الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تقرير المصير بين الإيديولوجية والانتهازية

محمد باليزيد

2009 / 2 / 13
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المغرب العربي


إبان الحرب الباردة في القرن الماضي، هذه الحرب التي لم تكن باردة إلا بالنسبة للكبار وليس بالنسبة لملايين الناس الذين احترقوا في بؤر التوتر، كبيادق شطرنج يسقطها الكبار وهم يقهقهون (1)، إبان هذه الحرب ساد ما اتفق عليه ب"حق تقرير المصير"علما أن هذا جاء كذلك نتيجة مرحلة بداية تخلص العالم من حقبة الاستعمار المباشر. إذن فحق تقرير المصير له بعدان. الأول كما قلنا إيديولوجي مرتبط بالصراع بين القطبان والثاني تحرري محض مرتبط بمحاولة التخلص من براثن الاستعمار.
كان المغرب إبان قوة الدولة المغربية، كما هو الحال في عهد الدولة الموحدية والمرابطية، دولة شاسعة الأطراف. وكانت هذه الشساعة تضيق وتتسع حسب الظروف وقوة الدولة المركزية. وهكذا، ومثلما هو الحال بالنسبة لكثير من بقع العالم، لم تكن هناك حدود قارة لدولة "المغرب الأقصى". وبعد أن تقوت الدول الأوربية المجاورة، ووصلت الدولة المغربية أوج ضعفها بعدما صمدت كثيرا، استطاعت، الدول الأوربية دخول المغرب وتقسيمه في إطار المعاهدات الإمبريالية. فاستولت فرنسا على وسط المغرب من طرفاية حتى جبال الريف وأخذت إسبانيا شمال جبال الريف وجنوب المغرب من طرفاية حتى موريتانيا وكانت هذه الأخيرة، موريتانيا ، من نصيب فرنسا.
لقد كان من الممكن، لولا التقسيم الاستعماري وما نتج عنه بعد ذلك، أن تتشكل أمة مغربية على كل التراب الذي سيطرت عليه الدولة المغربية إبان قوتها، ما عدا الأندلس. أمة تمتلك كل مقومات الأمة من لغة وثقافة بمعناها الواسع وبقعة جغرافية. ولقد اندمج اندماجا كاملا داخل هذه الأمة المكون الأمازيغي و"الصحراوي" مثل المكونات الأخرى، العربي والأفريقي. كما تجدر الإشارة إلى أن هذه المكونات الثلاث لم تكن معزولة جغرافيا في بقع يمكن تخصيصها لها دون تشتيت الكيان إلى ممالك بحجم قرى.
خرج الاستعمار، مما طاب له أن يخرج منه، وتسلمت البرجوازية الفاسية والسلالة العلوية مفاتح الحكم. وبقيت إسبانيا في الصحراء المغربية ومدن شمالية وجزر مهمة كما أنشئت دولة مستقلة على التراب الموريتاني.
في بداية السبعينات طرح المغرب ملف الصحراء على الأمم المتحدة، وتجدر الإشارة إلى أنه يمكن اعتبار ذلك مجرد لعب للنظام المغربي ينوي من ورائه ما ينوي ولا أدل على ذلك من عدم طرح الملف كاملا والسماح بفصل ملف سبتة ومليلية والجزر عن ملف الصحراء.. (2) في خضم هذا تبنى اليسار المغربي، في السبعينات، مبدأ "حق تقرير المصير بالنسبة "للشعب الصحراوي". وإذا كان هذا الموقف آنذاك منسجما مع الظروف بحكم أن النظام المغربي كان يدور في فلك القطب الإمبريالي، (3) وبالتالي فإن إضعافه بأية وسيلة شيء مقبول ولو باقتطاع مناطق من "أرضه" وضمها إلى القطب التحرري. ناسيا، اليسار المغربي، في خضم حمى الصراع أن الأرض وأهلها لا تقتطع من القصر الملكي بالرباط وإنما تقتطع من وحدة شعب كامل هو في أمس الحاجة إلى الوحدة والقوة لمجابهة طغيان حاكميه أكثر مما هو في حاجة إلى دعم استاليني. هكذا إذن كانت النتائج وخيمة. فمن جهة أعطيت بذلك بعض الشرعية لجبهة البوليساريو. ومن جهة وضع اليسار المغربي نفسه في عزلة وأعطى لجهاز إدريس البصري عصا غليظة لكسر أضلعه بها، إنها تهمة "الخيانة الوطنية والعمالة للخارج". نحن لا نتكلم هنا بلغة: "كان على اليسار المغربي أن يفعل كذا وكذا" فتلك رؤية حكمتها ظروف أقوى من الإرادات الشخصية والنوايا الحسنة. لكن من واجبنا أن نستخرج ما استطعنا من دروس من التاريخ. والآن ما يزال بعض اليسار المغربي إما يعتقد بصلاحية هذا المبدأ رغم تغير الظروف وإما أنه يرى أن ذلك كان مبدأ معلنا ولا يصح تغيير المبادئ ولو تغيرت الظروف!. وأن أقصى ما يمكن فعله هو محاولة تكييف المبادئ مع الظروف.
لم يكن يخفى على أحد منذ القدم أن القوة في الوحدة. سواء تعلق الأمر بالأفراد أم الجماعات، وإذا كان هذا واضحا منذ القدم فإنه لا يمكنه إلا أن يزداد وضوحا الآن ويزداد إلحاحا. وباستثناء حالات نادرة كاليابان فإن الدول القوية هي دول كبيرة مثل الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا وأوربا التي تخطو نحو الوحدة بخطى ثابتة. وأنه لا يستطيع أن يدعي أن تقسيم الدول الشرقية (سابقا) وخروج كيانات صغيرة منها ككوسوفو في صالح هذه الشعوب سوى الدول الكبرى التي تسعى إلى إبقاء مناطق من العالم مجرد دويلات تدور في فلكها. وحدها إيديولوجيا تلك الدول، ولو أيدتها إيديولوجيا الأمم المتحدة تستطيع أن تدعي ذلك.ومن ستطيع أن يزعم أن مصلحة كردستان هي في استقلاله أو أن مصلحة الأكراد هي في فصلهم عن دولهم وتكوين دولة خاصة بهم ومن يستطيع أن يزعم أن مصلحة الأفارقة هي في تكوين دول بحجم قبائل غير إيديولوجيا الدول القوية.
