الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


غالي الخزعلي...أوليات الحداثة في الشعر الشعبي العراقي

طالب الوحيلي

2009 / 2 / 5
الادب والفن


لا يمكن لأديب ان ينسلخ عن بيئته ومحيطه الشعبي ما دام يسعى لان يكون صوتا ملتزما يدعو الى مثل المجتمع العليا وقيمه الراقية ،فالمبدع ابن بيئته كما يقال ،لذا لابد لهذا المبدع من النزول عن برجه العاجي وصالاته المغلقة باتجاه الانتشار الوجداني مع جمهوره الواسع الذي يجب ان يتعدى حدود النخبوية ورغباتها ..
في الأدب الشعبي يمكن ان تندمج بعض الحدود بالقدر الذي يكون فيه الأديب متملكا مفرداته متمكنا من فرض اسلوبه ، ولعل الشعر الشعبي اقرب الى الذاكرة الجمعية من غيره فهو خلاصة اللغة المحكية وهو مختزل للمثل الشعبي وأقاصيصه واقرب وسيلة للفهم الدارج بما فيه من تروية شديدة يمكنها ان تمر على أعين او أسماع الأجهزة القمعية ومنصتيها .
لقد برزت على الصعيد العربي أسماء خلدت عبر منتجها من الأدب الشعبي ،بما فيهم مصطفى لطفي المنفلوطي وبيرم التونسي وصولا الى صلاح جاهين واحمد فؤاد نجم الذي شكل مع الشيخ إمام ابلغ مستوى للعطاء الإنساني الذي تجاوزا فيه حدود الخصوصية البيئية اوالمحلية باتجاه العالم العربي ،حيث قد يتذكر العديد من أبناء أجيال الربع الأخير من القرن العشرين تلك الحشرجة العنيفة التي كانت تخرج من حنجرة الشيخ إمام وهو يداعب بأنامله الرقيقة أوتار عوده مرددا (مصر يما يا بهية يمّو طرحه وجلابية الزمن شاب وانت شبه هو رايح وأنتي جيّه )..وفي ذات الوقت تفجرت أصوات التمرد على الطغيان البعثي الديكتاتوري ومرحلة الحكم الاستبدادي عبر تناغم مذهل بين أشعار مظفر النواب و أبو سرحان (ذياب كزار) وعريان السيد خلف وكاظم إسماعيل الكاطع وناظم السماوي وكاظم الرويعي وكريم العراقي ،والحان كوكب حمزة وكمال السيد وحميد البصري وطالب غالي وطالب القره غولي ،والجيل الذهبي من المغنين العراقيين ،وقد تمكنوا من اقتحام زنازين النظام وأجهزته القمعية وسرايا حزبه ،لتبقى كلماتهم وأصواتهم ترانيم يهمس بها مثقفو وبسطاء شعبنا على السواء ..
والتخفي بملتحف الرومانسية والغزل العذري ليس حكر على شعراء العربية عبر جميع الأجيال ،فهو هاجس إنساني عرف بظهور اول علاقة إنسانية متطورة في الكون الا وهو الحب كما وصفها كارل ماركس ،وقد يستهل معظم رموز الشعر العربي قصائدهم بتلك الأبيات التي خلدت اكثر من سواها بما تمتلكه من مسحة عاطفية أخاذة ،لكن هذا الأمر يتسع على صعيد الأدب الشعبي الذي تتداخل فيه السمات الوجدانية بحث لا يمكن فصلها عن بعضها ،اذ قد تكون الحبيبة ليست تلك المرأة المعشوقة وإنما هي الموطن او القضية والحزب والرفاق .. الخ .
