الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


زفاف في معبد وثني .......................... قصة قصيرة

أحمد الجنديل

2009 / 2 / 2
الادب والفن



النزيل :
مِن أيّ النوافذ تريدُ أن تمسك بخيوط الأمل ، وكلّ النوافذ مغلقة بأقفال الخوفِ ، وموصدة بسلاسل الرعب ؟ ومِن حولكَ عساكر مدججّة بالسلاح والمال ، وأنتَ تنوص وحدك هنا ، لا تملكُ حتى وسيلة الانتحار لتـتخـلصَ من نيران عذابـك وعـفـونة جراحك وقسوةِ المرض عليك .
قلتَ لهم : أعترفُ بكلّ شيء ، رغم أنك لا تملك ما تعترف عليه .
ما مارستَ السياسة يوما ، ولا عرفتَ ألاعيبها ، ولا خضتَ غمارها ، ولا شاركتَ في انقلاب أو مؤامرة ، فبما ذا تعترف ؟
كنتَ تقوم بدور البطل ، وأنتَ جرو صغير لم تتعودْ على النباح في الوقت المناسب بعد ، استهوتكَ شهوة الخطاب ، ونزوة الكلمات التي تختبئُ وراءها ، وتتلاعبُ بجدائلها ، دون أن تعرف أنّ المرصدَ يلتقطُ حتى أنفاس المسلولين ولهاث الخائفين ، فكيفَ وأنتَ تتحدثُ بهذه المباهاة ، مغروراً بسحر الكلمات ، لتوهم الآخرين ، أنكّ القادر على تغيير خارطة الكون ، وخلق المعجزات ، في عالم لا يملك غير دهاليز الدهاء ، وأروقة المكر ، وأنفاق المغامرة ؟
في ساعات الغفلة التي أكلتْ رأسك ، قلتَ ذات أمسية لثـّلة من الرؤوس الموبوءة بحبّ بريق الحرف : ( البئر الذي يتغوط الانتهازيون فيه ، لا يمنحكم ماءً زلالاً ) . وقبل أن تدخلَ زنزانتك هذه ، قرأ المحققُ ما قلته ، وقد أخذتكَ الصاعقة وأنتَ المنسوج من خيوط أوهى من خيوط العنكبوت .
الهواءُ المحتبس ُ في رئتيـكَ بدأ يفسدُ ، يتعـفنُ ، يتحولُ إلى غيوم لا تمطر غير القنوط واليأس ، وأنتَ ماذا تفعلُ في زنزانتك المخيفة ؟ .
مهشّمٌ أنتّ حد الموت ، متداعي لدرجة الذوبان ، متآكل من العظم إلى العظم .
لَـمْ تأخذ بنصيحة من علمّك : ( إنّ السكوتَ من ذهب ) . فلمْ تقـفلْ فـمكَ ، وتردمْ منابع تفكيرك ، وتذبح نوازعك على صخرة الصمت ، كانت الكلمات تنزلقُ من فمـكَ وهي تحملُ نهايتكَ دون أن تفقهَ شيئا ممّا يدور حولك .
كنتَ تهمسُ في أذن من تلاقيه : ( الحرية أغلى من الخبز ، لأنها تمنحه درجة الارتقاء إلى قمّة إنسانيته ) . وكانت الآذان التي يدخلها هذيانكَ ، تدركُ ذلك أكثر منك ، لكّـنها لم تمنحْـكَ إشارة ما ، لأنها تعرفُ أنّ محيط الخوف الغارقة فيه ، يحيلُ الحياة إلى بالوعات طافحة بالماء الآسن ، لا يجيد السباحة فيها إلا قراصنة الانحطاط .
وأنتَ في قبركَ هذا ، لا فرق بين أن تنهشَ جلدَ الأرض الإسمنتية الرطبة ، أو جلدكَ ، فكلاهما توحّدا في جنس واحد . قد يختلفان في طبيعة الإحساس ، ربمّا الأرض تئنّ ، تتوجَعُ عندما تغرسُ أضافركَ في جلدها ، مثلما أنتَ الآن تصرخُ ، تتألمُ عندما يسيحُ القيح بفعل أضافرك .
ذات صباح ، ارتفعَ صوتُ بابَ السجن ، انتابكَ إحساس غامض ، فلم يتعودْ قبركَ هذا الصوت ، وفي مثل هذا الوقت ، بدأ وهمُ الفرج يلوحُ لكَ من بعيد ، لعلهم عرفوا حقيقة ما أنتَ فيه ، وما كنتَ عليه ، والأسباب التي من أجلها جئتَ إلى هنا ، وإذا لم يكنْ كذلكَ ، فلعلهم انتبهوا إلى أنّ الساعة قد أزفِتْ ، ليكنسوا هذه العفونة البشرية من سطح الأرض ، لتكون الدنيا خالية من النفايات الآدمية ، ومع الاحتمالين خلاص لكَ من هذه الدنيا المتفسخة ، لكنكَ فوجئتَ بغير ما توقعتَ ، شخص لا تعرفه يدخلُ عليكَ ، يحملُ على وجهه علامات الوقار ، ويمسكُ في يده حقيبة جلدية صغيرة . كان مهذبا معك ، أطلقَ عليك تحية ما سمعتها قبل هذا الصباح من اللذين مارسوا التحقيق معك ، وعندما دنا منك ، بدأ الاشمئزازُ يحاصره ، لابدّ أنّ رائحتك كريهة إلى حد لا يطاق ، هذا ما أكدّه سؤاله إليك :
ــــ منذ متى وأنتَ لمْ تغتسلْ بالماء والصابون ؟
الكلماتُ التي كانت تتوهجُ على شفتيك ماتتْ منذ زمن بعيد ، واللسانُ الذي كان رشيقا وساحرا ، انقلبَ إلى قطعة زائدة في فمك ، كالزائدة الدودية تماماً ، الزائدة الدودية تـُستأصلُ حال وصول المرض إليها ، أمّا اللسان فيُترك دون علاج ، دون اِستئصال وعندما يكون مُعدياً لابدّ من الحجر عليه والتخلص منه ، لم يتوصلْ الطب إلى علاج له ، لكـّنّ أطبّاء السياسة اكتشفوا علاجا ناجحا وسريعا ، يتلخصُ في التخلص من صاحبه ، عند ذاك ينتهي الخطر ، وتكون الحظيرة خالية من الأمراض السارية ، لينعم الجميع بالرفاهة والأمن والاستقرار .
