الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عبء التاريخ

خالد صبيح

2009 / 2 / 14
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق


في النقاش الذي يدور حول أوضاع الحزب الشيوعي العراقي بين نقاد الحزب وبين من يدافع عنه تتردد وبإلحاح عبارة الحزب العريق. ومع إن هذه العبارة هي الفكرة المحورية أو الصورة التخيلية الكامنة وراء تصورات الطرفين ومنطلق لافكارهما وقاسم مشترك لاطروحاتهما حول واقع الحزب وآفاقه، إلا أن المدافعين عن الحزب يطرحونها على أنها صيغة مانعة تمنح الحزب حصانة وبعض العصمة وتردع ناقديه. وبينما العراقة في معناها اللغوي لا تحمل معنى ابعد من معنى الامتداد في الزمان وترسيخ الجذور، إلا أنها تطرح بصيغتها السياسية المنافحة وكأنها صك غفران ودلالة على مسيرة مكللة بالانتصارات والإنجازات والاستمرارية. لكن وبغير هذا التصور فان للحزب الشيوعي العراقي ما لايمكن إنكاره من تاريخ مميز ومليء بالإنجاز السياسي والاجتماعي والثقافي مكنه من إنتاج تراث كبير وناضج يستحق الفخر بكل المقاييس. لكن هذا التراث تحول في مسار حياة الحزب، الذي شهد تراجعات وإخفاقات وأزمات عديدة، إلى ارث دفع إلى التصارع حول شرعية من يمتلكه وأحقية من يوظفه لصالحه ويتكلم باسمه.

غير أن هذا الإرث التاريخي الذي حققه الحزب صار في واقع الحال عبئا ثقيلا عليه، إذ اخذ يفرض عليه مهاما، ويشترط على المتصدين للعمل القيادي فيه قدرات سياسية وتنظيمية وفكرية تستدعي تقديم إنجازات عملية كبيرة تتناسب وحجم هذا التراث والصورة المتخيلة عنه. لكن نتائج سياسات الحزب ونشاطه السياسي تأتي دائما فقيرة بالقياس إلى ماهو متوقع سواء أكان ذلك بنظر الحزب أو بنظر ناقديه على حد سواء. وعند هذه النقطة المحورية ينشب الصراع ويشتد النقاش حول أسباب هذا الخلل ومسببات الإخفاق. فقيادة الحزب، والمتحمسون من المدافعين عنه، وبعض المداهنين والانتهازيين، يعزون ذلك، وبتبسيط كبير للواقع، إلى صعوبة الظروف وتعقد الأوضاع السياسية والاجتماعية، والى طبيعة اللعبة السياسية وسلوك ونوايا القائمين عليها. بينما هو عند النقاد، بعد الإقرار بهذه الصعوبات، ينصب على طبيعة العمل القيادي والكفاءة التنظيمية ومستوى الأداء السياسي والخطط التنظيمية والنضج الفكري وغيرها من العوامل الذاتية التي تتعلق بطبيعة تركيب الحزب القيادي.

لكن في هذين الموقفين هناك، برأيي، شيء من التجاوز على الواقع وما افرزه من نتائج ينبغي الانتباه إليها وإقرارها. وهي أن جوهر المشكلة، أو الحقيقة الغائية، في هذا النقاش تكمن في عدم إلادراك أن الحزب قد تحول من حزب جماهيري كبير، ولاعب مهم في الساحة السياسية، إلى حزب صغير محدود القدرات. وان أسباب هذا التراجع تكمن بالذات في الصورة الوهمية التي يحملها الحزب ونقاده معا عن كيانه. وهذا الوهم يتجسد بالضبط في فكرة الحزب العريق. فهذه الفكرة وهذا التصور الواهم هو الذي يقبع وراء الإخفاقات التي يجنيها الحزب من نشاطه، كما ترسم ملامحها وتؤكدها الوقائع المتراكمة، وهي التي تؤثر فعليا في انعدام قدرة الحزب على تقديم منجز سياسي هو في واقع الحال غير قادر عليه ويفوق طاقته التي تتيحها له بنيته وطبيعته التكوينية. لان الحزب الشيوعي العراقي قد صار الآن حزب سياسي صغير ومحدود القدرات وغير قادر على أداء حراك سياسي يناسب حجم ادعاءه وتصوره الذاتي عن نفسه بفعل التفارق بين واقعه وقدراته المحدودة من جهة، وبين نظرته عن نفسه ومايتوهم انه منتظر منه من جهة أخرى.

