الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


جزء من حكاية الوجع

البتول المحجوب

2009 / 2 / 13
الادب والفن


هدير شاحنات يضجر هدوء الليل الجميل في ليلة معتمة.شاحنات تتسلل من أمام باب معتقل “اكدز”الرهيب في اتجاه مصير مجهول، عرفنا فيما بعد اننا نتجه نحو معتقل”قلعة مكونة”، كانت ليلة ليلاء..
أه لوتعرفين كما قاسينا ليلتها. كقطيع غنم مقيدي الأيدي والأرجل معا، بعضنا مكدس فوق بعض في شاحنات غنم. بل الغنم أكثر حرية منا تستطيع الصياح والثغاء متى شاءت أما نحن بشق الأنفس نكاد نتنفس، تحت وطأة أحذية قذرة لحراس أكثر قذارة، أحذية جعلت وجوهنا وظهورنا جسر عبور.
لانسمع الاانين بعضنا فالأعين معصوبة والأيدي مقيدة مع الأرجل. بعضنا يئن من الم قيد الحديد وبعضنا مصاب بالاختناق وأخرون بغثيان لاسبيل لرده.
اه لوتعرفين عندما اجلس ألان وحدي، بعد كل هذه السنين لا اسمع الا صدى أنين رفاق العتمة عبر سنين المعاناة الطوال.مازلت أتحسس أثار قيد الحديد في معصمي إلى اليوم..وأتذكر رفاق الدرب هناك .
بعد مسافات ومسافات يتوقف هدير الصوت. تتسلل الشاحنات تحت جنح ظلام ليلة أخرى لترمي بنا داخل ذاك المعتقل الرهيب.
كل مجموعة في زنزانة لاتزيد عن أمتار. نتكدس بداخلها كأنها علبة سردين نتن. زنزانة بقلعة نائية جدرانها باردة، رائحة الخوف والمجهول. بل رائحة الموت البطئ تفوح منها..لاشمس ولاهواء..عالم مجهول مخيف..نظر كل منا إلى الأخر بصمت. الصمت أحيانا أكثر تعبيرا.
بدأنا نسمع دقا على جدران ذاك الحائط البارد جدا. أخفى احدنا دموعه..واخرأكثر شجاعة منا ظل يردد على مسامعنا:
-اصبروا ففرج الله قريب…
أغلق باب الزنزانة.زنزانة فارغة الأمن غطاء رث تفوح منه رائحة الموت، ووعاء لقضاء الحاجة..حتى قضاء الحاجة نقوم به داخل الزنزانة أما المرحاض فلم يكن مسموح به إلا مرة واحدة في اليوم..وفي ظلام الليل غالبا ما يصطدم احدنا بالوعاء حدث ولاحرج.فقدنا حاسة الشم أوبالا حرى تآلفنا مع رائحة البول وأشياء أخرى.. بداية كنا نصاب بالغثيان من تلك الرائحة..نختنق..وعندما يفتح الباب صباحا، يأمر الحارس احدنا بحمل الوعاء وتفريغه رغم الضربات التي تصحبه ذهابا وإيابا ، يخرج محملا بوصايا رفاق الزنزانة إن وجدت أعقاب سجائر حاول أن تجلبها معك. يخرج تحت رحمة ضربات الجلاد اللعين..عينه هنا وهناك علها تلتقط عقب سيجارة لأصدقائه. فهم نسوا طعم السيجارة .في طريق عودته يلتقط بعض أعقاب السجائر….لكن لاعود ثقاب ولاولاعة يقول احدهم..يرد عليه الاخر متهكما:
-.ياسلام ولاعة…؟ هل تحلم..؟المهم دعنا نشم رائحتها..
كل شئ ممنوع في هذا المعتقل الرهيب لاسيجارة..لاورق لاقلم لاكتاب..كل شئ ممنوع لامحاكمة..لازيارة. لاشئ غير التعذيب والمجهول يبتلعنا مع الموت البطئ..بدا الحزن واليأس يأكل الرجال والنساء معا وبدأت قافلة الشهداء تمتد بعد أن فقدنا أكثر من ثلاثين شهيدا في المعتقل الرهيب “باكدز”ها هي قافلة الشهداء تمتد من جديد بسقوط شهداء جدد بمعتقل “قلعة مكونة”معلنة عن غياب أخر وعن يأس لاشفاء منه، فقدان الشهداء الواحد تلو الأخر ليس بامرهين علينا نحن من تقاسمنا المعاناة وكل أصناف التعذيب معا.
كلما استيقظنا صباحا نحمد الله أننا مازلنا على قيد الحياة رغم المعاناة..نصارع من اجل أمل مجهول قد نطلع منه وقد نغرق في حلم لانهاية له.نحلم ونحلم تختلف الأحلام من مختطف لأخر..ونتفق جميعا على حلم واحد هو أمل الخروج من هذا القمقم اللعين..
فرحت يوم سمعت طائرا مغردا على سطح الزنزانة..شعرت بالحياة..تمنيت أن يظل الطائر مغردا لكن…
اسأله لكن ماذا..؟
يصمت ويبدأ في البحث عن علبة سجائره ،أسرع في البحث عنها بين أوراقه المتناثرة ،افتح العلبة بارتباك أقدم له سيجارة..اشعر انه مرتبك أكثر..انتظر أن ياخذ نفسا كي يستأنف الحديث..لكن شعرت أن الصمت بدا يسرقه ..أمسكت بيديه عله يهدأ..بدأت انظرالى عمق عينيه..قبلت دمعة نقية منهمرة على خده .وضعت رأسه على صدري..شعرت انه أصبح أفضل عندما اخذ نفسا طويلا من سيجارته..ابتسمت له وطلبت منه أن يتابع الحكي.
نعم عزيزتي ماذا عن الطائر..؟ الطائر فقد التغريد فجأة..بعد إطلاق احد الحراس النار عليه..أتعرفين بكيت يومها طويلا على الطائر الشهيد..ونظرت إلى اصدقائي فاذا الاول مشلول الحركة من نقص التغدية وسوء المعاملة..والثاني يزحف على أربع..والثالث مصاب بإسهال لاشفاء منه، والرابع مصاب بهذيان يدفع الى الجنون..والخامس أكثر صمودا..يطمئن الكل..ويعدهم بفرج من الله قريب..تحملوا..سيأتي يوم على الظالم..
والسادس يرفض جرعة الأمل..والسابع يغمض عينيه ويحلم بأمه .بطيبتها وببسمتها الدافئة، ويبكي بحرقة متمنيا أن يرى تقاسيم وجهها يوما ما قبل أن يسرقه الغياب.
والثامن يحلم بامرأة تداوي بدفء شفتيها ألام جراحه..والتاسع يحلم ببسمة طفل برئ.. ويرى في حلمه أن الطفل سيكبر يوما ويكبر معه السؤال…والعاشر.. والائحة تطول يرفض الحلم ويبقى يصارع الواقع المر، يصارع سوط جلاد ومعاناة جدران باردة صماء .يغضب من كل شئ يسب يشتم ويتلقى ضربات إضافية من جلاد لايرحم..لايحق لك يا ابن الكلب أن ترفع راسك وأنت تمشي..طأطأ راسك والا.. يتحداه قائلا:
- الموت واحد لن أطأطأ راسي
يرفض الذل رغم الضربات، رغم الوجع ورغم سياط جلاد لا يرحم..قرر أن يمشي مرفوع الرأس حتى وان كانت حياته ثمنا لذلك..











التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - أنت تسطرين ملحمة الوجع
عبد الوهاب المطلبي ( 2009 / 2 / 13 - 08:07 )
ارق التحايا للقاصة المبدعة بتول المحجوب وهي تسطر لنا ملحمة الوجع.... من خلالها تستيقظ أحزاننا من رتابة الزمن الذي يجعل كل منا يحمل نوعا من السجن وكل يحاول الافلات كالطائر الغريد يغرد ويغرد... يصرخ باغانية هي كل ما يتركه هذا الكائن الانساني..
المهم نضع قطراتنا المميزه في هذا النهر الكبير الواسع سعة الحياة
دمت قاصة مبدعة
عبد الوهاب المطلبي


2 - تحية تقدير لك عبد الوهاب
البتول المحجوب ( 2009 / 2 / 13 - 14:31 )
سعيدة عبد الوهاب
بحضورك البهي بحيز النص
شكرا جميلا
لانك تشاطرني الوجع والفرح ايضا
لك مني كل التقدير والاحترام

اخر الافلام

.. عام على رحيل مصطفى درويش.. آخر ما قاله الفنان الراحل


.. أفلام رسوم متحركة للأطفال بمخيمات النزوح في قطاع غزة




.. أبطال السرب يشاهدون الفيلم مع أسرهم بعد طرحه فى السينمات


.. تفاعلكم | أغاني وحوار مع الفنانة كنزة مرسلي




.. مرضي الخَمعلي: سباقات الهجن تدعم السياحة الثقافية سواء بشكل