نظراتك المنكسرة تتعثرُ على وجه الطبيب ، وحروف كسيحة خرجَتْ من أزقـّـة فـمك الوعرة . طلبَ منكَ أن تكشف عن صدركَ ، لم تذعنْ لطلبه ، بقيَتْ نظراتك شاردة على صفحة وجهه ، اقتربَ منكَ ، رفعَ طرفَ قميصكَ بأطراف أصابعه بتقزز واضح ، التقطَ آلة تشبه السكّين معقوفة النهاية ، غرسَها في صدركَ أولا ، ثمّ تابعَ الفحص على بقيّة جسدك المتآكل ، قال بلهجة مهنية محايدة ، ولكنها مطلية بالحذر :
ـــــ سأوصي بضرورة دخولك الحمّام مرّة واحدة كلّ أسبوع .
نظراتكَ أخطأت مساراتها ، انتقلتْ إلى يد الطبيب ، تساءلتَ في سرّكَ : ماذا لو اختطفت ما في يد الطبيب ؟ فهل تكون قادرة على تخلصي من العذاب الذي أنا فيه ؟
مرّة أخرى قفزَت نظراتك إلى وجه هذا الزائر الغريب الذي تابعَ يقول :
ـــــ وسأمنحكَ علاجا يخففُ عنك آلام الجرب الذي تعاني منه .
ابتسامة بلهاء تجولُ على شفتيك عندما ارتطمَ سمعك بكلمة ( الجرب ) ، تحولتَ إلى دمية توقفتْ بفعل استهلاك بطاريتها ، ورغم ما أنتَ فيه ، تدحرَجَتْ كلمات منك دون أن تعلم ، أخذتْ طريقها إلى سمع الطبيب :
ــــ لماذا كلّ هذا ؟
رفعَ الطبيبُ رأسه إليك ، وأجابَ ببرود :
ــــ لكي تتخلصَ من مرض الجرب ، انه معد وخطير ، ولابدّ من علاجه .
دمُكَ يشربه الذهول ، وإرادتكَ يكسرها الخوف ، ونظراتك تهزمها رهبة المكان ، والرجل الذي أمامك متسامح عطوف ، أخذ قطعة من الشاش الأبيض ، سكبَ عليها محلولا فاحَت رائحته الحادة حالَ خروجه من القنينة ، وبدأ يمسحُ الجزء الخلفي من رقبتك ، وبين الاشمئزاز الذي يعيشه من رائحتك الكريهة ورائحة الدواء الخانقة ، تابع يقول :
ـــــ هذا المرض عادة ما يصيبُ الإنسان والكلاب .
اندفعَ صوتك متشحاً بالذهول والغرابة معا :
ـــــ ولماذا الكلاب ، أيها الطبيب ؟
رفعَ رأسه إليك ، صوّبَ نظراته في عينيك ، أرادَ أن يقرأ ما تريد الوصول إليه ، ولمّا تأكّد من انطفاء وجهك ، أجاب :
ـــــ الكلابُ هي الأخرى تصابُ بهذا المرض ، ربمّا يجد الميكروب عند الكلاب حاضنة لانتشاره .
عاد لسانـُكَ إلى غروره ، أردتَ أن تبيع شطارتك على الطبيب الذي جاءَ ليعالجك ، ومن رؤيتكَ المعتمة ، سألته باستنكار :
ـــــ لكنّ الكلابَ عندما تمارسُ النباح ، لا تـُفتح لها السجون ، ولا يمارس معها التعذيب !!
أنتَ مشاغبٌ داخل قبركَ ، وجبانٌ في نفس الوقت ، بَدأتَ تفتحُ أبوابَ هذيانك ، لكنّ الوجهَ الذي أمامك ، خائف ومذعور ، عيناه تدوران في فراغ مُفزِع ، سألكَ بريبة وحذر :
ـــــ ماذا تقصد ؟
أنتَ لا تريد أن تمنح نفسكَ فرصة التأمل والمراجعة فيما تقول ، انطلقَ لسانـَك كالسهم أمامَ الرجل الذي جاءَ لينقذكَ من آلامكَ :
ـــــ أعرفُ أنّ الكلابَ ، بعضها يَغتسلُ بماء الورد ، وبعضها بالماء الساخن والصابون المعطّر ، وبعضها بالشامبو ، أمّا الصنف الآخر من الكلاب ، فيحلو له العمل كيفما يشاء ، يَنبحُ على راحته ، يَدخلُ الأزقـّة ليلا دون أن يطارده أحد ، يُمارسُ عمله الجسدي بلا استحياء ، ولكي تنال الكلاب الحظوة في حياتها ، كانت لها جمعيات ، ودور رعاية ، وعطف متزايد ، فمن أين يأتيها هذا المرض الخبيث ، وهي تتنعمُ بكلّ ملذات الحياة ؟
كنتَ تتحدث بلهجة قاسية ، والكلمات التي تخرجها موتورة حد التأزم ، والطبيب المعالج ما عادَت أصابعه تتحرك ، توقفتْ يده ، دون أن يمنحك شيئا يدفعك إلى مواصلة الحديث ، ورغم هذا فقد خَرجْتَ من دائرة ما أنتَ فيه ، صمامات الأمان ما عادت مقفلة بالخوف ، إنها لحظات التيقظ الخطرة ، لحظات التمرد دون دراسة النتائج ، لسانكَ استطالَ ، تمددَ في كلّ الاتجاهات ، وصوتكَ بدأ يرتفعُ دون أن يحركّه أحد :
ـــــ أمّا الإنسان ، فعرضة للإصابة به ، فعندما يفقدُ حريته ، تبدأ الفيروسات بالانتشار ، تتوطنُ في رأسه ، وإذا ما وجدت الفرصة سانحة للخروج ، تهربُ مسرعة من الرأس ، لتدخلَ صاحبها إلى الزنزانات التي يتكاثرُ فيها الجرب .
لا أحد يمنعكَ من الحديث الآن ، قلْ ما عندكَ ، وتأكّد أنّ كلّ ما تقوله سوف يدوّن في سجّلات الدولة ، وسوف تفتحُ على ما تقوله سجون أخرى ، قلْ ما عندكَ ، فما الذي بقيَ لديكَ الآن ؟ لا أمل تعيش لأجله ، ولا صحة تخاف عليها ، ولا مال ولا بنون .
نظراتك تبحثُ في وجه الطبيب ، وأظافرك تهرشُ جلدك بقوّة ، والرغبة في قذف القيء آخذة بالاندفاع :
ــــ سينتشر الجرب في كلّ مكان سيدي الطبيب ، ما دامت الحياة تسيرُ بين شعبين ، شعب يعيش في السجون والمعتقلات ، وشعب يمارس المراقبة والحراسة عليهم ، ولا نبالي بعدها بشيء ، توقفت الحياة أم رجَعَتْ إلى الوراء ، المهم لدينا أن يكون الرأس سالما من كلّ مرض ، معافى من كلّ علّة ، محاطا بإعجاب المقربين إليه ، مانحا بركاته على الجميع .