ينبغي، بتقديري، الإقرار بهذه الحقيقة، والقبول بان المنجزات التي بنى عليها الحزب مجده، الذي يحيا به وينتفع منه الشيوعيون الحاليون، لا يمكن استئنافه من جديد إلا بأجراء تغييرات بنيوية شاملة تبلغ، بتصوري، درجة القطيعة مع مجمل منطلقات الحزب السياسية والفكرية التي تتعارض مع متغيرات الواقع الذي نعيشه بما ينطوي عليه من تطورات. وينبغي وفق ذلك أيضا بناء رؤية سياسية وفكرية وتنظيمية جديدة تتعامل مع الوقائع ضمن هذا المنظور. وينبغي إدراك أن المتظاهر، الذي كان الحزب يؤكد حضوره في الشارع من خلاله، لم يعد موجودا وقد حل بديلا عنه الناخب. وان هذا الناخب مختلف في طريقة التفكير والتعامل، وهو يبني قناعاته بتأن وبحسابات ملموسة ولا يحركه الشعار والحماسة التي تحرك المتظاهر
.
وبظني أن محاور النقاش التي تتناول أوضاع الحزب يجب أن تتركز في هذا المحور وليس بما يفترض انه امتداد للعراقة التي ما عادت سوى كونها رصيدا تاريخيا
.
بنيغي تخطي الانتفاخ النرجسي الذي يعاني منه الكثير من الشيوعيين داخل وخارج الحزب
.
ولكي لا يشوه فهم ما هو مقصود بهذا الكلام ينبغي التذكير بالفارق التاريخي الذي أنتج قادة للحزب كانوا قادرين، رغم عيوب مراحلهم التاريخية، على أن يقدموا منجزا سياسيا وضع الحزب في مكانه الصحيح من حركة المجتمع. وبين (قادة) غير قادرين على استيعاب تحولات زمنهم فجروا الحزب إلى سلسلة متصلة من الخسائر والهزائم.

لا يمكن لأحد أن ينكر أن الحزب الشيوعي العراقي منذ بداياته قد قدم منجزا سياسيا كبيرا سجل حضورا فعالا وسط الساحة السياسية، وكان لاعبا مهما ومحوريا في الكثير من مفاصل الحياة السياسية التي مر بها العراق. وكانت بنيته القيادية وهيكله التنظيمي وخلفيته الأيدلوجية وخططه السياسية تشكل كلا منسجما متناسبا مع الصورة الموضوعية التي رآها الحزب في نفسه وفي رسالته وأهدافه التي رسمها بصورة مقبولة في برامجه السياسية. ورغم الظروف الصعبة والقاسية التي كان يمر بها الحزب في تلك الظروف إلا انه استطاع بشكل مستمر إنتاج وتربية سياسيين استطاعوا إدارته في الظروف المتحولة. لكن تلك القيادة ومنجزها السياسي، كانا نتاجين لذاك الزمن البعيد، ولا يمكن استنساخهما الآن، وذلك بسبب أن التحولات المعاصرة التي مر ويمر بها المجتمع العراقي، ومر بها عالم السياسة والفكر على المستوى العالمي، هي تحولات نوعية مختلفة في مضامينها الجوهرية عما كانت عليه الظروف ومنتجاتها الفكرية والأيدلوجية في فترات ازدهار الحزب، ولعبه لدوره البارز في السياسة. ولهذا فان مجموع التحولات التي جرت بعد انهيار المنظومة الاشتراكية وتراجع دور اليسار تفترض موضوعيا على هذا اليسار أن يجتهد في إيجاد خطاب عصري يستوعب هذه التحولات، ويدرك روح العصر ليستطيع مواكبة الحياة السياسية وتقديم ما يفترض أن يقدمه من اجل أهدافه وثوابته الإنسانية الرفيعة في العدالة والتقدم الاجتماعي والحرية الإنسانية. لم يعد ممكنا لأي قوى يسارية الآن أن تبقي على هيكليتها الشمولية في التفكير والتنظيم. وان التحول في المفاهيم ينبغي أن يكون تحولا فعليا وجوهريا.

