الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بمناسبة فوزها بجائزة - بريتزكير- العالمية عمـارة - زهـاء حديـد - : اشكاليات التناص

خالد السلطاني

2004 / 3 / 24
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق


هل قدر لنا ، ونحن على أعتاب بداية قرن جديد ، أن نتعايش مع عمارة الفترة الزمنية ذاتها التي عاصرها أناس بدايات القرن الماضي ؟! وأن نكون شهوداً للخروقات الطائشة في مألوفية التكوينات المعمارية التي اعـتدناها لآماد طويلة وولعنا بها ؟! .

فاللحظة التاريخية تكرر نفسها : إذ ما فتئنا مذهولين وحائرين إزاء ما ينتج معمارياً ويسوق لنا ، تماماً كما كان الحال قبل قرن عندما ذهل متلقو العمارة ومستخدموها أمام " حمى " التغيرات السريعة والأساليب الغريبة التي جاء بها " الار نوفو " Art Nouveau، الأسلوب التصميمي المفعم بالتجديد ، والمولع بالانحناءات الكتلوية الوثابة !! .

ومهما يكن موقفنا من النزعات التصميمية الجديدة فثمة حقيقة ينبغي الاعتراف بها الآن ، تكمن في وضوح وتجلي الحدود الفاصلة بين نهج " رواد " العمارة الحديثة وضديتهم للتاريخ ، مع الوعي التاريخي للجيل الحاضر ، بين التفكير التصميمي المعتمد على المخططات البسيطة الهندسية الصارمة ، وتلك المخططات المهووسة بانسيابية وحرية خطوط تشكيلاتها حد " الاستهتار " التكويني ، بين السعي نحو توجه الآخرين وقيادتهم ، والتوق نحو منح الشكل الفني للمنجز المعماري حياة إنسانية عادية تتيح لمستعمليه إمكانية المساهمة في تشكيلات " الفورم " المبتدع !! .
ثم …

أهي مفارقة أن تكون طروحات مصممي الدول المتقدمة غير مفهومة ولا مكترثاً بها في أوطانهم ؛ بيد أنها تحظى بتعاطف جم من مجتمعات الدول النامية ؟ فلا يجد " لي كوربوزيه " Le Corbusierمثلاً إمكانية إنجاز مشاريعه الجريئة : التخطيطية منها والمعمارية سوى السهول القصية النائية والمتاخمة إلى جبال الهملايا فينشيء مدينة " جندكار " عاصمة البنجاب بالهند ، ويسعى " فالتر غروبيوس "W. Gropius إلى اختبار طروحاته الجديدة حول " اقليمية " العمارة الوظيفية في العاصمة العراقية عندما صمم جامعة بغداد فيها ، وأن يحقق " لويس كان "L.Kahn أحلامه المعمارية في بيئات بنغلادش الغريبة ، وليضحى التعامل المهني في مواقع " دكا " الفقيرة بالنسبة إليه بديلاً طوعياً عن سلوكية نخبة مجتمعات " الايست كوست "East Coast الأمريكية ؟! .

ثم هل هي مفارقة أيضاً ، أن يتبادل معماريو الدول الصناعية أدوارهم ومواقعهم مع معماريي الدول النامية : فيعمد أولئك إلى تنفيذ مشاريعهم في دول العالم الثالث ويحقق المعماريون ذوو الأصول العائدة إلى البلدان النامية تصاميمهم في مواقع المجتمعات الصناعية المتقدمة : فيبني " أوسكار نيماير " O.Niemeyer البرازيلي إحدى روائعه في باريس ، ويشيد " حسن فتحي " المصري تصاميمه في الولايات المتحدة ويمنح " آي .أم . بي " ذو الأصول الصينية إمكانية تشييد مبانيه في أشهر المواقع الحضرية وأكثرها أهمية في مدن العالم المتقدم .

قد تكون كلمات هذا التقديم ضرورية لفهم وإدراك قيمة عمارة " زهاء حديد " المعمارية ذات الشهرة العالمية المولودة عام (1950) في بغداد ، والتي توجت سلسلة نتاجها المرموق بالفوز" المدوي " قبل فترة أخيرة بالمباراة العالمية لمجمع سيارات شركة BMW في لايبزغ / المانيا <2003 > وقبله في المسابقة المعمارية للمكتبة الوطنية في مقاطعة " دو كوبيك " في كندا <2000 > والمركز الوطني للفنون الجميلو ، في روما / ايطاليا <1998 > ومركز روزنتال للفن الحديث في اوهايا / الولايات المتحدة الامريكية <1998 > وفوزها في المسابقة الخاصة في تصميم ( جسر حداثوي ) وغيرها من المشاريع المتميزة الاخرى .