في إطار أنظمة غير ديمقراطية وتحت سيطرة نخبة مركزية تُهمش مناطق بأكملها أو أقليات عرقية أو ثقافية أو دينية، من الطبيعي أن ينمو الإحساس بالغبن سواء لدى هذه الأقليات أو لدى نخبها. لكن النخب يجب أن تكون بوصلة قواعدها وليس عازفا انتهازيا يعزف على الوتر الذي يوصله إلى أغراضه الشخصية. يجب على النخب أن تعي، ولا نظنها تجهل ذلك، أن مصلحة قواعدها التي تعاني من التهميش، وكذا مصلحة الجهات والفئات التي لا تعاني بنفس الدرجة، هو في وحدة كل هذه الفئات والجهات من أجل بناء وطن قوي ومن أجل مقارعة البرجوازية المسيطرة التي لا تهمها جهة من الجهات ولا فئة من الفئات بقدر ما يهمها تأبيد سيطرتها. فحاكم ديكتاتور يفضل التحكم في إقطاعية من عشرة آلاف قن على التربع على كرسي رئاسة أو عرش إمارة وطن كبير محكوم بشكل ديمقراطي. إن تركيز النخب على الخصوصيات، سواء الجغرافية أو الثقافية أو غيرها من الخصوصيات، في مواجهة السلطة المركزية وفي مواجهة الوحدة لا يدل سوى على رغبة هذه النخب في إيجاد موطئ قدم لها واقتسام الغنيمة مع السلطة المركزية.. كما أن استجابة السلطة المركزية لمثل هذه المطالب على شكل ما يسمى بالجهوية أو اللامركزية أو استقلال ذاتي لا يمث لا من قريب ولا من بعيد إلى تعاطي السلطة المركزية مع مصلحة الشعب بقدر ما هو استجابة لضغوطات النخب المحلية من أجل الحفاظ على ما يمكن الحفاظ عليه بأقل ثمن. وأحيانا تكون شعارات مثل الجهوية فقط بهدف خلق وهم "حراك سياسي" وبهرجة لا أقل ولا أكثر.
لقد تحركت في الأخير نعرات انفصالية أو شوفينية غذتها كما قلنا سياسة الدولة التي تهمش جهة وتكرم، لحسابات سياسية ضيقة، جهة أخرى. كل ذلك في صراعها ضد تبني نظام ديمقراطي اجتماعي يشعر فيه كل المواطنين بأن مواطنتهم تامة كيفا كان بعدهم الجغرافي عن المركز وكيفما كان تميزهم عن الأغلبية. وينمحي فيه أي شعور بالانتماء إلى أية أقلية. وإذا كانت الظروف السياسية آنذاك، والطريقة التي عالجت بها السلطة المغربية الملف، هو ما شجع الصحراويين المغاربة على تبني الانفصال، فإن طريقة المعالجة تلك، والتي خلقت فئات ذات امتيازات وقمع فئات عريضة أدى إلى خلق جو من اللاثقة لدى الصحراويين الذين لم يلتحقوا بمخيمات الانفصاليين وحتى لدى أولئك الذين أُغرقوا بالامتيازات. كما أدى إلى استياء كبير لدى الشعب المغربي نتيجة توجيه ميزانية ضخمة، القسط الكبير منها يسرقه القواد العسكريون الكبار، من أجل تنمية الصحراء والدفاع عنها وتأليف القلوب(4). لكن حتى مع تبنينا هذه الرؤية فلا نعتقد أن ما ذكراه من ظروف يمكن أن يكون سببا كافيا، وربما لم يكن سببا، لظهور بعض النعرات "الأقليوية"، أو إن صح التعبير التمايزية، كما هو الحال بالنسبة لبعض الحركة الأمازيغية التي تجاوزت شعاراتها مسألة إعادة الاعتبار للثقافة الأمازيغية. وأن التركيز على الخصوصيات داخل المجتمع المغربي الضعيف في مواجهة مشاكل أضخم مثل التنمية والبناء الديمقراطي، ليس سوى وجها من وجوه ما قلناه آنفا من أن النخب التائهة والتي لم تجد لنفسها مكانا تعزف أحيانا على الوتر الذي يطرب أذن القواعد التي لا تحسب حسابا للمدى البعيد. وكي نفهم المسألة جيدا يجب أن نطرح السؤال: هل الأمازيغيون وحدهم المهمشون في المغرب؟ إن أصحاب الطرح الأمازيغي ينظرون إلى المغرب ، أو يريدون إيهامنا ذلك، بكونه يحتوي على فئتان فقط، فئة أمازيغية وفئة عربية وهذه نظرة تبسيطية مضللة. فمن جهة هناك ثلاث مكونات أساسية في المغرب وهي العرب والأمازيغ والأفارقة، الذين اندمج جزء منهم في الثقافة العربية وجزء في الثقافة الأمازيغية، مع العلم كذلك أن هناك من "تمزغ" من العرب ومن تعرب من الأمازيغ، زيادة على ذلك، أن الأمازيغ ليسوا جسما منسجما كما يحاول أن يظهر ذلك أصحاب الطرح الأمازيغي. وأن التمايز الثقافي، بالمعنى الواسع للكلمة، فيما بينهم يكاد يكون في مستوى ما هو بينهم وبين الفئات العربية نتيجة التفاعل والتداخل والاندماج الحاصل في المجتمع ككل. كما أن المكون العربي يصدق عليه، إذا نحن قصدنا أن نبحث عما يفرق بدل ما يوحد، ما قلناه عن المكون الأمازيغي. أما المكون الثالث، المغاربة ذو الأصل الأفريقي، فلا أحد ، رغم أهميتهم العددية، يتكلم عن "ضياع(5) هويتهم" بتعبير أصحاب أطروحات التمايز والانفصال.