في مبادرة جميلة من الاستاذ غالي الخزعلي في سبر أغوار عالم الأدب الشعبي العراقي والبحث عن أولويات الحداثة فيه اصدر كتابه الموسوم (أولويات الحداثة في الشعر الشعبي العراقي ـ دراسة تحليلة تراثية ) تناول الكاتب تصفح لتاريخ الإبداعي لثلاثة من أعمدة الأدب الشعبي العراقي ، وهم كل من مظفر النواب وعريان السيد خلف وكاظم إسماعيل الكاطع ،فضلا عن إشاراته القيمة للشاعر المصري احمد فؤاد نجم ،متناولا في الفصل الأول الموقف واللغة العربية مشيرا إلى أن اللغة ظاهرة اجتماعية لعبت دورا كبيرا في تطور المجتمع الإنساني كونها المترجم للفكرة وهي واسطة تبادل الأفكار والخبرات والمشاعر ،معرجا على مراحل تطور اللغة العربية والمدرستين الكوفة والبصرة ،وكونها اللغة الوحيدة التي حافظت على قدسيتها لاقترانها بالقرآن الكريم وانتشاره في العالم مع مالها من قدرة عجيبة على التطور عبر العصور المختلفة .
يقول الكاتب في هذا الفصل من كتابه (في العصور الوسيطة المظلمة في تاريخ العراق والامة العربية وبوجود الإمبراطوريتين العثمانية والفارسية ووقوع العراق تحت سيطرتهما لم تؤثر ولم تزحزح لغتاهما اللغة العربية ) والسؤال الذي يتبادر الى الذهن هو من اين أتت العامية مادامت اللغة العربية لم تتاثر بتلك المرحلة ؟!
كنت أتمنى على الأستاذ غالي الخزعلي ان يتطرق إلى هذا الجانب بالذات ،ومن ثم يتوسع في البحث بآراء الفريقان المتنازعان على الأدب الفصيح وانتشار العامية او الأدب الشعبي ،فالعامية بأصلها متراكم مفردات اللغات التي مرت على العراق منذ فجر التاريخ ولحد الآن ،اذ يمكن إحالة بعض المفردات الجنوبية الى أصلها السومري او الآشوري ككلمات (مرواح) و(هرفي) و(افلي) و(غمّ )التي تطلق على جارية الحقل حيث نصف النساء التعيسات بكلمة ( الغمّه) وغير ذلك من مفردات طرأت على اللهجة من تحريف للعربية او الفارسية او التركية او الانجليزية .
وبعنوان الشعر ظاهرة اجتماعية وفنية يتناول أكاديميا علاقة الإبداع بالنشاط البشري وما دامت اللغة هي مزيج من الكلمات والتنغيم والموسيقى ،والإيماءات الرامية الى المحاكاة كما يقول ارنست فيشر الذي استشهد به فانم الشعر هو تطور مع إيقاع الحركة والإشارة وتفاعله معها ويرجع الى فيشر حيث يقول (ان اللغة تعبير عن جميع الأشياء بمعايير العقل لكن المطلوب من الشعر ان يعبر عن الأشياء جميعا بمعايير الخيال ،الشعر يتطلب الرؤيا أما اللغة فلا تقدم غير المفاهيم )ثم يعرج الى المواقف المختلفة للادباء واللغويين العراقيين والعرب حول واقع اللغة العربية وتنافس العامية معها ولاسيما المواقف المجحفة ضد انتشار وطباعة الأدب الشعبي في الساحة العراقية مع المقارنة بالساحات العربية التي تنظر الى الشاعر شاعرا باي لغة كتب واصفا ذلك بالموقف السليم اللامنحاز.
في نهاية هذا الفصل يعزو الكاتب انتشار وتطور الشعر الشعبي الى الطبقات الكادحة وهو لهم وتأكيد لوجودهم الواعي الفاعل المتطور ،لكي يرفضة ابن الطبقة البرجوازية وينعته بشتى الصفات القبيحة والرديئة كي لا يوازيه في الموقف الأدبي و الثقافي ،لذا فهو وجه من أوجه الصراع الطبقي .كما ختم الفص اول يورد قائمة بأسماء عدد من الشعراء العرب والعراقيين لكن يؤخذ على ذلك انه لم يلم بأسماء عزيزة على الجميع ومنها اسم الشاعر ابو سرحان ذلك الطائر المهاجر البصرة الى بغداد لينقل اليها ولقوالب غنائها كل نفحات وطيبة الجنوب العراقي وعذوبته عبر عشق كوكب حمزة ابتكاراته العجيبة لمزج الأطوار ببعضها بتوليفات جريئة للخروج بقاعدة جديدة للغناء العراقي ألصميمي ابتداء من أغاني مائدة نزهت (الحاصودة والهيوه ) حتى (جنة هلي) و(الكنطرة بعيدة) ومن ثم جريمة اغتياله في الشام الذي أغفله الجميع ..
