الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


غزة قبل عشرة أعوام 2-2..البديل الثالث

إكرام يوسف

2009 / 2 / 8
القضية الفلسطينية


كنت كتبت الجزء الأول من هذا الموضوع منذ فترة وتوالت أحداث مختلفة أجلت استكماله حتى وقع العدوان الإسرائيلي الأخير ليدفعني لاستكماله.. وكتبت في الجزء الأول عن زيارتي لغزة عام 1998 عقب افتتاح مطارها وتسليمه للسلطة الفلسطينية حينما كنت أعمل في وكالة أنباء أجنبية..وفي الحقيقة دفعتني مشاهداتي خلال ذلك الأسبوع إلى التفكير في كتابة كتاب بعنوان "بعد أوسلو..غزة فوق صفيح ساخن "..حيث أحسست أن القطتع بات قنبلة موقوتة بسبيلها للانفجار على نفسها، وفي وجوهنا جميعاولا ينقصها سوى مستصغر الشرر!. و لاحظت بدايات التناحر بين السلطة التي تفقد تعاطف البسطاء لما لمسوه فيها من فساد وتفريط، وبين حركة حماس التي عملت بدأب على استثمار خيبة أمل الجماهير لتوطيد أركان شعبية كان يكفيها مجرد تركيز الضوء على مثالب أهل "فتح" لتضمن تعاطف البسطاء المحبطين.. وجنت حماس ثمرة هذا الإحباط بفوزها الساحق في الانتخابات التشريعية عام 2005 الذي حولها من حركة مقاومة مسلحة إلى سلطة حكم، بما يفرضه هذا التحول من مواءمات والتزامات كانت في غنى عنها قبل ذلك. على أي حال دعونا نستكمل مابدأناه من حديث غزة قبل عقد من الزمان:
كانت شوارع غزة عام 98 تشبه إلى حد كبير شوارع العريش القديمة.. معظمها غير مرصوف، والبيوت بسيطة لايتجاوز ارتفاع معظمها الطابقين، رغم تناثر بضع عمارات حديثة البناء بين أحياء المدينة في تنافر غريب بينها وبين بقية البيوت. قال لي زملاء أن تلك العمارات يملكها الأثرياء الذين عادوا مع السلطة بعد أوسلو. اشار لي أحدهم إلى فيلا فخمة قائلا: "هذه بناها دحلان بعدة ملايين ثم باعها لأحد الأثرياء" موضحا أن دحلان ينتمي لأسرة شديدة الفقر لكنه عاد ثريا من الخارج!
في كل مكان، كنت ألمس ترحيبا دافئا بمجرد أن يلحظ من أقابله لهجتي المصرية (قال لي بعد ذلك صديق من ابناء مهاجري 48: "احنا بنعتبر الغزازوة مصاروة مش فلسطينيين")..تجولت في حي "الدرج"، وشاهدت الكتابات باللون الأسود على جدران البيوت، تقول إحداها " حركة فتح تزف إليكم نبأ استشهاد الشهيد فلان الفلاني" وعلى جدار مجاور عبارة تقول "ننعي إليكم الشهيدين فلانا وفلانا من حركة حماس" وهكذا، بدا الأمر كما لو كان سباقا على تقديم الشهداء!، ولمحت عبارة قديمة على احد الجدران تقول "يوم الثلاثاء إضراب عام لجميع المحلات". انتبهت إلى أن المبنى المواجه للفندق الذي أقيم فيه مطلي بطلاء جيري قبيح عليه رسم شائه لسيدة تتلفح بالعلم الفلسطيني وتحت اللوحة مكتوب "صباح الخير ياوطن". ترك الرسم والعبارة في نفسي انطباعا غير مريح. خاصة بعدما قال لي زميل أن الحكومة اليابانية قدمت للسلطة منحة عدة ملايين من الدولارات، استخدمتها في طلاء جدران المباني في الشوارع الرئيسية وإزالة ما عليها من شعارات. قلت لشخص عرفت أنه من هيئة الاستعلامات الفلسطينية: " ليتكم توثقون هذه العبارات على الجدران بالصور قبل أن يتم تلطيخها باللون الأبيض لتكون شاهدا يذكر الأبناء بتضحيات الآباء، حتى لو جرت تسوية ما!" تكهرب الجو لحظات؛ عرفت منها أن الزملاء لا يأمنون الحديث أمام موظفي هيئة الاستعلامات أو وكالة الأنباء الفلسطينية "وفا" لأنهم يعتقدون أنهم من رجال أمن السلطة!. تذكرت أيضا أن هيئة الاستعلامات المصرية ووكالة الأنباء الحكومية كانتا في وقت ما تتبعان جهاز المخابرات. وتساءلت في نفسي ، لماذا يلجأ الأشقاء إلى اقتباس حتى ممارساتنا السلبية، ولماذا لا يبدأون من حيث انتهينا؟. وطفت بمحلات شارع الرمال التجاري(كانت تشبه إلى حد بعيد بعض متاجر العتبة في مصر)، وعرجت على السوق، لم استغرب كثيرا عندما سمعت بعض الباعة يقولون لي "مع اليهود كنا مرتاحين أكثر"، وتذكرت أن بعض كبار السن البسطاء في بلدي عندما تخنقهم أحوال مصر الحالية يقولون أيضا "كانت أيام الانجليز أرحم"!. قال لي مصور صحفي فلسطيني، مازال جسده يحمل آثار حملة شامير لتكسير عظام أطفال الانتفاضة الأولى "لو كنا نعلم أن نتيجة تضحياتنا ستكون هذه السلطة الفاسدة كنا وفرنا التضحيات".

