفكري بالسياسي لدوافع وظيفية تزيد من هزلية الصورة .. تخيلو أن أحد هؤلاء (وهو مفكر بروليتاري يساري مرموق) يفتتح مقالاته بالوقوف دقيقة صمت حدادا على روح المليادير اللبناني السعودي رفيق الحريري الذي أغتيل عام 2005، مهددا وملوحا بالعصى الغليظة للمحكمة الدولية. في وقت يصمت فيه عن قول كلمة تأبين ومواساة لآلاف الضحايا الذين لم يجف دمهم بعد.
أجل إن تحقيق العدالة أمر مهم ورائع لكن إغتيال الحريري ليس قضية ضمير كبرى تستوجب سيلان وفيضان قلمه الفولتيري النخبوي الظفروي التذاكوي الملتوي الحامض ـ قلوي؟ لأن القضية سياسية بإمتياز تحركها مراكز القوة، ولعبة المصالح ومجلس الأمن..وهي قوى عاتية تكفي للقصاص من قتلته أينما وجدوا؟ هذا إذا أريد لهم أن يُوجدوا !!
إن إطلاعي المتواضع يدعوني للوقوف دقيقة صمت في وداع لغة الضاد، ويبدو لي أننا أمام لغة تلفظ أنفاسها أو لفظته مع رحيل القباني وونوس والماغوط وحبيبي ودرويش وغيرهم. وأتصور أن الكتابة في هذا الجو المختنق بجثث الكلام ونفاياته، فقدت إمكانية التأثير ك"سلطة رابعة أو عاشرة" وإلى الأبد. ومن الأفضل أن يلجأ الكتاب إلى تلحين مقالاتهم وكتبهم وإنشادها في المواقع الصوتية والفضائيات بمرافقة الدفوف وصنجات الراقصات. وإذ لا أمل لإحياء هذه السلطة الأخلاقية في ثقافتنا على المدى المنظور. أقترح تخفيف هذا الضجيج رحمة بالنيام، فسوق الكتابة مكتظ بعربات البضائع الكاسدة ومقالات العلاكين. وإن تنصروا الجزيرة تنصركم وتثبت أقدامكم .










التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - ليت ملك الاعراب كان اميا ولم يمزق اسماعنا بخطبته العصماء
محمد خليل عبد اللطيف ( 2009 / 1 / 28 - 22:38 )
مقال رائع يااستاذ نادر كالعادة...
ناطقوا العربية ياسيدي لايقرؤون...
لايعرفون تاريخهم الحقيقي...فتاريخهم هو مادرسوه في المدارس...او هو خطبة الجمعة والدروس الدينية...
فاي مستقبل نرتجي؟...

عتاب صغير ياسيدي فانت تقول-وكادت بعض الأقلام تفوق لؤما وغلواء وعدائية أقلام صحفي هآراتس (الأرض) ويديعنوت أحرنوت-
وانا اعتب على كلمة كادت فان بعض الاقلام تفوقت بمراحل.
الا اننا نبقى محظوظين...فلا احد يقرأ


2 - علمانـي فاشستي
فيصل آورفــاي ( 2009 / 1 / 29 - 01:56 )
يا لسوء المقال من بين مقالات كثيرة سبق ان غششنا بها .
لا احد يحمل -شماتة بآلام الأطفال والجرحى والموتى،- يا سيد قريط . و ليست هناك -ميولا معادية لقيم الضمير والحق والعدالة وعداء لمفاهيم حق الشعوب في التحرر، - لدى منتقدي اصحاب الاخطاء القاتلة ! لكن يبدو انك قد انضممت لقافلة المزاودين ، و المتاجرين بألامهم ، و دماءهم ، اذ انك تمدح السائق الذي رمى بركاب سيارته في الهاوية ، و تحمل على مشاهد خارجي قام بتحميل السائق مسؤولية جريمته . كما و تحمل المشاهد الخارجي تهمة اللاوطنية . اذا فالوطنية بنظرك هي نحر الوطن على يد فئة ظلامية ، تقرر منفردة ، متى تشن حربا على اسرائيل ، او متى تستفزها ، و تقدم لها الذريعة المناسبة لتدمير بلدها ، طالما ان هناك من يسدد رواتبها من خارج البلد ! ثم لماذا هذا التهجم على قضية الحريري ؟ ام تعتبر نفسك من عصابات النظام السوري التي اغتالته ، و لا اجد غرابة في انك تتحدث عن كارثة غزة بالطريقة التي يتحدث فيها النظام السوري ، و الايراني . و اخاف ان هناك خلفية طائفية تحرك دواخلك ! فليس من حقك ان تحاسب المرء ، أو المرأة ، على شيء لم يفعله ، ثم تهاجمه في عمل صالح قام به . اما كان من الاجدر بك ان تقف مع حق كشف جريمة بحق انسان، ام ان كونه ملياردير، يسبب لامثالك غصة طبقية تحرم

اخر الافلام

.. الرئيس الأوكراني: الغرب يخشى هزيمة روسيا


.. قوات الاحتلال تقتحم قرية دير أبو مشعل غرب رام الله بالضفة




.. استشهاد 10 أشخاص على الأقل في غارة جوية إسرائيلية على مخيم ج


.. صحيفة فرنسية: إدخال المساعدات إلى غزة عبر الميناء العائم ذر




.. انقسامات في مجلس الحرب الإسرائيلي بسبب مستقبل غزة