الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قراءة في كتاب: ( لعنة النفط.. الاقتصاد السياسي للاستبداد )

سعد محمد رحيم

2009 / 2 / 4
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات


الاقتصاديات الريعية هي تلك التي تعتمد على هبة الطبيعة ( الأرض ) عبر استغلال قواها الحيوية بيسر ومن غير بذل جهود كبيرة في العملية الإنتاجية، كما هي الحال في البلدان التي تشكل إيرادات النفط أو إيرادات غيرها من الموارد الطبيعية النسبة الأعظم من مكونات دخلها القومي. وفي الغالب تغذّي هذه الاقتصاديات، ولاسيما إذا كانت إيراداتها هائلة نمط وأجهزة الحكومات الأوليغارشية والديكتاتورية، فهي تعد الأرضية الصالحة لنمو الاستبداد. وهذا ما يفسر بحسب المنظور الماركسي بقراءته للنمط الآسيوي للإنتاج ما يُعرف بالاستبداد الشرقي، وإنْ كان لهذا الاستبداد أسباباً أخرى متشابكة، لسنا بصدد الخوض فيها في هذا المقال.
في كتابهما ( لعنة النفط: الاقتصاد السياسي للاستبداد )* يتقصـى المؤلفان ( جوردون جونسون ومجيد الهيتي ) الكيفية التي بها تتوطد أركان دولة الاستبداد وتمارس سيطرتها على المجتمع في الدول النفطية، إذ لا تكون بحاجة إليه ( إلى المجتمع ) وإلى ضرائبه طالما أن إيرادات النفط تغطي نفقاتها الخاصة، وتضخم حساباتها في البنوك الأجنبية، وتجعلها تعيش في حالة من الترف والإسراف لا حدود لها، وتعزز بها آلتها القمعية، وتوزع منها على الموالين على وفق درجة الولاء لسلطتها، مبقية النزر اليسير للشرائح والطبقات الأوسع من السكان الذين يتلقون هبات الحكومة الضئيلة بصيغة مكرمات وصدقات. وقد فشلت حكومات دول نفطية عديدة ومنها الحكومات المتعاقبة في العراق في تحقيق تنمية اجتماعية واقتصادية حقيقية، أو أي نوع من الإصلاح السياسي باتجاه ترسيخ سلطة القانون وبناء دولة المواطنة والمؤسسات على أسس ديمقراطية. وهذه الحكومات غالباً ما تقفز إلى سدة الحكم ( ليس في العراق وحده ) من طريق الانقلابات العسكرية، أو من طريق توارث السلطة. وهي بذلك تديم سيرورة استمرارها في إدارة الدولة من غير الالتفات إلى قضايا الشرعية والعقد الاجتماعي ومسؤولية الدولة الأخلاقية والقانونية في إدارة موارد الأمة بما يحقق الصالح العام والمنفعة العامة. ومن غير أن تكون بحاجة ملحة إلى قاعدة اجتماعية واقتصادية ساندة.
استند الكتاب، على الرغم من صغر حجمه ( 77 صفحة من القطع الصغير )، على معطيات 48 بلداً إسلامياً يؤلف المسلمون فيها 50% من السكان فأكثر حيث يبلغ إجمالي السكان فيها 1,4 مليار نسمة، ويناهز فيها المسلمون 1,2 مليار ( أو 83% من السكان ). ومن 23 بلداً من مجموع 48 بلداً مسلماً ينتجون نحو 43% من إجمالي النفط في العالم ( أرقام 2003 ) ويبلغ هذا الإنتاج 33,3 مليون برميل في اليوم من مجموع 76,8 مليون برميل في العالم كله. ويورد الكتاب أن 73% من الاحتياطي النفطي المكتشف في العالم يكمن في البلدان المسلمة ويقدر هذا بنحو 837 مليار برميل من مجموع 1148 مليار برميل في العالم أجمع.