أصابعُ الطبيب ترتعشُ وهي تمّرُ على رقبتك ، وبدون أن يحركّ لسانه ، وضعَ ما أخرجه إلى حقيبته ، ورمى إليك بشريط من الدواء ، وخرجَ مسرعا ، حيث كان بانتظاره هناك ، سلمان الشرطي المكلف بحراستك . لم تأسفْ على خروجه ، كلّ الذي فعلته ، أطلقتَ ضحكة كالعواء الحاد ، تاركا لأضافركَ حرية الهرش على جلدك المتقرح .
الحارس :

منذ عشرين سنة التحقتُ بجهاز الشرطة ، بعد اجتيازي مرحلة الابتدائية ، وحصولي على شهادة الفقر والعوز من عائلة لا تعرف غير السعي المتواصل من أجل الحصول على رغيف الخبز ، والدعاء المتواصل لتحقيـق الأمان والعافـية لعائلة منكودة ، أنجَـبَت خمسة أولاد ، واثـنين من الـبنات ، حالهم حال العائلات الفقيرة التي لا تعرف غير التعب والإنجاب في الحياة . ومنذ اليوم الأول من انخراطي في هذا الجهاز ، وأنا أتنقلُ من مكان إلى آخر ، ومن مهمّة إلى ثانية ، منـفذا كلّ الأوامر التي يأمرني بها من هو أعلى مني . عَملتُ في البداية مراسلا عند أحد الضباط الكبار ، فكنتُ كاتما أسراره ، مدافعا عن سمعته ، دقيقا في تنفيذ أوامره ، وعند ترقيته إلى رتبة أعلى ، تمّ نقله إلى بغداد ، فالتحقتُ إلى جماعة الدوريات التي تجوبُ الشوارع ، وتقفُ عند نقاط المراقبة لحفظ الأمن ، بعدها انتقلتُ إلى مناطق وواجبات أخرى ، وفي كلّ مهمّة أقومُ بها ، أكونً مثالا للانضباط والالتزام ، ومع الخيط الأول لترقيتي ، تزوجْتُ من زكيّة بنت المرحوم مبارك الفحّام التي وقعَ نظري منذ كنتُ صغيرا . رزقتُ منها في السنة الأولى بولد أسميته عيسى ، ثمّ توالت علينا الأولاد ، ومثلما وَرثتُ الفقر من أبي ، وَرثتُ منه كثرة الإنجاب ، فأنا الآن أب لتسعة أولاد وثلاث بنات .
قبل سبعة أشهر استدعاني الضابط إلى غرفته ، وقبل الاقتراب منه ، أمرني بإغلاق الباب ، ساورَني خوفٌ من هذا الفعل ، أمرني بالجلوس قريبا منه ، بعد أن أغلقَ المذياع الذي كان يلهجُ بأغنية ريفية شائعة . صوبّ لي نظرات جادة ، وحركّ كرسيه ، وأدارَ جَسدَه باتجاه المقعد الذي كنتُ جالسا عليه ، وقال لي بحزم :
ـــــ اسمع سلمان ، أنتَ شرطي ممتاز ، وسمعتك طيبة ، ودفترك نظيف .
لمْ أتركهُ يستمر في حديثه ، نهضتُ من مكاني ، وأنا أمطره بسيل من عبارات المديح : سيدي الضابط ، كلامُك على رأسي ، الله يحفظك من كلّ مكروه ، ويزيدُ نعمته عليك و... .
نظرات الضابط أوقفتْ شريط الاسترسال ، فرجعتُ إلى مكاني يلفنّي خوفي وخجلي ، فلم يمنحْني الضابط فرصة التعبير عن مشاعري ، بل قالَ بلهجة صارمة :
ـــــ سلمان ، عندما أتحدثُ إليك لا تقاطعني ، هل فهمت ؟
ـــــ نعم سيدي .
قلتها دون جهد ، فقد اعتدتُ عليها منذ عشرين سنة .
ـــــ لدينا الآن شخصية سياسية خطيرة ، والدولة تحسب لها ألف حساب وحساب ، وعليكَ أن تقوم بمراقبته وحراسته ، وأن يكون عملك في غاية السرّية والكتمان .
وقفتُ من جديد ، أدّيتُ له التحية ، قلتُ بحماس :
ـــــ لماذا لا نلقي القبضَ على هذا المجرم الخطير ؟
نهرَني الضابط بكلمات ، جَعلت العَرَقُ ينضحُ من جبهتي ، وواصلَ حديثه :
ــــــ هذا المجرم الخطير سجين لدينا هنا ، في السجن الأرضي ، وعليكَ مراقبته ، لا أريدُ أحدا يواجهه إلا أنتَ ، ولا أحد يعرف شيئا عنه إلا أنتَ ، تطعمُه وجبتين في اليوم ، بعدها تمارسُ أعمالك المعتادة ، لا تستلم أوامر من غيري ، حتى ولو جاءت من رتبة أعلى من رتبتي . هل تفهم ما أقول يا سلمان ؟
ـــــ نعم سيدي .
ـــــ لتبقَ عيناك مفتوحتين على الدوام ، تأكّد من إقفال باب الزنزانة ، احرصْ على بقاء المفتاح في جيبك ، لا تثرثر أمام أحد ، وإذا ما حصلَ خلاف ذلك ، فسأرسلُ جلدك إلى الدبّاغ ، هل أصبح واضحا ما قلته لك ؟
فتحَ بابا حديدية بمفتاح صغير ، والتقطَ مفتاحا آخر سلمنّي إياه ، محذرّا من جديد :
ـــــ هذا المجرم وصَلنا فجر اليوم ، وقد رأيتـُك الشخص المناسب لهذه المهمّة ، إياكَ أن تبوح بشيء ، أو يصيبكَ الفتور في تنفيذ واجبكَ .
مدّ يدَه إليّ ، ومَددتَ يدي إليه لاستلام المفتاح ، وأنا مأخوذ بالخوف من هذه الواجب الجديد الذي منحني الضابط إياه ، باعتباري الشرطي المثال من بين الشرطة الآخرين . نظراتُ الضابط توحي لي أنّ المقابلة انتهتْ ، وعليّ مغادرة المكان . حَشرتُ يدي في جيب البنطال العميق ، وفي قعره تماما وضَعتُ المفتاح ، وأدّيت التحية ، وخرجتُ منه دون أن أقول ما اعتدت قوله .