ولعل التذكير هنا ، ولو بلمحات قصيرة عن سيرتها المهنية والوقوف عند محطات فوزها الدائم والمستمر يمنح المتتبع لنهجها التصميمي الفريد ، إمكانية الإحاطة بمنجزها المعماري ، فحال اكتمال دراستها المعمارية في مدرسة ( الجمعية المعمارية ) بلندن عام (1977) ، ( بعد أن كانت قد درست الرياضيات ي الجامعة الأمريكية ببيروت 68 ، 1971) شاركت مع مجموعات تصميمية طليعية بلندن وفازت عام (1983) بحيازتها على المرتبة الأولى في المسابقة الدولية لتصميم ( نادي على قمة جبل ) في " هونغ كونغ " ، وتوالت تصاميمها ومن ثم فوزها المستمر ، كما حاضرت في أهم مدن العالم المعماري وشاركت في أهم الفعاليات الدولية لتضحى أخيراً واحدة من أشهر معماريي العقد الاخير !! .

ولا نزال نطالع ونطلع على سيول المقالات النقدية لعمارتها في دوريات معمارية متنوعة ومتباينة في مصادر نشرها وتوزيعها ، فضلاً على أن هذه ( الحمى ) الكتابية شملت مجلات غير متخصصة ارتأى محرروها أن يكون حضور عمارة " زهاء حديد " ضمن مواضيعها أمراً مناسباً ، لا يستدعي الدهشة أو الاستغراب .

ومهما يكن من أمر ، فان عمارة " زهاء حديد " تمثل في النتيجة حدثاً معمارياً مهماً سواء أكان ذلك على المستوى المهني المتخصص أو على صعيد المستوى الثقافي العام . وهذا الحدث يمتلك مقومات موضوعية لنجاحه بدءاً من أسلوبية التعبير المتميز وحتى المقدرة المؤثرة في التعامل مع صياغة فراغات التكوين للمباني التي تبدعها ، الامر الذي تطمح " زهاء حديد " من خلاله إلى تأسيس أسلوب تصميم خاص بها ، يكون مطبوعاً بتوق شديد نحو " تهشيم " اعتيادية قواعد العمارة التي تحيطنا وقيمها المألوفة .

ان هذا الأسلوب التصميمي الذي تحاول " زهاء حديد " تأشير ملامحه الخاصة مرده ليس فقط تواؤم دراستها مع فترة استقطاب مكثف في إنكلترا لخيرة العقول المعمارية سواء كان ذلك في التطبيق أم في التنظير ، وانما يكمن جزء منه ،
في هذا أيضاً .

وليس لأنها درست الرياضيات أولاً ،
وانما في هذا أيضاً .

كما أن ذلك مرده ليس كونها أجنبية تعمل في بريطانيا مخففة عن كاهلها ثقل التقاليد الصارمة التي تكبل زملاءها الآخرين ،
وإنما في هذا أيضاً‍ ! .
وليس كونها تعمل مع مجموعة من المعماريين والرسامين المتميزين حيث تدور نقاشات واسعة وصاخبة حول أهمية وضرورة إيجاد نهج تصميمي جديد ! فضلاً عن مقدرة " زهاء حديد " لحسن الإصغاء إلى الرأي الآخر حتى في أكثر التجمعات راديكالية، وأعني بهم التجمعات الطالبية التي غطت بمحاضراتها لهم رقعاً جغرافية مترامية الأطراف ،
وإنما في هذا أيضاً ..

عندما نالت " زهاء حديد " المرتبة الأولى بالمسابقة المعمارية المعلنة في عامي 82، 1983 لتصميم قمة ( هونغ كونغ ) كان فوزها إيذاناً ببدء ارتقائها الفعلي في سلم الشهرة واجتيازاً ناجحاً ومؤثراً في امتحان صعب لنهجها التصميم المتفرد .