ينطلق المؤلفان من مبدأ ( فرضية ) يقول "تعد الحرية الاقتصادية مؤشراً أساسياً على رفاه أفراد أمة من الأمم، وهي مقياس هام لوجود المؤسسات اللازمة لنجاح الديمقراطية". وحين أُخضعت البلدان الإسلامية لمؤشر الحرية الاقتصادية لمؤسسة هريتاج لعام 2005 أمكن إدراج 41 أمة مسلمة في جدول المؤسسة وقد اتضح أن 13 أمة منها تقع في الخانة السفلى فيما يقع بلد واحد فقط في الخانة العليا وهو (البحرين ) أما العراق فتعذر تصنيفه ( إلى جانب بلدان أخرى كالصومال وأفغانستان وفلسطين والسودان )، والسبب بالتأكيد يرجع لعدم توفر المعطيات الإحصائية عنها.
يمكن للنفط أن يكون مصدر نعمة أو نقمة، خيراً عميماً أو لعنة. يتعلق هذا بنوايا الأشخاص المتحكمين به وإرادتهم وكفاءتهم.. والتحكم معناه السيطرة على هذه الثروة استخراجاً وإنتاجاً وتسويقاً وكذلك على ما تدره هذه العمليات من أموال. وبطبيعة الحال فإن الأمر له علاقة بشكل النظام السياسي لأولئك المتحكمين، وفلسفة النظام وقاعدته الاجتماعية. والتحكم بالنفط في ضمن هذا السياق مع نظام سياسي ينزع إلى الاستبداد يقود مباشرة إلى أسر المجتمع وإخضاعه وإذلاله.. نقرأ في الكتاب؛
"إن الثروة النفطية تدفع إلى تحرير الدولة والنظام السياسي من المجتمع وآليات الرقابة والمحاسبة، وتسمح هذه الثروة بتمويل آلة قمع كبيرة على شكل جيوش جرارة وأجهزة أمنية متشعبة هدفها دعم وإدامة النظام السياسي على حساب جميع الأهداف الأخرى، مما يغذي النزعة العسكرية وتغليب الخيارات المسلحة على الخيارات السلمية في حل المشاكل الداخلية والخارجية". ونستطيع إدراك صحة هذا الاستنتاج واقعياً بمراجعة بسيطة لتاريخ العراق الحديث خلال نصف القرن الأخير. والعلّة هي في غياب المؤسسات الديمقراطية ( حكم القانون، قضاء مستقل، صحافة حرة، الخ ) التي تتيح للمواطنين الاعتياديين مراقبة ومحاسبة الدولة. ففي "البلدان التي تفتقر إلى المؤسسات الديمقراطية فإن النفط عمل فيها على تعميق الفساد والطغيان والقمع".
وعموماً، ومن وجهة نظر الكاتبين، فإن سيطرة الحكومات على النفط وعائداته تفضي إلى جملة قضايا وظواهر ومشكلات منها، أولاً؛ معاناة الاقتصاد الوطني إذ أن الطلب على عملة الدولة النفطية يميل إلى الازدياد فترتفع قيمتها أكثر مما يجب فتصبح السلع الأجنبية بالتالي رخيصة الثمن فيفقد المنتجون المحليون قدرتهم التنافسية في أسواق العالم وأحياناً في السوق الوطني أيضاً، فيما الاعتماد الأحادي على عائدات النفط يُضعف التنوع الاقتصادي فيجري تركيز المستثمرين على قطاعات الاقتصاد المرتبطة بالنفط فقط، وبالنتيجة يضعف القطاع الخاص وتُخنق الطبقة الوسطى وهما، كما هو معلوم، "حجر الأساس في معمار الديمقراطية والحرية الاقتصادية" وتختنق المبادرات الفردية لتتسع الفجوة بين مداخيل السكان. "فالنخبة الثرية تزداد ثراء، ويتحول المعوزون إلى رهائن للحكومة، صاغرين لما تمليه عليهم". أما القضية أو المشكلة الثانية فترتبط بالحكومة الوطنية ومعاناتها، ويرى المؤلفان أن الثروة النفطية تكرّس انعدام الكفاءة، وتزيد في مركزة السلطة، وتنشئ رأسمالية أتباع وأقارب، ويرتفع معها الإنفاق الحكومي إلى حد التبذير. وتموّل الثروة النفطية أجهزة وأدوات القمع لتصفية المعارضة، وتكون تلك الأجهزة مدعمة بجهاز قضاء ووسائل إعلام أسيرين للحكومة. فيما تستخدم الحكومات العائدات النفطية لرشوة الجماهير، وإسكات صوت الاحتجاج عندها. بالمقابل تهاجر العقول والكفاءات إلى الدول الأجنبية لتفقد الأمة جزءاً لا يعوّض من رأسمالها البشري. ويشير المؤلفان إلى معاناة الدول الأخرى من بعض حكومات البلدان النفطية التي تموّل الإرهاب وترسل الدعاة المحرضين على العنف خارج حدودها. كذلك "تعمل الأموال النفطية على تغذية إمدادات السلاح والذخيرة عبر بلدان أخرى".