لمْ أنمْ ليلتي الأولى ، تقلبتُ على فراشي مرّات عديدة ، أحَسّتْ زكيّة بأنّ شيئا ما يحملُ من الخطورة يدورُ في رأسي ، حاولتْ في البداية معرفته ، فلم تفلحْ ، بعدها بدأت تـَتفـنَن في أساليب الوصول إلى ما تريد ، وصية الضابط وتحذيره لا يزال حاضرا في رأسي ، لكنّه تطايرَ أمام إلحاح زكية ، حدثتها بكلّ شيء ، محذرّا إياها من التحدث إلى أحد من أولادنا ، قلتُ لها سيلتفّ حبل المشنقة على رقبتي إذا عرف أحد بما أقوله لك . سألتني زكيّة بخوف :
ــــ وهل التقيتَ به ؟
ـــــ لم التق به ، سوف أقفُ أمامه غدا في سجنه الأرضي .
شعرتُ بالخوف يَتربعُ في عيني زكيّة ، وهي تهمسُ في أذني :
ـــــ احذر منه ، ربمّا يقـتـلـك داخل زنزانته ، فهولاء لديهم من القوّة ما ليس لغيرهم من الناس .
شعرتُ أنّ شيئا ما سقطَ من رأسي عندما أبحْتُ لزكيّة بكلّ المعلومات ، رغم أني خالطني أسف على ما قمت به ، وتساءلتُ بشيء من الاستغراب :
ــــ لماذا لا يحكم الرجال سيطرتهم على أسرارهم في الليل ؟
أوشكَ الليلُ على نهايته ، وزكيّة هي الأخرى ، لم يأخذها النوم كما هي في كلّ ليلة ، وعند الصباح ، نهضَتْ لتعد لي الفطور ، وتهمسُ بحذر :
ــــ إياك من الاقتراب منه ، ربّما ينفخُ عليك ، أو يمزقـك بأسنانه .
دعوتُ ربي أن يكتب لي السلامة ، وأن أجتازَ هذه المحنة دون أن يحدث مكروه .
غادرتُ البيت صباحا ، وزكيّة ورائي ، ترشّ الماء بيد ، وفي اليد الأخرى إناء أسود صغير تتصاعدُ منه روائح ، تقولُ أنها تطردُ الشّر وتجلبُ الخير .
عند الثامنة صباحا ، أرسلَ الضابط في طلبي ، أمرَني أن أقدّم وجبـتيـن للسجين ، الأولى في الساعة العاشرة صباحا ، والثانية عند الخامسة مساء ، وفي تمام العاشرة صباحا ، أدخلتُ المفتاح في قفل السجن ، دخلَ طيّعا دون تعثر ، وتحرّرَ القفل من قيده دون صعوبة ، شعرتُ بقلبي أقفل بالخوف ، وهو يدّقُ داخل صدري بعنف ، دفعتُ الباب الحديدي الصغير ، ولاحَتْ لي مدرجات السجن ، وهاجمتني رائحة المكان ، فسَرتْ رعشة اختضّت لها ركبتاي في بداية الأمر ، بسملتُ وعوذ لتُ وحوقلتُ ، ودفعتُ قدمي إلى الأمام ، نزلتُ إلى الداخل ، وأنفاسي أطلقها بسريّة تامة خوفا من اكتشاف ضعفي ، فيطمع عدوّي فيّ ، مستغلا حالة الجُبْن التي أعيشها . أنهيتُ النزول ، وصرتُ داخل السجن ، درجات السجن لم تكن كثيرة ، كانت بعدد الأصابع ، لكنّ عبورها مرعبا ، التصقَ نظري في الجهة المقابلة للسجن ، لم أجدْ غير رائحة الرطوبة الثقيلة ، وسكون موحش ، يتحدى كلّ جسارة الرجال وشقاواتهم ، تحركَ رأسي ببطء نحو اليسار ، لم أستطعْ إرسال نظراتي بحرية كافية ، أرسلتها على شكل دفعات ، بالأقساط كانت نظراتي تذهب ، في الركن الآخر ، وقعَ نظري عليه ، ياللفضاعة !!! أنا أمامه وجها لوجه ، التنّين كان نائما ، مكوّرا جسده بعضه على بعض ، فخذاه ملتصقان على صدره ، ويداه متعانقتان بفتور ، وقدماه متشابكان دون حركة ، لم تكن ملامحه واضحة ، شَعْر ذقنه الكثيف ، وشَعْر رأسه الأكثر كثافة ، والعتمة الغارق فيها السجن ، لم تجعلني أتبين ملامحه جيدا ، كان مغمض العينين ، وجبهته واقفة ، كتلّ ترابي تحت أشعة الشمس الحارقة في يوم تموزي خانق أمام وجنتيه الغائرتين تماما ، ضمورهما ، أعطى لجبهته هذا الارتفاع ، شَعْر شاربيه غطّى شفته العليا ، وشفته السفلى تبدو كقطعة من الجلد اليابس المشقق ، لفتَ نظري طول أظافر يديه . كان نائما ، هذه نعمة من الله عليّ ، أبخرة زكيّة لم تذهب هباء ، وضَعتُ رغيف الخبز ، وإناء فيه حبات من البطاطا بالقرب منه ، وأدرتُ وجهي عنه ، خوفا من أن يحسّ بوجودي ، فينقضّ علي ، ويمزقني بمخالبه ، أو بأنيابه ، رغم أن نظري لم يقعْ عليها فقد كان مطبق الشفتين .
تحركتُ نحو باب السجن ، قفزتُ درجاته بسرعة ، وعندما صرتُ خارجه ، شعرتُ بثقل الرطوبة وصعوبة التنفس هناك . كانت زكيّة حاضرة في دماغي عند خروجي من السجن ، لم يكن لديّ الوقت الكافي للذهاب إليها ، لأخبرها بما قمتُ به ، بعدما أرسلَ الضابط في طلبي ، قال لي بلهجة جافة :
ـــــ هل قمتَ بما أمرتك يا سلمان ؟
أدّيت له التحية بقوّة ، وبصوت منتصر ، أجبته :
ـــــ نعم سيدي .
ـــــ كيف وجدته ؟
ـــــ كان نائما سيدي ، وضعتُ الطعام بقربه ، وخرجْت .
ــــ خُـذ حذرك منه ، فهولاء يتظاهرون بالنوم من أجل مآرب أخرى .
ــــ هذا أكيد ، سأكون عند حسن ظنك سيدي .
ابتسمَ الضابط لي ، أحسستُ أنه يقلدني وسام البطولة ، بعدها تظاهرَ بتقليب الأوراق التي أمامه ، فخرجتُ .