لقد كان منهاج المسابقة ينص على خلق فضاءات مختلفة الوظائف ذات طابع ترفيهي، وحدد الموقع على قمة جبل ومنه يمكن الإطلال على مدينة (هونغ كونغ ) .

لجأت المعمارية في معالجاتها للمشروع على تكثيف واختزال كبيرين لمفردات تكوين نهجها التصميمي الذي اختبر في مشاريع سابقة، بدءاً من اطروحتها الدراسية في مدرسة ( الجمعية المعمارية ) ، ومروراً بـ " توسعة البرلمان الهولندي" ( 78 ، 79) وفي ( مسكن رئيس وزراء ايرلندا ) في دبلن (79، 1980) وفي غير ذلك من المشاريع التي أعدتها قبل " قمة " (هونغ كونغ ) ، واستطاعت بحذق ، أن توظف في مشروعها مرحلة متقدمة لنضوج تلكم المفردات في لغتها المعمارية المميزة ؛ معتمدة على تقسيم أولي وواضح لتجميع الفعاليات المتشابهة وعزلها بمستويات متباينة ، ومن ثم ربطها بصيغ معبرة ومؤثرة في آن واحد ، عبر نقاط ارتكاز مصممة أساساً لتمنح المبنى قوة تعبيرية كبيرة ، فضلاً على استثمارها لمناسب الطرق الواصلة لمبناها كحدث إضافي في إثراء ديناميكية كتل المشروع .

عند دراسة تخطيطات ورسوم " زهاء حديد " سواء كانت مخططات " القمة " أو مخططات المشاريع الأخرى مثل ( مبنى أوبرا خليج كارديف ) أو (الجسر الحداثوي ) المميز ، على المرء ، ابتداءً أن يصطفي معايير جمالية ونقدية جديدة وغير مألوفة ، قادرة على تكثيف الإحساس والإدراك بقيمة المخططات المبتدعة ، فالحدث المرئي مفعم بالحضور التام لأدوات التكوين المعماري غير الاعتيادية ! تلك الأدوات التي شكلت فيما بعد ذلك الإطار المفاهيمي الواسع والمتعدد الطبقات الذي دعاه ( جارلس جنكيسCh.Jincks) بخفة " عمارة ما بعد الحداثة " ، وبما أن هذا المفهوم هو حقاً ، متعدد الطبقات فان " زهاء حديد " تتطلع لأن تعمل ضمن حدوده وسلوكيته ، واشتراطاته أيضاً ، بيد أنها تمنح لنفسها خيارات الانتقاء التكويني ، منتجة لنا عمارة على قدر كبير من الإثارة وعدم المألوفية . وضمن هذا المعنى فان ( زهاء ) تسعى إلى توظيف مفهوم " التناص " Intertextuality كأحد المرجعيات الأساسية في صياغة طروحاتها التصميمية .

فمن مجموعة " الكونستروكتفيزم " Constructivezmالروسية بالعشرينات وبالذات من محاولات " ايفان ليونيدف " تستقي " زهاء حديد " أصول نهجها التصميمي زاعمة أن تلك المحاولات كانت بمثابة " نقطة انطلاق لها " انها تبدأ مسيرتها هناك من تلك الناحية التي توقف عندها " الكونستروكتفيزم " مقتنعة تماماً بأن " تجربتهم لم تنته بعد ، بل و " ليس ثمة نتائج " ملموسة أصلاً .

وهي في هذا المجال لا تشعر بضير كونها المعمارية المتطلعة نحو المستقبل أن تضع قدماً لها في العشرينات .

وعلى الرغم من أن كثيراً من معماريي " ما بعد الحداثة " وظفوا " التناص" في أعمالهم واعتبره جزءاً مهماً من رؤياهم الغنية فقد ظلت " زهاء حديد " تنزع لأن تجعل " تناصها " المعماري شيئاً فريداً ، يكفل لها بنجاح تحقيق منجز معماري ينطوي على قدر كبير من الفرادة المميزة ، وينأى بها بعيداً عن سياق الأعمال العادية والمجترة التي تفرزها آلياً " ورش " وعنابر " عمارة ما بعد الحداثة ! .