هذا هو الواقع الذي لا يستطيع الشيوعيون العراقيون، بتصوري، استيعابه الآن. ومن هنا تكمن المفارقة في تلكؤا العمل السياسي للحزب. فهو من ناحية أسير النظرة التقليدية عن نفسه كحزب جماهيري في زمن لم تعد فيه الجماهير قادرة على الفعل، بل وحتى على الوجود، وبين معطيات الواقع الموضوعية التي تفرض نفسها على الحياة وتؤثر بمجرياتها وان لم يدرك الفاعلون فيها ذلك. غير أننا نجد من الناحية العملية مفارقة غريبة هي أن الحزب الشيوعي العراقي، أو قياداته الأساسية، تمارس الآن فعليا نشاطها وتحركانها وهي مستوعبة لواقعها الجديد كقوة سياسية صغيرة. وهي تستثمر على أكثر من وجه ارث الحزب التاريخي في تحديد علاقاتها السياسية وفي علاقتها داخل الحزب وبالحزب. ولهذا أخذت طبقة من القيادة الحزبية بالسعي لتحقيق مكاسب ضيقة بحصولها، عبر تحالفانها وتبعيتها وقبولها بدورها الهامشي، على وظائف ومراكز حكومية رفيعة. وكما يبدو أن هذا البعض من القيادة الحزبية قد فهم، بمزيج من الدوافع الانتهازية النفعية، والإدراك الخفي، واقع الحزب الجديد، واخذ يمارس هذا الدور الذي أنتج، بصورة مشوهة، حزبا تابعا لقوى سياسية كبرى تمسك بمقاليد الحكم من اجل بعض المكاسب.

لكن السؤال المهم هو: هل أن واقع الحزب هذا هو حالة قدرية ونهاية المطاف أم أن هناك ما يمكن فعله من اجل تغيير هذا الواقع وإعادة بناء الحزب ليصبح حزبا كبيرا ولاعبا مهما في الساحة السياسية؟

بالتأكيد وبالبداهة أن إعادة تطوير وضع الحزب أمر ممكن، بل وضروري. واهم خطوة في هذا السياق ينبغي أن تتجسد بإعادة النظر بمجمل منطلقات الحزب الفكرية والسياسية، الأمر الذي يستتبع بالضرورة إعادة هيكلة الحزب التنظيمية، وتشكيله وفق معطيات التحولات العميقة التي طرأت على العالم. باختصار ان على الحزب أن يكون حزبا عصريا يتجاوز ثقل الصورة الوهمية عن طبيعة ارثه التاريخي لينطلق نحو افق مفتوح يستطيع أن يكون فيه فاعلا في السياسة، ولكن عبر قدراته الحقيقية التي يقدمها على الأرض وليس عبر صورة وهمية يحوكها بعض المنتفعين ليستفيدوا هم وليعيقوا بوجودهم مسيرة بناء حزب يساري جديد، فاعل وقوي.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - مقال موضوعي عميق
منير العبيدي ( 2009 / 2 / 13 - 22:42 )
هذا نموذج لمقال موضوعي و عميق و غير متحامل يصور وجها من وجوه الحراك السياسي الحالي و ازمة الفكر اليساري ـ الشيوعي العامة علاوة على الازمة الخاصة . سيستمر التراجع مالم يصار إلى الخروج بضرورة المراجعة الشاملة الشجاعة و ليس التعامل الترقيعي . الأزمة قبل كل شيء ازمة قيادة غير فاعلة لا تمتلك المبادرة تتماهى مع ما تعتبره ميول الجماهير ، بينما الجماهير على الجهة الاخرى تنتظر قولا فصلا ، حاسما و شجاعا .