عند الساعة الخامسة مساء ، قمتُ بواجبي ، ولكنّ الخوفَ الذي كنتُ أعيشه في الصباح خفـّت حدته ، وتلاشى صراخه في نفسي ، وجدته كما شاهدته صباحا ، وضَعتُ طعامه ، وتأكدْتُ من وجود الماء ، وخرجتُ قائلا في سرّي :
ـــــ عليّ المزيد من الحذر ، فقد قال لي الضابط ، أنه يتظاهرُ بالنوم لكي يحقـّقَ مآرب أخرى .
في الليل ، كان الحديث مع زكيّة ساخنا ، أنا أتكلمُ وزكيّة كلها آذان ، وعيناها تدوران في محجريهما ، وشفتاها تتحركان بخمول ، قلت لها مطمئننا :
ـــ لا تخافي زكيّة ، يبدو أنه لا يملك شيئا يقتلُ به .
ــــ هل لديه أنياب ومخالب ؟
ــــ لديه أظافر طويلة ، ولم ألاحظ أنيابه ، لأنه كان مطبق الشفتين .
رفعَتْ رأسها إلى سقف الغرفة ، وهي تقول :
ـــــ اللهم ادفع عنّا هذه المصيبة التي نحن فيها .
أردتُ أن أبدّد خوفها ، قلتُ لها بصوتٍ خشن :
ـــــ أيّة مصيبة هذه يازكيّة .
ثمّ أعقبتُ على ما قلته بصوت أكثر خشونة :
ــــ الرجالُ معروفون في الشدائد .
ابتسَمتْ زكيّة من قولي ، الملعونة تعرفني جيدا ، قـُمنا بواجبنا الليلي ، ونمتُ وسط دعاء زكيّة الذي لا ينقطع .
في الصباح ، خرجتُ مُوَدَعاً بإناء من الماء ، سكبته زكيّة ورائي ، ورائحة البخور تملأ أنفاسي ، ودعاء متواصل بالسلامة والأمان .
فتحتُ الباب الحديدي لتقديم طعام السجين ، ومع أول خطوة للنزول ، التصقَ الخوفُ في نفسي من جديد ، أتاني سريعاً دون أن أحسب له حساب ، دعوتُ الله على تثبيت قلبي ، واجتزتُ الدرجات الخمس ، كنتُ أحسبها بحذر ، وعندما لامسَتُ أرض السجن ، اصطدمَ نظري به .
كان جالساً على الجزء الخلفي من عجيزته ، وقد تلاحَمَتْ يداه فوق ركبتيه ، لم يتحركْ ، ربّما كانت مناورة منه ، الخبيث يهيئُ لي محاولة هادئة ، بعدها يبدأ بالانقضاض ، شعرتُ بالأرض تهتـّزُ تحت قدميّ ، والحياة تتراجعُ في رأسي ، ولابدّ من مناورة أتمكّنَ من خلالها إحباط مشروعه الذي ينوي الإقدام عليه . صرختُ بصوت ، ليس بمقدوري وصفه ، كان صوت مرتعشا ، يوحي لي بقوّة التنفيذ :
ـــ ابقَ مكانك ، لا تتحرك .
أبقيتُ مسافة كافية بيننا ، تحسبا لما هو طارئ ، لكنّه لم يتحركْ ، دفعتُ إليه الطعام ، كلّ ما فعله ، أنّ رأسه ارتفعَ إلى الأعلى قليلا ، كانت عيناه مفجوعتين بالهزيمة ، وشفتاه مسحوقتين بالذل ، ووجهه كوجوه الأشباح ، لا أثر للحياة فيه ، تراجعتُ إلى الخلف دون أن أعطيه ظهري ، انفرجت شفتاه عن أسنان ترابية اللون ، وسَقطتْ ابتسامة من شفتيه ، كسقوطِ ورقة من وردة ذابلة أماتها الجفاف ، خرجَ صوتٌ منكمشٌ من بين شفتيه ، عرفتُ على الفور ، أنّ فيهما بصيص من الحياة .
ــــ شكرا .
تراجَعتْ خطواتي إلى الخَلف ، ارتطمَ ظهري بالجدار ، وقفزتُ الدرجات ، وأوصدْتُ البابَ ، تأكدْتُ من إحكام القفل ، وأخَذتُ نفسا عميقا وسط دوار يشربني من قمّة رأسي حتى أخمص قدمي ، وابتسامته التي انتزعها من شفتيه ، كانت نديّة وفواحة في نفسي ، وكلمة ( شكرا ) وصَلتْ مليئة بالدفء . قلتُ في نفسي ، لعلّ هؤلاء ، لديهم من أسالـيب المكر والخداع ، ما يتعـدى حدود استيعابي ، ولابدّ من زيادة الحذر ، وأنا أتعاملُ مع مجرم تحسبُ له الحكومة ألف حساب وحساب .
الوجبة الثانية ، لم تكلفني كثيرا ، وجدْته نائما ، وقد منحَ وجهُه للحائط ، ولم أشاهدْ غير جسده المتكور كقنفذ ، يرتدي قميصاً لم أتبينْ لونه ، وبنطالا غادرَ لونَه هو الآخر من شدّة الاتساخ ، ورغم أنّ الظلام هو المنتصر في أجواء السجن الصغير ، إلا أنني لاحظتُ طولَ أظافر قدميه .
كانت نظرات زكيّة ، عطشى إلى إجابات ، وأنا أدخلُ البيت ، ابتسمتُ لها ، وعند الليل ، بدأت ُ أسردُ لها تفاصيل ما شاهدته ، وقد أخذتها الدهشة من أنّ السجين لا يملك قرونا يناطح بها ، أو أنيابا ، يمزّق بها أجساد الأبرياء .
انتهت ستة شهور على مهمتي مع السجين ، لم أقتربْ منه في البداية ، ولم أسمعْ منه غير كلمة ( شكرا ) بعدها بدأتُ أدخل عليه ، أنا الذي طرقتُ بابه ، بدأتُ أتعاطف معه ، كان فيه من الطيبة والبراءة ما جعلني أقدمُ على أعمال ، لو علم الضابط بها ، لأرسل جلدي إلى الدبّاغ ، وكنتُ في كلّ ليلة ، أحدّثُ زكيّة عنه ، فيزداد تعاطفها معي .
في بداية تعرفي عليه ، حَفظتُ اِسمه جيدا ( باسل غازي المخزون ) وعندما أردتُ التعرف عمّا اقترفه من عمل إجرامي قذفه إلى هنا ، لازمَه صمتٌ ، أحسستُ أنّ أنفاسَه تتقطعُ داخل صدره ، وزفرَتْ عيناه دمعتين شربهما خداه الضامران ، وأثناء مشاهدتي له ، بكيتُ ، وبّختُ زكيّة لأنها التي دفعتني إلى معرفة ما تريد .