في مطار غزة، نظر الشرطي الفلسطيني الخمسيني إلى جواز سفري، وصاح متهللا "مصرية! يأ مرحب! ماتنسيش تبوسي النيل والشوارع والشجر والناس والهوا، وما تتأخريش علينا لازم ترجعي تاني تزورينا" قلت له "إن شاء الله قريبا، بعد التحرير، عندما استطيع الحصول على تأشيرة من سفارتكم" رد بأسى "مش حيحصل. ربنا قال اليهود مش حيمشوا قبل يوم القيامة!".. عقدت المفاجأة لساني، لم أكن أتصور كل هذه التناقضات بين أبناء شعب يقدم في كل يوم تضحيات تفوق الحصر لنيل الاستقلال؛ بسطاء يعتقدون أن الاحتلال قدر إلهي لن يزول إلا بزوال الحياة على الأرض، وآخرون يرون الوضع كان أفضل في ظل اليهود، وهناك من يتصارعون للسيطرة على سلطة وهمية لم تتحقق بعد، تدفعهم شهوة الحكم والسلطان والثراء، كل منهم يستخدم جميع أنواع المتاجرة؛ بالشعارات وبدم الشهداء وبالعقيدة الدينية!. وآخر ما يعنيهم، المواطن الفلسطيني ضحية الاحتلال وضحية صراع الأشقاء على الحكم.
كل ما شاهدته كان يؤكد أن غزة بالفعل تحيا فوق صفيح ساخن: يعاني أهلها خيبة الأمل في رجال سلطة أوسلو، الذين ظنوا الخير والأمان سيأتيان في ركابهم، فإذا بهم يسيطرون بما جمعوه من أموال في الخارج على أقوات من بقوا يعانون تحت الاحتلال، ويستولون لأنفسهم وأقاربهم على جميع الوظائف الحكومية، بينما واصل بقية المواطنين سعيهم للبحث عن لقمة عيش لدى الأعداء. وفي نفس الوقت، يعمل ناشطو حماس بدأب على استثمار إحباطات الجماهير وتأجيج مشاعر السخط بينهم، يدعمهم في ذلك ما يرفعونه من شعارات تعد بتطبيق شرع الله الذي يضمن العدل للرعية، وقدرات تنظيمية عالية تميز تيار الإسلام السياسي، فضلا عن قدرات تمويلية يضمنها هذا التيار من جميع أنحاء العالم.
لذلك، لم يكن فوز الحركة بأغلبية مقاعد المجلس التشريعي الفلسطيني قبل ثلاثة أعوام مفاجئا، في الأغلب كرها من البسطاء لزيد لا حبا في عمرو! . وقلنا يومها إن مواجهة الواقع من مقر السلطة أصعب كثيرا من مواجهة المحتل بالسلاح. وطالبنا "الأخوة" أن يضربوا لنا المثل في "الجهاد الأكبر" وهو جهاد النفس، وتجنب الانفراد بالكاميرا وإقصاء الآخرين. لكن الأيام أكدت أن السلطة كما يقولون مفسدة!، وانهمك "الأخوة" في صراعاتهم على الحكم، متجاوزين حرمة الدم بين الأشقاء. وعانى الفلسطيني ويلات الحصار الإسرائيلي من جهة وتناحر حماس والفصائل من جهة أخرى. وأصر البعض على حصر خيارات البسطاء في اثنين لا ثالث لهما؛ إما سلطة فاسدة تفرط في الحقوق الوطنية، وإما حكم فاشي يرتدي مسوحا دينية. غير أن التجربة فتحت عيون الفلسطينيين على ضرورة نبذ الخيارين، والبحث عن بديل ثالث يضمن الحقوق الوطنية والحياة المدنية العادلة الكريمة في نفس الوقت. ولا أظن شعبا عظيما مثل الشعب الفلسطيني عاجزا عن خلق هذا البديل.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. هل يستطيع بايدن ان يجذب الناخبين مرة اخرى؟


.. القصف الإسرائيلي يدمر بلدة كفر حمام جنوبي لبنان




.. إيران.. المرشح المحافظ سعيد جليلي يتقدم على منافسيه بعد فرز


.. بعد أدائه -الضغيف-.. مطالبات داخل الحزب الديمقراطي بانسحاب ب




.. إسرائيل تعاقب السلطة الفلسطينية وتوسع استيطانها في الضفة الغ