الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قصة قصيرة -يقظة الميت-

بسمة الخطيب

2009 / 2 / 3
الادب والفن



كانوا جالسين بثياب الحداد، النساء في مجلس والرجال في مجلس مجاور. جميعهم من أقاربي ومعارفي، وجميعهم، وهو المخيف، متوفّون!

فوق كراسي خيزران عتيقة كانوا يبكون بهدوء ورزانة. بعضهم يتمايل مع ترتيل يأتي من مكان مجهول، وآخرون يمسكون مناديل ورقيّة يمسحون بها حافّات عيونهم وفتحات أنوفهم... كان صوت المقرئ يخرق صمت الليل وبقي يتردّد في رأسي بينما رحت أغسل وجهي وأنظّف أسناني.
*
بدت الطريق إلى العمل مختلفة. المقود و"الكيلومتراج" والسيّارات العابرة ...
رأيت وجوههم الحزينة معلّقة على الزجاج الأمامي.
رحت أبحث عن سبب هذا المنام.
ولكن من دون جدوى! لم أكن قبل المنام قد تذكّرت أيّاً من موتاي أو هجس الموتُ في صدري!
كانت أيّامي الأخيرة الماضية هادئة، وكنت أشغّل في سيّارتي الصغيرة الأغنية التي رقصتُ وزوجي على ايقاعها ليلةَ زفافنا رقصتنا الخاصة: "أنا أكتر واحد بيحبك".
هنا فقط انتبهت لأنّني شارفت الوصولَ إلى "باركنغ" العمل من دون أن أشغّل "الكاسيت"!
*
لم أحكِ منامي لأحد. احتفظت به ولاحظ زملائي في العمل أنّي لست معهم.

لم أكن موجودة بين المعزّين أيضاً.
كنت أراهم من أعلى، وكأنني فوق شجرة أو عند نافذة في الطبقة الثانية، أراقبهم من خلال أوراق دالية تظلّلهم. كانت مورقة.. وكان ربيع.. ورائحة موت.

هكذا كنت، طفلةً، أراقب من نافذة بيتنا الريفي الشارعَ وحديقتنا المتداخلة مع حديقة الجيران والدوالي التي تكلّلها.
*
راهنت على أنني قد أرى المنام ثانية وأفهم سرّه. لكنّني صرتُ أرى في اليقظة مشاهد منه، تتكرّر بالحرفيّة نفسها مع مرور بطيء لأدقّ التفصيلات.. ملابس المعزّين، دموعهم، مناديلهم والمقطع نفسه من الآيات القرآنيّة، ونشيج مجهول...

فجأة انتبهت لصبيّ لا يتجاوز التاسعة من عمره يقف خلف أحد المعزّين.
خفق قلبي ذعراً.. فبرغم محاولاتي الملحّة لم أستطع التعرّف إليه.
من هو؟ ولماذا هو بين معارفي الموتى؟
*
طوال اليومين التاليين، بقي شبح الصبيّ يسكنني. من هو؟ وهل عرفته في حياتي الماضية؟

بدل التدقيق في الحسابات التي هي وظيفتي رحت أرسمه. أكثر ما كنت متيقّنة به أنّه كان هزيلاً جداً.

هل عرفت شخصاً هزيلاً؟ بل عرفت كثيرين فأيّ واحد منهم هو؟
مزّقت الأوراق، ورميت ملامح الصبيّ الغائمة في سلّة المهملات.
*
أربعة أيّام مضت والحلم يتواصل في اليقظة.
لم أعد أفرّق بين ما رأيته في المنام وما استرجعته من الذاكرة، حتى تعبت وقرّرت أن أنسى الموضوع.
*
في الصباح الخامس، عدت إلى تشغيل الأغنية "أنا أكتر واحد بيحبك"...
وفي الليل، شممت رائحة قهوة تركية ورأيت الدالية شبه عارية وبعض خُصل عنب ذابلة.
استطعت أن أرى بوضوح أكثر وجوه الراحلين، ووجه ذاك الصبيّ الهزيل الحزين، الذي بدا أكثر الوجوه حناناً وشقاءً.
رفع بصره نحوي ورمقني بنظرة اهتزّ لها قلبي.
انتفضت من النوم مذعورة ومتألّمة جداً.
*
كان أهلي قد باعوا بيتنا منذ سنوات، ولم أستطع توقّع كيف سيستقبل أصحابه الحاليون طلبي.
لكني سافرت إلى المحافظة الريفية ووصلت بسهولة إلى البيت.