في الفصل الثاني المعنون بالمرحلة الأولى تناول الكاتب تحت عنوان الشعر الشعبي التاريخ والتواصل بعض لمحات من عصر تأسيس هذا الفن عبر ذكر عدد من الأسماء التي شكلت رمزية تراثية في صميم الذاكرة العراقية بدأ من الشاعر أبو الغمسي الخزاعي والشاعرة فدعة مرورا بالحاج زاير والملا عبود الكرخي وانتهاء برواد الشعر الحسني وضرورات الحاجة الماتمية والنفسية في تجدد أساليب الشعر الملحمي والشعائري ،ثم يسترسل في استقراء أهم أمثلة الشعر القديم كالموال (الزهيري ) وأنواعه مثل النعماني والأعرج والفتلاوي والابوذية وأنواعها والعتابة والميمر وغير ذلك من فنون، محللا النماذج المرافقة لها الى تفعيلاتها الشعرية التي اعتمدت في علم العروض .
وفي الفصل الثالث تطرق الى المرحلة الثانية التي احال الحديث فيها الى الحديث عن الشاعر مظفر النواب والانتقالة الكبيرة التي فرضتها ضرورات حركة التحرر الوطني في العراق ودول العالم الثالث والانتشار المذهل للفكر اليساري وحركة الوعي التقدمي 0ونشابكت رغبة التعبير السياسية مع رغبة التطور الفنية الشعرية في إطار من تأثيرات النهضة العربية وثقافتها وفكرها الثوري تشابكا مدهشا) ولا بد ان الحديث عن شعر مظفر النواب هو الحديث عن أهم مرحلة في تاريخ العراق السياسي وإرهاصاته ومنجزاته الفكرية ،ففي الوقت الذي صدرت دواوين السياب والبياتي وحسين مردان وسعدي يوسف وغيرهم ،صدر ديوان (للريل وحمد )فكانت ريادة الشعر الشعبي له مثلما تصدر ريادة الشعر الحديث بدر شاكر السياب .
وفي الفصل الرابع تناول مرحلة ما بعد النواب مركزا على الشاعرين عريان السيد خلف وكاظم إسماعيل الكاطع وهما يمثلان وبعض رفاقهما شهودا على مرحلة سياسية اخرى في تاريخ نضال الشعب العراقي ،بل انهما قد مثلا اللسان الشعبي للصراع الطبقي والسياسي في مرحلة السبعينات وتقاطعاتها الحادة وما عاشه الشعب العراقي فيها من تناقضات الواقع السياسي آنذاك ،وقد تناول بعض جوانب من حياتهما الإبداعية والاجتماعية الحافلة بالحيوية والنضج الروحي والجمالي والصدق في الرؤيا والتعبير .
وكان خاتمة هذه الرحلة الجميلة مع الشعر الشعبي العراقي الوقوف عند محطة الشاعر الشعبي المصري احمد فؤاد نجم وبعض نماذج شعره .
أخيرا لا بد من ان نشد على يدي الاستاذ غالي الخزعلي على هذا الجهد الرائع في زمن يقتضي منا جميعا ان نستقرئ كل تاريخنا الإبداعي والبحث في سير رموزنا الفكرية والإبداعية عسى ان نفي لهم بشيء من ذلك الهم الكبير الذي بذلوه من اجل العراق وشعبة..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. دياب في ندوة اليوم السابع :دوري في فيلم السرب من أكثر الشخص


.. مليون و600 ألف جنيه يحققها فيلم السرب فى اول يوم عرض




.. أفقد السقا السمع 3 أيام.. أخطر مشهد فى فيلم السرب


.. في ذكرى رحيله.. أهم أعمال الفنان الراحل وائل نور رحمة الله ع




.. كل الزوايا - الفنان يحيى الفخراني يقترح تدريس القانون كمادة