في صباح أحد الأيام ، استدعاني الضابط ، أسرعتُ إليه ، كان جالسا بقربه رجل أصلع الرأس ، يضع على عينيه نظارات ذات زجاج سميك ، وبين رجليه حقيبة صغيرة . قال لي الضابط ، وقد بدا الاهتمام عليه :
ــــ سلمان ، افتحْ بابَ السجن ، واتركْ الطبيب يفحصُ السجين .
خرجتُ مسرعا إلى السجن ، كان الطبيبُ بقربي عندما أطلقَ البابُ صريراً خافتا ، نزلتُ قبله وتبعني بجسده الثقيل ، وعندما التقى السجين ، أمرَني بإشارة من يده بالخروج ، فخَرجْتُ مذهولا ، وأنا أتساءلُ باستغراب : ما معنى أن ترمي بسجين وسط الأمراض ، وفي مركز الموت ، ثمّ تأتي بطبيب لعلاجه . حكمة لا أعرفها ، قلت في نفسي : سأناقشها مع زكيّة ، فلعل لديها ما يفكّ طلاسم هذا اللغز المحّير ؟ .
خرجَ الطبيبُ من السجن ، كان حزيناً وخائفاً ، أسرع إلى غرفةِ الضابط ، وأسرعتُ إلى بابِ السجن ، قفلته بإحكام ، وقبل أن أنتهي منه ، وجدْتُ الطبيبَ يخرجُ مسرعاً ، ولم أتبينْ منه سوى رأسه الكبير ، وخطواته السريعة المتعثرة ، وعندما غابَ ، خرجَ الضابط ُ ماسكا بيده علبة صغيرة ، أومأ لي بيده ، أسرعتُ نحوه ، قال بصوت آمر ، مصطنعا الحزم في نبراته :
ــــ اسمع سلمان ، هذه العلبة من الدواء ، تضَعَها في إناء كبير من الماء ، وتجعل السجين يغتسل ، بعد ظهر هذا اليوم ، وسأكونُ معك بعد الانتهاء من الدوام .
الساعة الثالثة ظهرا ، دخلتُ على السجين ، كان باسل في وضع لا أستطيع تحمله ، وجهه غارق في بحر اليأس ، وعيناه كعصفورين ذبحاهما شقي ، وألقى بهما على قارعة الطريق ، ووجه لا تقرأ فيه سوى الفجيعة ، اقتربتُ منه ، اشتبكتُ مع عفونته ، أصبحتُ أعرفه جيدا ، ووفاء لعلاقتي به ، لابدّ من القيام بعمل ما ، مددَتُ يدي إليه ، أمسكتهُ من ساعده ، رجَوته أن ينهض ، ابتسمَ لي ، لم تكنْ ابتسامته شبيهة بتلك الابتسامات التي نراها ، انفراج شفتيه لغز آخر ، وراءه الكثير من الأسرار ، وضعتُ يديّ تحت أبطيه ، شعرتُ أنه يتألم بقسوة ، أطلقَ صرخة ، عندما رفعته إلى الأعلى ، أسندَ يديه إلى الحائط ، توسلتُ إليه بالصبر على آلامه ، قلتُ له : سأقومُ أنا بغسل جسدك ، عضّ على شفتيه ، سمعتُ نشيجا يخرجُ من صدره ، فيلفظُهُ فمه إلى الخارج ، دفعْته إلى الأمام ، رائحته الكريهة ، جعلتني أمام مسؤوليتي ، رفعْته من جديد ، انتصبَ واقفا على قدمين لا تقويان حمله ، لم يكنْ طويلا ، كان نحيفا إلى حد مخيف ، تمسكتُ به ، ودفعته إلى الأمام ، باتجاه سلم السجن ، وتظافر جهدي وجهده على ارتقاء السلم ، وعندما خرجَ إلى الضوء ، جاءت صرخته حزينة ، أسندْتُ ظهرَه إلى الحائط ، وأسرعْتُ إلى إناء مليء بالماء ، وضعْتُ الدواءَ ، واقتربْتُ من باسل ، بدأتُ أخلعُ قميصَه ، واجهتُ صعوبة في ذلك ، أول الأمر ، كان قميصه ملتصقا بملابسه الداخلية .
الضابط كان واقفا بعيدا ، قال لي بلهجة ، فيها اشمئزاز وتقزّز :
ـــــ اغسله بالماء في البداية ، لكي تستطيعَ خلع قميصه بسهولة .
سكبْتُ الماءَ على جسده ، وبقيْتُ انتظر ، كان رأسه منكسا إلى الأرض ، بدأ جسدُه يرتجفُ ، سكبْتُ المزيدَ من الماء عليه ، سمعْتُ هريرا يصدرُ منه ، قفزَ لي صوت المعلم وأنا تلميذ صغير وغبي :
ــــ يا أولاد ، المياه ، تغمر ثلاثة أرباع الكرة الأرضية ، والربع الباقي يمثل اليابسة .
ذهبْتُ إلى خرطوم المياه المطاطي ، وضَعتـْه على رأسه ، بدأتِ المياهُ تتعثرُ في طريقها على صفحة ملابسه ، أوقـفتُ جريان الماء بإشارة من يد الضابط ، وبدأتُ أنزعُ قميصَه ، لم أتمكنْ من ذلك ، التحَمَ القميصُ بملابسه الداخلية ، سمعتُ الضابط يقول :
ــــ ما لك يا سلمان !! اسحبه بقوّة ، ما تقوم به ، أشبه بمراهق يلامسُ حلمة نهد لفتاة مراهقة .
سحبْتُ القميصَ بقوّة ، جاء بعضه بيدي ، أطلقَ باسل نواحا ، انحدرَتْ دموعي على أثر ذلك ، أسرعْتُ إلى سكب المزيد من الماء ، استغفرْتُ الرحمن الرحيم ، سحبْتُ قميصَه ، جاء القميصُ بيدي حاملا معه بقع من جلده ، وانفجَرَ سائلٌ أصفر من مسامات جسده ، وبانتْ شروخ وتقرحات ، الدمامل المنتشرة على ظهره بدأت ترفعُ غطائها عن قيحٍ لا يمكن الصمود بوجهه ، قلتُ للضابط بلهجةٍ متوسلة ذليلة :
ــــ سيدي ، اقتربْ ، لكي ترى ما يحدث ؟
اقتربَ الضابط ُ، وقعَ نظره على الجسد المأكول بالمرض ، رأيتُ عضلات وجهه ترتجفُ بشدّة ، بعدها استدار إلى غرفته ، قلتُ في نفسي : عليّ بالماء ، أعدْتُ الخرطوم المطاطي إلى جسده ، وبقيْتُ أنقّع ثيابه بالماء ، رأيْتُ الضابطَ يخرجُ من المبنى ، امتلكني شعور بالارتياح لهذا الفعل ، أعطاني فرصة علاجه بطريقة مريحة ، قلتُ إلى باسل قولا جميلا :
ــــ ستصبح بعد قليل بخير يا باسل ، وستزول آلامك عندما يقع الدواء على جروحك .
