الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


طرائف ديمقراطية

خالد صبيح

2009 / 2 / 10
الصحافة والاعلام


الصحافة في السويد هي فعلا سلطة رابعة، وحين يجري الحديث عن الصحافة كسلطة رابعة فهذا يعني قدرتها على تشكيل الرأي العام والاستجابة لمتطلباته واتجاهات تفكيره، وبنفس الوقت قدرتها على التأثير في القرار السياسي والإداري للدولة. ولكي تكون الصحافة سلطة بحق فهذا يتطلب توفر بعض الأساسيات، أولها تكريس الديمقراطية في المجتمع وفي الدولة، وتوفر قوانين تكفل حرية التعبير وتحمي الصحافة والصحفيين، وهذا يشترط بدوره وجود قضاء مستقل ونزيه وفعال. وحرية الصحافة وتأثيرها ولعبها دورها كسلطة رقابة ومتابعة هي احد أهم المؤشرات على تقدم أي مجتمع. كما أن هذا الدور المميز للإعلام وللصحافة لا ينعكس تأثيره على الدولة والمجتمع فحسب، وإنما ينعكس أيضا، وبقوة، على القدرة الذاتية للمؤسسة الإعلامية كجهاز ينبغي عليه أن يمتلك القدرات الفنية والفكرية للعب هذا الدور مما يملي عليه اشتراطات مهنية عالية المستوى. لان حرية الصحافة وكفالتها قانونيا لا يعطي صحافة حرة وفعالة بشكل تلقائي، وإنما يتطلب وعيا للصحفي وللإعلامي بدوره وبمكانته وبرسالته.
تبدو بلدان أوربا هي الأكثر تمثيلا لهذا المعنى في الممارسة الإعلامية. فالإعلام هناك حر فعلا، ولكن ذلك لا يعني من أن هذا الإعلام غير خاضع للتلاعب وبأدواته نفسها ومن داخله.

في السويد ومجموعة البلدان الاسكندنافية تختلف حالة الإعلام نسبيا ولأسباب بنيوية وتاريخية عن مثيلاتها في أوربا. فنظام إدارة الإعلام السويدي يختلف عن غيره من حيث الآلية والممارسة. إذ أن جزء مهم وكبير من الإعلام( قنوات تلفزيونية وإذاعات) مملوك للمجتمع، أي أن تمويله يأتي من مساعدات الدولة، التي توزع مساعداتها عمليا على كل الأنشطة الإعلامية، ومن الرسوم التي يسددها كل مواطن أو أسرة تمتلك جهاز تلفزيون في بيتها. وهذه القنوات الإعلامية لا يحق لها، حسب القانون، بث الدعايات التجارية، كما لا يحق لها أيضا أن تنحاز لأي جهة سياسية أو اجتماعية، ومهمتها الأساسية هي حماية المجتمع والفرد بإبراز الحقائق لهما، وبالاعتماد عليهما كمصدر وكهدف للمعلومة وللمادة الإعلامية. وهذا الشكل لإدارة المنظومة الإعلامية يمنع أي جهة من التأثير على توجهاتها أو الاستئثار بها.

طبعا لا نتحدث هنا عن الإعلام الحر والتجاري والتابع للأحزاب رغم اتسامه هو الآخر بقدر كبير من المهنية والنظرة الموضوعية المتوازنة للأمور؛ فداخل هذا الإعلام تتشوه الحقائق أو تظهر بطريقة ملتبسة، وكمثال إليكم هذه الصيغة الخبرية في صحيفة (المترو)، وهي صحيفة يومية دعائية توزع مجانا في قطارات الأنفاق، فقد نشرت ذات مرة عنوانا في صفحتها الخبرية على الشكل التالي( حوادث عنف في الأراضي الفلسطينية بين الجيش الإسرائيلي ومتظاهرين فلسطينيين ( المقصود الانتفاضة آنذاك) راح ضحيتها 500 قتيل وجريح من الطرفين.) لكن عند البحث في التفاصيل سنجد أن هناك جندي إسرائيلي واحد قد خدش بحجارة، وان ثلاث فلسطينيين قتلوا، والبقية هم جرحى فلسطينيون. هذه عينة للتلاعب بالصيغة الخبرية، لان بعض القراء قد يكتفي بالعنوان ولا يخوض في تفاصيل الخبر، وعندها يحصل هذا القارئ على انطباع خاطئ عن طبيعة الحدث، كما إن الانطباع الذي يخلفه العنوان يمكث أحيانا في الذاكرة أكثر من التفاصيل نفسها.