دخلت ووقفت عند النافذة.
لم تكن هناك أصص زهور أو دالية... حتى الحديقة التي تطلّ عليها النافذة تحوّلت إلى منشر للغسيل... وحده منزل الجيران كان كما تركته. كأن الزمن توقّف عند عتبته.
إنّه منزل المرأة الغريبة التي رحلت مع أولادها وأنا بعد في السابعة، عائدة إلى بلدها الأصلي إثر وفاة زوجها. مذ ذلك الحين اختفت وأولادها من ذاكرتي، وكأنّهم لم يكونوا قطّ.
*
حاولت أن أتذكّر اسم المرأة.
"أم فهد، قالت أمي في الهاتف، سمعت عنها بعض الأخبار ومن دون سبب، "هيك"، لم أحدّثك عنها".

بدت لي غيمة كبيرة تنقشع من ذاكرتي وأضواء صغيرة تشعّ تباعاً هنا وهناك.
فهد هو "صبيّ المنام"، كان في مثل عمري وفي صفّي، ولم أكن أحبّه بسبب اسمه المخيف، وبسبب زكامه المزمن. كان يلاحقني يريد أن يلعب معي وكنت أفرّ منه وأتعالى عليه... في الصفّ والملعب كان دوماً حيث ألتفت... ذات يوم سألني: "فرح! هل تحبّينني؟؟"، فأجبته بلؤم البنات المغرورات: "أحبّ الجميع عداك أنت".
الحقّ أنني لا أذكر تلك الحادثة إلا لأنّ أختي الكبيرة راحت تردّدها على مسامع أفراد العائلة لإضحاكهم.

كان فهد، حين أمرض أو أرفض الذهاب إلى المدرسة، موجوداً دائماً في الحديقة.
كان يهرب من المدرسة حين لا يجدني!
حين مرضت بالحمّى مرض هو أيضاً. قالت أمّي إنها أعطت أمّه "روشتة" الدواء كي توفّر عليها أجرة الطبيب.

انهمرت أسئلتي عليها حتى وصلتُ إلى نقطة النور: لم يشف فهد من الحمّى تماماً، صار جسمه أكثر هزالاً، وبعد رحيله تفاقم هزاله، ولم يلبث في بلد أمّه بضعة أشهر حتى مات. لم تجرؤ أمّي على إخباري توجّساًً، لأنّ الفتى كان في مثل عمري "سلامة قلبك"، كرّرت بين جملة وأخرى، ولأنّنا مرضنا بالمرض نفسه.
*
هكذا بدا في المنام هزيلاً ومنبوذاً وحزيناً.
أغمضت عينيّ فوجدته في الظلام.
اقترب وجهه فتبيّنت ملامحه.
اقترب أكثر مع لحن أغنية أعرفها جيداً، بدا أنها تنبع من صدره مع لهاث وألم تلك الحمى.
غاب الوجه، لكنّ الألم استمرّ مع صدى الأغنية...
"أنا أكتر واحد بيحبك/ في الدنيا وطول عمري بحبك" ...

*
أحد قصص المجموعة القصصية الجديدة لبسمة الخطيب " شرفة بعيدة تنتظر" - دار الآداب - بيروت 2009








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مليون و600 ألف جنيه يحققها فيلم السرب فى اول يوم عرض


.. أفقد السقا السمع 3 أيام.. أخطر مشهد فى فيلم السرب




.. في ذكرى رحيله.. أهم أعمال الفنان الراحل وائل نور رحمة الله ع


.. كل الزوايا - الفنان يحيى الفخراني يقترح تدريس القانون كمادة




.. فلاشلايت... ما الفرق بين المسرح والسينما والستاند أب؟