رفعَ باسل رأسَه وسط ازدحام خطوط الماء النازلة بتعرج من شعر رأسه وذقنه ، أصبح قميصه طيّعا ، بدأ يغادرُ جسدَه حاملا معه بقعا من جلده ، وعندما انزاح تماما ، وبان جسده مكشوفا ، عاريا ، فهمْتُ أنّ الدنيا تسيرُ بالمقلوب ، وأنّ ذيلَ الأفعى هو منبع الخطر ومصدر البلاء ، اختلطَ الماءُ بالقيح ، فنزلَ سائلا أصفرا ، فاقع اللون .
كان أبي ، يصرخُ بوجه أمي ، كلّما يرى حمار الناعور ، يلهثُ من شدّة التعب ، يصيحُ بها :
ــــ عليك بالحيوان يا نجمة ، هل تريدينه يموت أمامي ؟ ألا ترينه يجّرُ أنفاسَه بجهد ، المسكين لا يقوى على الاستمرار بهذا العمل الشاق .
وتسرعُ أمي إلى الحمار ، تفكّ قيوده ، تضعُ أمامَه كمية من العلف ، بعدها تأخذه إلى النهر ، ترشرشه بالماء ، وأبي ينظر إليها بارتياح ، وعندما تعود ، يستقبلها صوت أبي :
ــــ أما قلتُ لكِ يا نجمة ، إنّ الحمارَ بحاجة إلى الراحة ، انظري إليه ، فقد عادَ نشاطه من جديد .
لم يكنْ معي أحد من الشرطة ، ثلاثة منهم ينامون في الجناح الآخر بعد الانتهاء من واجبهم ، والضابط غادرَ المكان ، والبقيّة منحوا إجازة الذهاب إلى بيوتهم ، أسرعْتُ إلى غرفة الشرطة ، خلعتُ ملابسي الداخلية بسرعة ، كنتُ عاريا تماما ، أضحكني الوضع الذي أنا فيه ، لم أتعودْ ذلك حتى في البيت أمام زكيّة ، لبسْتُ البذلة العسكرية تاركا ملابسي الداخلية ، والتقطّ قميصا ممزّقا يعودُ إلى أحد أفراد الشرطة ، وخرجتُ مسرعا ، بدأتُ أغسلُ جسدَ باسل ، كما تغسلُ الأم ولدها الرضيع ، حال الانتهاء منه ، ألبسته ملابسي والقميص ، وذهبتُ به إلى السجن ، قدمْتُ له وجبة طعامه ، وقد أضفتُ إليها وجبة طعامي التي أعدتـْها لي زكية .
عند عودة الضابط كان كلّ شيء على ما يرام ، سألني الضابط بعبوس :
ــــ هل عالجتَ السجين ، يا سلمان ؟
ــــ نعم سيدي .
وماذا فعلتَ بملابسه الداخلية ؟
ــــ لقد أحرقتـُها ، وضعتُ عليها النفط وأحرقتها .
أشعرُ بالحرج ، وأنا بـدون ملابسي الداخلية ، رأيتُ الضابـط يمدّ يده إلى كيس ، ويخرج منه ملابس ، وهو يقول بنبرة أراد بها إلغاء الحالة التي هو فيها :
ـــــ ألبسه هذه الملابس يا سلمان ، ينبغي التعامل معه بشيء من الرحمة .
أخذتُ الملابس ، نَزلتُ إلى باسل ، ألبسته القميص والبنطال ، وتركتُ البقية إلى جنبه ، وخرجْتُ التمسُ الطلبَ من الضابط بالذهاب إلى البيت .
في البيت ، كانت الدموع تتدفقُ من عيني زكيّة ، وأنا أسردُ لها حكايتي مع باسل ، وعندما انتهيتُ منها دخلتُ الحمّام ، بقيتُ فيه وقتا طويلا ، زكيّة تسحقُ جلدي بقطعة من القماش الخشنة المليئة برغوة الصابون ، وتسكب الماء بعد ذلك ، حتى شعرتُ أنّ جلدي سوف يُنتزَعُ من جسدي ، بعدها نمتُ وسط ضجيج الأحداث التي تنقرُ في رأسي ، وسيل الأسئلة التي لا أجد جوابا لها .
ثلاثة أيام انقضَتْ على العلاج ، كنتُ خلالها ، أقدّمُ الطعام لباسل ، وزكيّة تدسّ في جيبي بعض الفواكه وشطائر صغيرة ، وعندما أدخلُ عليه ، أضعَها بقربه ، دون أن يعرف أحد بذلك . في مساء اليوم الرابع ، أرسلَ الضابطُ في طلبي ، أمرَني بإغلاق الباب ، نسيْتُ إلقاء التحية عليه ، قال لي بصوت خفيض ، لكنّه يوحي بالأهمية :
ــــ ستبقى هذه الليلة هنا يا سلمان ، اذهبْ إلى أهلك ، وعُدْ إلينا مساء .
وقبل أن أغادره ، أوقـفـني بقوله :
ــــ لقد جاءَ أمرُ ترقيـتـك يا سلمان .
لم يفرحْني الخبر ، ولم أهتمْ بما قال ، فمنذ اليوم الذي أخرجْتُ فيه باسل للعلاج ، وأنا لم أَعدْ أبالي بمثل هذه الأمور ، في المساء ، عدْتُ إلى الضابط ، وجدْته هناك ، وفي بنطالي ، أضعُ برتقالة ، دسَتها زكيّة في جيبي ، لكي أضعَها مع طعام باسل .
عند العاشرة مساء ، لم أجـدْ أحدا من أفـراد الشرطة معي ، باستـثـناء الذيـن يخدمون في الجـناح الآخر . استلقيْتُ على فراش العريف الخفر الذي لم يكنْ موجودا ، والأفكار تجْرفني إلى شواطئ مجهولة تارة ، وتقذفني إلى العمق تارة أخرى ، وأنا لا أستطيع معرفة ما يحيطُ بي على وجه التحديد ، استغفرتُ ربي ، وتعوذتُ كثيرا ، ونمتُ .
قبل رحيل الظلام أمام طلائع الفجر ، شعرتُ أنّ يدا تهزّني بعنف ، قفزْتُ من فراشي فزعا ، سمعْتُ صوتَ الضابط ، يأمرني بالنهوض :
ــــ انهضْ سلمان ، الساعة الرابعة الآن .