يكرر المؤلفان، في أكثر من مقام فرضية أن العائدات النفطية الهائلة لأية حكومة مهما كانت نزيهة وشرعية ( أي جاءت من طريق الانتخابات ) ستؤدي بها إلى الفساد في غضون مدة قصيرة "وذلك لأن السياسي القادر على تمويل سياساته الاقتصادية والاجتماعية، وشرطته وجيشه، مما تدره عليه الموارد الطبيعية، لا يعود في حاجة إلى الضرائب، ولن يصغي إلى الناس". ولا مناص من التذكير بأن المؤلفين يدافعان عن النمط الرأسمالي القائم على الملكية الفردية لوسائل الإنتاج والحرية الاقتصادية، حيث تكون الدولة حارسة وخدمية، والحكومة منتخبة ديمقراطياً، ومعتمدة في تغطية نفقاتها على الضرائب المدفوعة من قبل السكان.
وإذن ما الحل في دولة مثل العراق، تمتلك ثروة نفطية هائلة بعائدات كبيرة؟
يحيلنا المؤلفان بدءاً إلى مقاربة أولى تتلخص بـ "انتشار ( توزع ) السلطة الناشئة عن إيرادات النفط".. فماذا يعني هذا؟.
من تلك المقاربة الأساسية تتفرع خمس مقاربات، بحسب منظور المؤلفين؛ الأولى هي إعادة تنظيم صناعة النفط على أسس لا مركزية وذلك بتجزئة شركة النفط الوطنية إلى ثلاث أو أربع شركات منتجة منفصلة، وتجمع الوحدات والكيانات النفطية الأخرى القائمة في شركة النفط الوطنية. ويسمح بنشوء قدر من التنافس بين هذه الشركات. والمقاربة الثانية هي الشفافية، أي أن تكشف الشركات أمام نظر الجمهور عن تفاصيل فعالياتها المالية والإدارية والإنتاجية وغيرها. أما المقاربة الثالثة فتتحدث عن نظام للمدفوعات النقدية من عائدات النفط للشعب، حيث "يمكن لهذه المقاربة أن تكون أبسط الطرق وأكثرها فاعلية وسرعة للشروع في تحقيق الشفافية، وتركيز انتباه المواطن على سبل إنفاق الحكومة لأموال الشعب". وتتحدث المقاربة الرابعة عن صناديق الاستقرار، فللحيلولة دون تلاعبات السياسيين القائمين على الحكم تستدعي الحاجة "إنشاء صندوق أو مؤسسة ائتمان خاصة للاستقرار، على أن يُدار الصندوق أو المؤسسة من هيئة أمناء خارجيين ( غير حكوميين ) ومحاسبين مستقلين، ويخضع الإنفاق فيه لضوابط مقيدة تبعاً للغايات المحددة في ميثاق الصندوق أو مؤسسة الائتمان". وأخيراً يذهب المؤلفان في المقاربة الخامسة التي عنوانها ( الخصخصة أو بدائل أخرى ) إلى ضرورة إزاحة الحكومة عن دور المالك لموارد النفط ودورها المسيّر للعمليات النفطية. ومن البدائل التي يقترحانها؛ نقل الملكية إلى الشعب، أو "طرح شركات النفط واحتياطي النفط في المزاد العلني وبيعها إلى زبائن أفراد، ووضع عائدات البيع في صندوق وديعة خاص يستخدم لأغراض معينة تخدم الشعب". ويبقى نشر وتنويع سلطة التحكم بإيرادات النفط وعدم احتكار الحكومة لها في وضع دعائم حقيقية للديمقراطية والتنمية في البلدان الإسلامية المنطلق الأساس للكتاب.
والآن كيف يمكن تحويل ثروة العراق النفطية من أداة للديكتاتورية إلى قاعدة محتملة للديمقراطية؟.