2 - حياك الله
عدنان عاكف ( 2009 / 2 / 14 - 06:45 )
الأستاذ الكريم! حياك الله
ما من شك ان الموضوعية التي صبغت مقالك المهم هذا سوف تساعد القارئ على تلمس أهم ما ورد فيه من ملاحظات وأفكار، وستكون في نفس الوقت عونا للشيوعيين على إدارة حوار مفيد معك أو مع أنفسهم. والموضوعية في الطرح لا تعني قبول كل ما ورد في المقال.وليسمحلي الكاتب أن أتوقف بعجالة عند البعض من الملاحظات الأولية. بصراحة لم يعجبني العنوان، وهو في نشاز مع المحتوى .تاريخ أي حزب أو منظمة لا يمكن أن يكون عبء على أصحابه، بل هو قوة معنوية ومادية ملموسة يمكن ان تساعد الحزب وقيادته لو أُحسن استثمارها. قد تكون الملاحظات التي وردت في مقالك عن سلبيات التاريخ والعراقة واردة، ولكن المشكلة لا تكمن في التاريخ والعراقة، بل تكمن في الناس الذين لا يجيدون التعامل معها
لا أستطيع ان أتفق مع الفكرة التي روجت لها كثيرا في مقالك والتي تحاول ان تقلل من أهمية الدور الذي يمكن ان تلعبه الجماهير في عصرناالراهن، بعد ان انتقل مجال نشاط الجماهير من التظاهر في الشارع الى صناديق الانتخابات. ستبقى الجماهير هي العامل الحاسم في قلب موازين القوى في الصراع السياسي في العراق وفي أي بلد آخر. ربما تغيرت أساليب العمل بين الجماهير وهذا ما ينبغي على الشيوعيين ان يأخذوه في نظر الاعتبار. برأيي ان من بين أسباب اخفاق


3 - انتباهات ذكية
خلف الفريجي ( 2009 / 2 / 14 - 08:35 )
جميل مقالك ياخالد..وفيه أنتباهات ذكية وتحليل رائع لمسببات تلك النتائج التي غلفتنا بالخيبة وأنحسار الأمل.مقالتك فيها أنتشال لنا من لجة كتابات مازالت تصر على التبرير والوعود وبنفس السبل التي خدرتنا وأهلكتنا لزمن طويل, في حين مايزال من يعتقد من ركاب تلك الجوقة بأن الشعارات الثورجية وتحريك الجماهير يأتي عبر أدمان صرف الوقت والجهد بالأستغراق في حكايات ماضي ولوكها على طريقة (سولة سكتي ) في حين أن الشارع العراقي يعيش بهاءآ وأنعطافآ رغم عدم اتفاقنا مع خلفيات المتصدرين..نعم لقد أنهمرت علينا مقالات الجوقة التي تريدنا أن نغط في سباتنا في حين شعبنا يسابق الزمن بحراك رائع ولكن دون بصمات شيوعيون...فهم غابوا وتغيبوا وربما ناموا....ولكن كتاب الجوقة متحفزين حتى على الذي يربت على الأكتاف بلطف ومحبة بأن نصحوا ونحاول أن نعيد الحسابات والرؤى .

اخر الافلام

.. ملثمون يوقفون المحامية سونيا الدهماني من داخل دار المحامين ف


.. نبض أوروبا: هل حدثت القطيعة بين بروكسل ومالي بعد وقف مهمة ال




.. الأردن يُغلق قناة تابعة للإخوان المسلمين • فرانس 24


.. المبادرة الفرنسية و تحفظ لبناني |#غرفة_الأخبار




.. طلاب جامعة هارفارد يحيون الذكرى الثانية لاغتيال شرين على يد