انتابني هاجس مخيف من هذا الأمر ، أسرعتُ إلى غسل وجهي ، بعدها ، سمعتُ نداءَ الضابط ، جلستُ معه في غرفته ، لم يمّرْ وقت طويل ، شعرتُ بصوت محرك سيارة عن قرب ، ولاحظتُ شيئا من ظلال نورها ، بعدها دخلَ علينا ، ثلاثة أشخاص ، استقبلهُم الضابط بحفاوة بالغة ، وعلامات الخوف بادية عليه ، كانوا واقفين ، قلبي توقفّ عن الحياة ، سرَتْ في جسدي رعشة ، شبيهة برعشة طائرٍ مذبوح تواً ، أسرعَ الضابط إلى الخروج ، قائلا لي ، بصوت مخذول :
ــــ افتحْ بابَ السجن ، يا سلمان .
هرولتُ بطريقة آلية إلى السجن ، فتحتُ بابه ، وأردتُ الدخول إليه ، أمسكني أحدهم من ساعدي ، وسحبَني إلى الخلف ، بقيتُ متسمرا في مكاني ، ونظراتي شاردة بين وجه الضابط والفراغ الذي أمامي ، كان الضابطُ يلغي خوفه ، بانتقال قدميه من مكان إلى آخر ، حاولتُ تقليده ، ففشلت ، سمعتُ صوتَ أقدام ترتقي درجات السلّم ، خرجَ الجميعُ من السجن ، اثنان حملا باسل ، بعدما أوثقوا يديه ورجليه بحبل غليظ ، والثالث خرج من ورائهم ، كان باسل أثناء خروجه يرسلُ لي ابتسامة ، أفقدتني ما بقي لي من توازن ، خرجوا به إلى الخارج ، خرجتُ معهم ، وأنا مصعوق خلفَ الضابط ، قذفوه كخرقة بالية في حوض السيارة ، رافقه اثنان ، أحدهم وضعَ قطعة من القماش على عينيه ، وانطلقتِ السيارة دون وداع .
لم يكنْ الضابط بأحسن من حالي ، أردتُ استثمار حالة الضعف التي هو فيها ، سألته بخوف :
ـــــ إلى أين ذهبوا بالسجين سيدي ؟
نظرَ في وجهي ، ووجه يفصحُ عن إجابة واضحة :
ــــ بعد قليل ، يتمّ نقله إلى عالم آخر .
وبعصبية ظاهرة ، قال لي :
ــــ انتهَتْ مهمتك يا سلمان ، اذهبْ إلى بيتك ، وسوف أمنحك إجازة لمدة أسبوع .
في الطريق ، رميتُ حبّة البرتقال بغضب ، بصقتُ على الأرض بحقد ، وعندما وصلتُ البيتَ ، لم أتحدثْ مع زكيّة . في الليل ، أخبرتها بما حدث ، صرخَتْ ، لطمَتْ خديها ، هرع الأولاد إلينا ، مسحت زكية دموعها ، وعندما انتصف الليل ، بدأنا نبكي حتى انبلاج الفجر .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - حمد الجنديل والمنلوج الداخلي
د. سامي العلي ( 2009 / 2 / 2 - 08:59 )
قرأت موضوعا نقديا للدكتور أرشد محمود العاني حول قصة ( الهذيان داخل حقيبة الموت ) للقاص والروائي العراقي أحمد الجنديل في موقع كتابات وكان نقده يتمحور حول المنلوج الداخلي والمقارنة بين ما كتبه الجنديل وبين قصة ( شقاء ) للكاتب الروسي الشهير تشيخوف . ورغم أني كنت ساعتها قد تحفظت على بعض الآراء التي وردت فيها الا أن رحلتي مع قصة ( زفاف في معبد وثني ) جعلني أسلّم بأنّ المقارنة كانت سليمة ، ولا يسعني الا أن أشدّ على يدي زميلي الدكتور العاني على قوّة ملاحظته وقدرته الفائقة على التشريح والتحليل وصولا الى النتائج السليمة .زفاف في معبد وثني ، تداخل وتعاقب واحتدام لمنلوجات داخلية تستمد سخونتها من أجواء الاضطهاد والحرمان ودهاليز القهر والذل والاحباط وتتصاعد في وتائر من عالية من السخونة .
زفاف في معبد وثني ، تسير في بنائها على خريطة دقيقة للحدث ، وتشكل في النهاية معمارية جميلة لشكل القصة ، والدخول اليها فيه من خطافات الاقتناص لذهن المتلقي .
اتمنى للكاتب الجنديل الموفقية .


2 - الكتابة بالحبر الأحمر
عبد الرحمن عبد العزيز ( 2009 / 2 / 2 - 13:30 )
زفاف في معبد وثني ، قصة تختلف عن الكثير من القصص التي تنشر من حيث مبناها ومعناها يبدو فيها انّ الكاتب المبدع أحمد الجنديل لا يكتب بالقلم الاعتيادي ، انه يكتب بالفأس الدامي ، يكتب بالحبر الأحمر الصادق ، يكتب بعنف وقسوة ، وبهذا الاسلوب الذي ينسجم مع عنف وقسوة المرحلة التي تعيشها ، وصلت الينا ( زفاف في معبد وثني ) ساخنة وطازجة ومؤثرة ، وتشكل دلالة لابدّ من التوقف عندها في دراسة مسار القصة العربية .
شكرا للحوار المتمدن على اتاحته فرصة التعرف على أدب أحمد الجنديل .. وشكرا للكاتب الذي منحنا لحظة الحزن والتأمل والانبهار .


3 - انها قصة مخيفة
ضحى الانباري ( 2009 / 2 / 2 - 17:37 )
انها قصة مخيفة حقا وقاسية جدا ، انها تصور اضطهاد الحكومات الدكتاتوريةلشعوبها بطريقة بشعة ولا أستطيع تكملة ما أريد قوله .انها قصة رائعةوصرخة كبيرة في وجوه الظلم والاضطهاد والقهر .
والله ما قرأت قصة وتأثرت بها أكثر من هذه القصة، انها تعبر عن حقيقة مؤلمةوواقع مر وظلم ساحق وشكرا

اخر الافلام

.. طوابير أمام اللجان ودعاء الأهالي .. لحظة دخول الطلاب امتحان


.. الامتحان سهل ولا صعب؟.. مباشر لحظة خروج طلاب الثانوية العامة




.. طلاب الثانوية العامة يستأنفون امتحاناتهم باللغة العربية اليو


.. ‏في عيد الموسيقى… أهميتها و فوائدها (21-06-2024)




.. مباشر.. أسئلة لازم تراجعها قبل امتحان اللغة العربية غدًا.. أ