وكذلك هو الحال على مستوى الصحف المحلية الصغيرة( في كل بلدية هناك صحيفة محلية تعنى بشؤون البلدية) فهناك تركيز على ما يعتبر الأكثر إثارة، وهو رصد تصرفات الأجانب وإعلانها بطريقة تظهرها، أحيانا، وبشكل خفي، وكأنها جرائم خاصة بهذه الفئة من المجتمع وليس على أنها حالة مجتمع عامة
.
غير أن الإعلام الجاد له دور آخر في متابعة الشأن العام ومعالجته. وقد أثبتت حوادث كثيرة سطوة الإعلام وتأثيره في قرارات المؤسسات المختلفة.(والإعلام في السويد هو مصدر خوف وقلق للسياسيين ولكبار المدراء والمسؤولين). فقد استقالت، على سبيل المثال، وزيرة التجارة في الحكومة المحافظة الجديدة(2006) بعد يومين من تعيينها في منصبها عندما كشفت الصحف( ويمكن أن يكون ذلك لأسباب سياسية) أنها وظفت، وهي زوجة مليونير، مساعدة في المنزل بشكل غير رسمي(بالأسود كما ينعتونه هنا)، أي بدون دفع ضرائب توظيف للدولة، وباجر متدني. والمضحك أن الوزيرة بررت سلوكها( عذر أقبح من فعل) بان ذلك كان بسبب عدم تمكنها من دفع الأجور بشكل قانوني لأنها مرتفعة. فكان العنوان البارز في اغلب الصحف ونشرات الأخبار هو: ( 17 مليون كرونة دخل سنوي لا تكفي لدفع مرتب خادمة!).

وكذلك استقالت وزيرة الثقافة في نفس الحكومة،في نفس الفترة، وبعد أيام قليلة من تسلمها لمنصبها، بعدما كشفت الصحافة أنها لم تدفع طيلة ثمان سنوات رسوم استخدام قنوات التلفزيون. وهناك أيضا حوادث بسيطة لا تعني السياسيين ويكون للإعلام فيها التأثير الكبير أيضا. مثلا ذات مرة خرجت الصحف ونشرات الأخبار بعنوان رئيسي: (مطلوب من أعمى أن يرى) والحادث يعني طالب لجوء عراقي كفيف، كان يطلب من موظفة في دائرة الهجرة أن تساعده في الحصول على خدمات ضرورية لحالته كأعمى، ولكن المسؤولة رفضت طلبه وكانت تجيبه بحدة وصراخ وبشكل مهين (وهذا غير مألوف في السويد) وتطالبه بان ينظر باتجاهها حينما يكلمها. لكن هذه الموظفة لم تكن تعلم أن المترجم اللبناني الذي يقوم بالترجمة للاجئ العراقي كان يسجل كلامها بهاتفه النقال ونقله فيما بعد للإعلام.

طبعا هكذا حوادث تسبب فضيحة للمؤسسة التي يعمل بها الموظف المسؤول ويضع مؤسسته أمام المسؤولية. وقد أثارت هذه الحادثة ضجة، وبعد يومين فقط نشرت وسائل الإعلام خبر استقالة هذه الموظفة.( والاستقالة أو الإقالة هي عقوبة ليست هينة في السويد). ومثل هذه الإجراءات لا يمكن أن يكون شكليا أو كاذبا، لان الصحافة لديها وسائل واليات لمتابعة تطبيق هذه الإجراءات، وعليه لا يمكن لأي جهة أن تكذب وتدعي بأنها اتخذت الإجراء فقط لإسكات الرأي العام أو الصحافة.

وهناك حوادث وبرامج تلفزيوينة كثيرة تعالج مختلف شؤون المجتمع يمكن العثور فيها على حوادث مختلفة، بعضها طريف، عن دور وتأثير الإعلام. ولكن أهم حادث وقع قبل بضعة أيام وهو ضبط رجال شرطة يتلفظون بألفاظ نابية ذات طابع عنصري ضد مواطنين من أصول أجنبية. ورغم أن هذه الحادثة كشفتها المحكمة لكن الإعلام تلقفها وحولها إلى قضية رأي عام. والحادث جاء على خلفية حوادث شغب وقعت في العام الماضي شهدتها منطقة (شعبية) في مدينة (مالمو) جنوب السويد تسمى (روزنبورغ، الضاحية التي عاش فيها نجم الكرة الشهير زلاتان ابراهيموفيتش) وكان سبب أعمال الشغب هو إغلاق مركز إسلامي في الضاحية. وكما أكد احد العاملين بأحد المراكز الإسلامية في المنطقة لقناة الجزيرة القطرية حينها، إن المشكلة سببها خلاف بين الجمعية الإسلامية وبين ادرة شركة السكن التي تملك بناية الجمعية الإسلامية، لان الشركة بعدما أنهت عقد الجمعية أرادت استلام المبنى فاعترض شباب ساخطون، لأسباب عديدة، وأثاروا أعمال شغب تصدت لها الشرطة. وتردد بعض الهمس من أن هذه (الحركة) من الجهات الرسمية كانت لجس النبض واختبار حجم ردود الفعل التي يمكن أن تصدر من مثل هذه المناطق. فبعد أحداث ضواحي باريس تحسبت السلطات السويدية لحوادث مشابهة يمكن أن تحدث عندهم. وقد يكون لهذه الواقعة دافع مفتعل على خلفية هذا التحسب، ومن اجل دراسة الأوضاع واحتمالاتها.