1) أو لم يؤن الأوان للتخلي عن هذا المصطلح المضلل واستبداله بمصطلح أنسب؟
2) إن حل جيش التحرير دون استكمال الوحدة الترابية وتصفية بعض عناصره. وكذا موت محمد بن عبد الكريم الخطابي في مصر خارج المغرب، كل هذا لا يمكن أن يعني سوى أن البرجوازية الصاعدة في المغرب، والتي ربتها فرنسا في مدارس الأعيان وأصبحت بعد ذلك المتحدث الرسمي باسم الحركة الوطنية، أن هذه البرجوازية رضيت منذ ذاك بأن تأخذ المغرب، أو ما منح لها منه من طرف الاستعمار، وتعمل كوكيل للدول الإمبريالية ترعى مصالحها وتنمي التبعية لها.
3) تجدر الإشارة هنا إلى أن القطب الستاليني، بممارساته التي أثبت التاريخ، يجب عل الماركسيين إعادة النظر في تصنيفه وبالخصوص في مدى بعده أو قربه من طموح إمبريالي من نوع ما.
4) أليس من المفارقات الكبرى أن يكرم ويبجل الفارون من صفوف البوليساريو، بعد خدمتهم لقضية الانفصال عقودا وبإخلاص وفي أعلى المستويات، يكرَموا بقدر أكبر مئات المرات من تكريم الجنود المغاربة الذين أسروا في حرب الصحراء وعانوا من الويلات والتعذيب بالضبط على أيدي أولئك الذين كُرموا بعد "رجوعهم إلى الوطن الغفور الرحيم" بعد ما خدموا الانفصال؟
5) وضعنا العبارة بين قوسين لأننا لا نعتقد، في ظل مجتمع تكون من انصهار مكونات مختلفة انصهارا سلميا وطوعيا، أنه يصح الكلام عن ضياع شيء ما. لأن ما حصل هو اغتناء كل تلك المكونات باندماجها واستفادتها من المكونات الأخرى. وأنه لا يتكلم عن "هوية ضاعت" إلا ماضوي رجعي أو تائه لا يعرف كيف يندمج في عصره أو عازف انتهازي يعزف على الأوتار الحساسة للفئات المهمشة.











التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. هل يغير نتانياهو موقفه من مقترح وقف إطلاق النار في غزة؟ • فر


.. قراءة عسكرية.. اشتباكات بين المقاومة وقوات الاحتلال




.. ما آخر التطورات الميدانية في قطاع غزة؟


.. أمريكا.. طلاب جامعة كولومبيا يعيدون مخيمات الحراك المناصر لغ




.. شبكات| غضب يمني لخاطر بائع البلس المتجول