يستوحي المؤلفان تجربة ولاية ألاسكا الأميركية في إقامة صندوق لاستثمار وتوزيع الإيرادات النفطية بشكل مباشر على سكان الولاية. ويقوم "هذا النموذج على ملكية المواطنين المباشرة والفعلية لأصول القطاع النفطي من خلال آليات متنوعة تهدف إلى توزيع إيرادات النفط بشكل متساو بين العراقيين".
التشوهات البنيوية التي أُصيب بها الاقتصاد العراقي طوال العقود الأخيرة بسبب الاستخدام السيئ لعائدات الثروة النفطية وهدرها تجعل من أولويات أية حكومة في هذا البلد تحقيق تنمية اجتماعية واقتصادية عميقة وشاملة، في الوقت الذي ستحدد "الطريقة التي سيتم بواسطتها استغلال وتوزيع الثروة إلى درجة كبيرة مستقبل النظام السياسي والاجتماعي، أي مستقبل الديمقراطية". ويولي المؤلفان أهمية قصوى لكيفية توزيع العائدات النفطية، ومن يتحكم بها، والقنوات التنموية التي تصب فيها. والمبدأ الذي يعتمدانه هو "أن الثروة الطبيعية في البلاد تعود بشكل مباشر إلى المواطنين وأنه يمكن إدارتها بطريقة تحقق منفعة المواطن وحرية اختياره من دون وساطة ملكية الحكومة باسم تمثيلها للمصلحة العامة". ومثالهما، كما نوهنا، ( صندوق ألاسكا الدائم )، وأول من طرح هذه الفكرة هو الاقتصادي الأميركي ستيفن كليمونز ووازعه هو"تجنب إمكانية حلول نظام استبدادي على أنقاض نظام استبدادي آخر" مقترحاً إقامة صندوق يخصص له ما يناهز 40% من إجمالي الإيرادات النفطية تتوزع أسهمه على العراقيين. ولأن الكتاب صدر في العام 2006، أي قبل الطفرة الكبيرة في أسعار النفط، فإن المؤلفان يفترضان دائماً إن إيرادات العراق النفطية تصل إلى 20 مليار دولار في السنة، وبذلك نجد أن استناجاتهما تغدو بعيدة أحياناً عن معطيات الواقع الحالي. ويومئ اقتصادي آخر هو فيرنون سميث إلى "أن أموال الصندوق يجب أن لا تقتصر على إيرادات التصدير النفطي بل تمتد إلى تلك التي يتم تحصيلها عن طريق خصخصة القطاع النفطي".
وباستعراض الكتاب للآراء المختلفة نصل إلى حقيقة أن لهذه الفكرة صداها الواسع ليس بين الاقتصاديين الأكاديميين فحسب بل بين صانعي القرار السياسي في الولايات المتحدة الأميركية ( اللاعب الأول في العراق بعد احتلاله في 9/4/2003 ). ولا شك أن خلق مثل هذا الصندوق سيعيد ترتيب العلاقة بين الدولة والمجتمع إذ "يستطيع الأخير من خلالها أن يمارس سيطرته بشكل مباشر على الحكومة عبر وسائل التصويت والضرائب، وألا تجد الحكومة من خلال احتكار ملكية وتوزيع الثروة الطبيعية فرصة للتحرر من هذه السيطرة".
( لعنة النفط ) كتاب صغير إلا أنه يمكن أن يكون مصدر إضاءة وكشف أمام النخب السياسية العراقية لمشكلة كبيرة عانى منها المجتمع العراقي منذ اكتشاف النفط واستثماره في أربعينيات القرن المنصرم. وما جاء فيه لابد من دراسته وأخذه بنظر الاعتبار، لكي لا نعيد إنتاج مآسي التاريخ مجدداً.
( لعنة النفط: الاقتصاد السياسي للاستبداد ) جوردون جونسون ومجيد الهيتي.. منشورات وترجمة معهد الدراسات الإستراتيجية.. ط1/ 2006 بغداد ـ بيروت.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. شبكة “إن بي سي”: إدارة بايدن ناقشت إمكانية التفاوض على صفقة


.. 5 مرشحين محافظين وإصلاحي واحد يتنافسون في انتخابات الرئاسة ا




.. نتائج انتخابات البرلمان الأوروبي توحي بصعود اليمين في معظم ا


.. اليمين الشعبوي يتقدم في الانتخابات الأوروبية




.. كتائب القسام تستهدف قوات إسرائيلية شرق مدينة خان يونس جنوب ق