المهم إن هذه الأحداث أدت إلى اتهام شاب من القائمين بأعمال الشغب وقدم للمحاكمة. وكانت الشرطة تريد تقديم دليل للمحكمة يدين هذا الشاب فقدمت فلما قصيرا مصورا بكاميرا تلفون محمول، ولكن الفلم القصير كشف عن حديث مازح بين أفراد الشرطة في السيارة تضمن أوصافا عنصرية مهينة نعتوا بها ذوي الأصول الأجنبية، فأثيرت ضجة وتحولت القضية من دليل إثبات إلى دليل إدانة ضد الشرطة. ودار جدل سياسي وقانوني حول ما إذا كان ذلك سلوكا عنصريا أم خطأ وظيفيا. وأثيرت مسالة مدى تأثير هذا السلوك على الثقة بين جهاز الشرطة والمجتمع، وأشرك جهاز الشرطة في دائرة المساءلة الإعلامية عبر مطالبة رؤساء الجهاز بتقديم تفسير للحادث وموقف منه.
واضطرت إدارة الشرطة (بالمناسبة اغلب قيادات الشرطة في المدن الكبيرة هن من النساء) إلى إدانة الحادث وتقديم الاعتذار واعتبرت أن هذا السلوك هو سلوكا فرديا يعبر عن رأي وسلوك هذه العناصر وليس جهاز الشرطة. وقد حظي هذا الحادث باهتمام إعلامي ونوقش في برنامج تلفزيوني شهير اسمه ( ديبات)، أي مناظرة، ويديره إعلامي كفوء جدا.

ولا تزال تداعيات هذه الحادثة مستمرة وستثير بعض الجدل والنقاش حول طبيعة عمل المؤسسات وفكرة المساواة في الحقوق لكل المواطنين بغض النظر عن خلفياتهم وأصولهم
.
هذا المستوى من الحيوية والجدية في تشخيص المشاكل ومعالجتها لا يمكن أن يحدث إلا في مجتمع متحضر وديمقراطي وحداثي.
وليس لي في الختام سوى أن أتمنى مثيل لهذا النموذج لمجتمعاتنا.









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - دكتاتورية السلطة الرابعة
حميد كشكولي ( 2009 / 2 / 9 - 23:26 )
شكرا زميلي خالد على هذا الموضوع الشيق ولكنني أرى أنه
من الغريب أن لا أسمع في السويد أي انتقاد لحالة وسائل الاعلام التي تكاد أن تصبح دكتاتورية في الواقع العملي. غالبا ما قرأت لصحفيين سويديين ، يسخرون من ايطاليا حيث يمتك برلشكوني كل الميديا تقريب ، بينما كبريات وسائل الاعلام ، عدا التلفزيون الرسمي ، مملوكة لبضعة شركات رأسمالية كبرى في القطاع الخاص. عائلة بونيير تملك
ودور السينما DN أكبر جريدة يومية , City, Expressen, TV4
أما شركة شيبستيدت فتملك سفينسكا داغبلادت و افتونبلادت و وكالة تي تي للانباء و بريمو
و عائلة فالنبري ايضا تملك وسائل حساسة اعلامية وفائقة الاهمية مثل شركات الانتاج السينمي و الانسكلوبيديا وغيرها.
مالكو هذه الميديا واكثرهم يهود لا يمكنهم الا توجيه اعلامهم لحماية مصالحهم الشخصية اولا و دعم السياسيين الذين بعملون لصالحهم وهم يتمكنون من توجيه الرأي العام والتاثير على الحكومة بالشكل الذي يريدونه.


2 - موضوع شائق ومراقبة دقيقة
صائب خليل ( 2009 / 2 / 10 - 10:26 )
شكرا أخي العزيز خالد على الموضوع الشائق والمراقبة الدقيقة.
أتساءل إن كان المسلمون مثلاً قادرون على التخلص من التهم من خلال تصريح بأن حادث ما يمثل -أمراً فردياً- لا يعبر عن رأي المسلمين.
إضافة الزميل العزيز حميد مهمة أيضاً، فشكرا لكما.

اخر الافلام

.. الجيش الإسرائيلي يُصدر أوامرَ إجلاءٍ من رفح ويقصف شمال القطا


.. قصف متبادل بين مليشيات موالية لإيران وقوات سوريا الديمقراطية




.. إسرائيل و-حزب الله- يستعدان للحرب| #الظهيرة


.. فلسطين وعضوية أممية كاملة!.. ماذا يعني ذلك؟| #الظهيرة




.. بعد الهجوم الروسي.. المئات يفرّون من القتال في منطقة خاركيف|