الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المجتمعات الحرة و مجتمعات التخلف

سهيل أحمد بهجت
باحث مختص بتاريخ الأديان و خصوصا المسيحية الأولى و الإسلام إلى جانب اختصاصات أخر

(Sohel Bahjat)

2009 / 2 / 1
مواضيع وابحاث سياسية


منذ قرن من الآن و العراق "الحديث" لم تقم له قائمة، و طبيعي أن أي بلد يسوده العقل العشائري القبلي الذي يعتبر "الدولة" عدوا و إلى جانبه عقل يتمسك بأهداب الدين التقليدي ـ بمعنى أن الدين العقلاني الفلسفي يتطابق مع الديمقراطية ـ طبيعي أن هذه العقلية تنتج على الدوام تجارب سياسية فاشلة، بدءا بالتمسك بأهداب القومية العنصرية و انتهاءا بالتطرف الديني الذي لا يقبل أي منطق أو حوار، أو يقبل منطقا و حوارا "شكليا" دون أي مضمون حقيقي، و بالتالي سنبقى كعراقيين ندور في فلك التجارب الفشل السابقة، لكن إن حصل العكس و بدأ الناس يشكّون و يطرحون الأسئلة حول عقائدهم التقليدية و ثقافتهم التي توارثوها عن الآباء و الأجداد، فإن ذلك سيوفر فعلا فرصة للتغيير الحقيقي.
و المشكلة الأخرى التي تعانيها المجتمعات الإسلامية ـ و العراق من ضمنها بالتأكيد ـ أنها لا توفر للفرد جوا من الحرية الأخلاقية و الاجتماعية و الغالب على هذه المجتمعات هو التجسس و التدخل بشكل متواصل في شؤون الناس الخاصة و هو ما نستطيع أن نصفه بنوع من "الصفاقة" حيث يتعامل الناس مع بعضهم البعض و كأنهم موظفوا مخابرات، و لو حدث أن أحدهم أخطأ في تصرف شخصي هنا أو هناك فإن المجتمع كفيل بفضحه و هتك عرضه و تسويد سمعته، من هنا نجد أن ثقافة "العار" لا تتيح للفرد أي نوع من التعبير عن الفردية أو الاختلاف مع ما يسود المجتمع من قيم.
و المصيبة أن الدين ـ التقليدي ـ اختلط بالعرف القبلي و العشائري و بالتالي أضفى الناس نوعا من القداسة و الهيبة الدينية على أعراف اخترعوها و أضفوا عليها القداسة بفعل تراكم الوقت و الزمن، و لو لا أن العالم تغير و دخل الساتلايت و الإنترنت و الهاتف و الفاكس إلى حياتنا لكان لهذه العادات و التقاليد و الأعراف البالية أكبر الضرر في حياتنا، و إذا كانت هذه الأعراف و العادات مفيدة ذات يوم، فقد أصبحت الآن نقيضا لـ"دولة القانون" التي تعامل المواطنين بالمساواة المطلقة، ففي الماضي كان النظام القضائي و الحكم يراعي شكليات العدالة و التغني بالعدل و الرحمة بينما كانت الوساطة و الطبقية و الرشوة هي التي تحكم، و يكفي أن تقرأ كتاب المرحوم الدكتور علي الوردي (لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث) لتجد كيف أن العراقيين و المصريين و السوريين واجهوا مدّ التطور و العدالة و المساواة بين المواطنين و عدم التفرقة بينهم لأسباب دينية أو قومية، و اتخذت تلك المقاومة صبغة المقدس، فمثلا كان العثمانيون يعتبرون "الشيعة" مواطنين من الدرجات الواطئة و الدنيا و لكن ما أن جاء البريطانيون إلى العراق بالنظم الحديثة حتى قاموا بمواجهة هذه النظم تحت ستار "العلمانية الكافرة" و "الغزو الثقافي" و ما إلى ذلك، و المضحك أن أحمدي نجدي الرئيس الإيراني مدح "العثمانيين" الذين كانوا يذبحون آلاف الشيعة ـ الإيرانيين و العراقيين ـ لأنهم "روافض"!! و مع ملاحظة أن العثمانيين لم يكن يهمهم لا مذهب أو دين و إنما استغلوا الدين للسلطة و الهيمنة.
الأمر ذاته ـ كراهية الحداثة و شعارات الجهاد و المقاومة الفارغة ـ تكرر مع المصريين و الفرنسيين الذين أخرجوا المماليك و أحلوا محلهم العدل و المساواة و النظم الحديثة و النظافة و البيئة السليمة، حتى أنك تجد الجبرتي و هو المؤرخ المصري الذي أرخ لتلك الأحداث ينظر نظرة المرتاب إلى المعاملة الحسنة التي تعامل بها الفرنسيون مع المصريين فيقول ـ كما نقله الدكتور علي الوردي:
ثم أن عساكرهم صارت تدخل إلى المدينة شيئا فشيئا حتى امتلأت منهم الطرقات و سكنوا البيوت و جافت منهم الحارات، و لكن لم يشوشوا على أحد، و يأخذون المشتروات بزيادة عن ثمنها، و هذه من أعظم المكايد لأجل إضلال عقول العامة، و انهمكوا على أنواع المأكولات..." ثم يصف الجبرتي التطور الاقتصادي و الأمن و الأمان الذي حلا بمصر و لكن شاب هذا التغيير فتن و ثورات حصدت الأرواح و دمرت البلاد، فعقلية المؤامرة و كراهية الحداثة في عالمنا الإسلامي ليست وليدة اليوم، يقول الدكتور الوردي:
و ذكر الجبرتي أن الجنود العثمانيين ـ بعد الجلاء الفرنسي ـ عادوا إلى عاداتهم القديمة في معاملة أهل الأسواق، فقد أخذوا يتحكمون في الباعة و يفرضون على أصحاب الحوانيت دراهم يأخذونها كل يوم، كما صاروا يتناولون طعامهم في الأسواق بلا ثمن، و لم يكفهم هذا بل تعرضوا للناس في مساكنهم فكان أفراد منهم يأتون إلى البيت و يأمرون صاحبه بالخروج منه ليسكنوه. و أسرف بعض الجنود في التعدي على الناس، فكان أحدهم يذهب إلى السوق و معه دنانير مزيفة و يستبدل بها دراهم فضة. أو يستأجر حمارا من المكارين فيذهب به إلى غير رجعة و إذا سار المكاري معه ليمشي وراء حماره قتله. و عندما اشتكى الناس ذلك إلى الرؤساء قال هؤلاء لهم: إن الجنود هم إخوانكم في الجهاد حاربوا أعداءكم و أخرجوهم من بلادكم و هم الآن ضيوفكم لأمد قصير فلم يسع الناس إلا السكوت.." ـ لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث ج 2 ص 304 ـ 305
و هكذا تبقى هذه المجتمعات المتخلفة دون أن تعرف مصلحتها و مستقبلها لأنها ببساطة لم تمحص ثقافتها و دينها و لم تفكر في حرية أبناءها، بل بقيت تركض وراء الشعارات الفارغة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ما محاور الخلاف داخل مجلس الحرب الإسرائيلي؟


.. اشتعال النيران قرب جدار الفصل العنصري بمدينة قلقيلية بالضفة




.. بدء دخول المساعدات عبر الرصيف الأمريكي العائم قبالة سواحل غز


.. غانتس لنتنياهو: إما الموافقة على خطة الحرب أو الاستقالة




.. شركة أميركية تسحب منتجاتها من -رقائق البطاطا الحارة- بعد وفا