ولهذا أيضاً فان أسلوبها المتفرد يختلف مثلاً ، عن طروحات " باولو بورتجيزي "P.Portoghesi من أن العمارة تلد عمارة أي أن حضور " التناص" في اعمالها لا يمكنه لوحده أن يقربها من تلك الطروحات التي ينزع ( بورتجيزي ) بها إلى تأكيد فرضيته بان كل عمارة تنحدر من صلب عمارة أخرى ، ووفقاً لرؤياه فان العمارة المنجزة هي وليدة تداخلات الفكر الفردي والذاكرة الجماعية ، في حين تظل عمارة " زهاء " متسعة دائماً ، بل ومهووسة بالتجديد ، ودوماً جاهزة للتأويل ، مثلما هي مستعدة للقراءة الثانية !! .

ومع أن تكوينات " زهاء " مفعمة بروح الحداثة فإنها ايضاً تقف بعيداً عن خطابات [ نورمن فوستر] N.Foster وجماعة " الهاي ـ تيك " High-tech، ذلك لأن عمارتهم على الرغم من " عصرنتها " وطراوة الأشكال التي تنتجها ، فإنها تظل تعتمد اعتماداً كاملاً على تنظيم عقلاني إطاره المرجعي محكوم بمنطق تبسيطي : قوامه عمليات الربط والترابط للوحدة المكررة .

وإذ كان الشكل الحداثي " للهاي ـ تيك " رهن العملية التركيبية الابتدائية فان " زهاء حديد " تقترح لنا سبيكة معقدة من تداخلات المستويات الأحادية والثنائية للشكل الناجز مع الأبعاد الثلاثية للحجوم .

فمثلاً في " أوبرا كارديف " تغدو الحلول التصميمية النهائية غير مكتملة ، أو هكذا تطمح المعمارة لأن يكون مبناها ، فهي حريصة على ترسيخ الإحساس بالنتائج المفتوحة لهيئة " الأوبرا "، وتتوخى " زهاء " من ذلك وصول المتلقي لعمارتها بوعيه للصيغة الختامية للحل التكويني ، وبعبارة أخرى فان " زهاء " تغري المتلقي لا لأن يكون مشاهداً فحسب ، وإنما مشاركاً أيضاً في عملية إرساء الهيئة النهائية للأثر المعماري الذي يقف إزاءه ، وهي هنا في هذه الناحية تؤسس بعمارتها قيماً جمالية وذائقة فنية ما كان لهما أن يوجدا لولا مفهوم الطرح الحداثي للعمارة .

وربما كانت هذه الميزة التكوينية إحدى أهم خصائص لغة عمارة زهاء حديد كما أنها تؤكد فرادة الحل التصميم لـ " أوبرا كارديف " .

ان " زهاء حديد " لا تنشد لعمارتها حضور تداعي " فورمات " محددة ، بقدر ما يهمها نوعية الطاقة المفجرة لتلك " الفورمات " والتي بمقدورها أن تجعل من المنجز المعماري ، أي منجز كان ، حدثاً مهنياً مؤثراً ، ولهذا فان من الخطأ بمكان تقصي تماثلات لعناصر سابقة في أسلوبها التصميمي ، ان مفهومها الخاص " للتناص " مع عمارة " الكونستروكتفيزم " كان منوطاً دائماً باستيلاد المناخات التجديدية التي أفضت لتلك النوعية العالية التأثير والتي لازمت عمارة " الكونستروكتفيزم " سابقاً .

ولهذا فان تجليات " التناص " في عمارتها ينبغي أن ينظر لها كفاعلية إبداعية مؤسسة على إدراك تام لسجايا المؤثرات الفاعلة ، القادرة على تشكيل وإفراز عناصر تكوينية مهمتها إثراء المنجز المعماري .

وربما في هذا الجانب تكمن إضافات " زهاء حديد " التصميمية كواحدة من أبرز وجوه المشهد المعاري العالمي بحق !! . □□


مدرسة العمارة – الاكاديمية الملكية الدانمركية للفنون








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. المكسيك: 100 مليون ناخب يختارون أول رئيسة في تاريخ البلاد


.. فاجأت العروس ونقر أحدها ضيفًا.. طيور بطريق تقتحم حفل زفاف أم




.. إليكم ما نعلمه عن ردود حماس وإسرائيل على الاتفاق المطروح لوق


.. عقبات قد تعترض مسار المقترح الذي أعلن عنه بايدن لوقف الحرب ف




.. حملات الدفاع عن ترامب تتزايد بعد إدانته في قضية شراء الصمت