الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ايها العراقيون اعترفوا بثورتكم اليتيمة!

سليم مطر

2009 / 2 / 15
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق


ان ادانتنا للغزو الامريكي(عام 2003) لا تمنعنا من اعتباره نتيجة طبيعية لفساد وانحطاط الوطن العراقي بأكمله دولة ومجتمع وعقلية، وانعدام القدرة على الاصلاح البطيء والمناسب. وعندما يغيب الاصلاح السلمي الواعي في الدولة والمجتمع فأن التغيير العنفي الدامي والمدمر هو الذي يحل بصورة تلقائية وحتمية، سواء بواسطة الغزو الاجنبي او بواسطة الحرب الاهلية الداخلية، او الاثنين معا، وقد حصل هذا بالضبط مرتين في تاريخ العراق الحديث: الاول،عام 1914 مع الغزو الانكليزي وما اعقبه من حروب داخلية ومجاعات وطواعين بلغت ذروتها في انتفاضة 1920. الثاني، عام 2003 مع الغزو الامريكي وما اعقبه من حرب طائفية مدمرة.
الثورتان الاولى والثانية
نقصد بالثورة، ليس كما يفهم عادة بأنها الانتفاضات العنفية ضد الدولة او الحكام الاجانب، بل نعني خصوصا التغييرات الجذرية التي تحدث في الدولة والمجتمع والعقلية السائدة. ان الانتفاضات والحروب هي مقدمات الثورة، اما الثورة الحقيقية فهي المتغيرات الجذرية التي تنقل الوطن بأكمله من عصر قديم الى عصر جديد، دولة ومجتمع وعقلية.
يمكن تشبيه حال الوطن مثل طفل ينمو ويكبر جسمه وحاجاته وعقليته، لكن اهله(الدولة والمجتمع والعقلية السائدة) يجبرونه على البقاء طفلا والاحتفاظ بذات الثياب والطعام والادوات والعقلية الطفولية. بعدها لا بد ان يأتي اليوم الذي يثور فيه الغلام ليمزق ثوبه ووضعيته الحياتية القديمة ويؤسس لوضعية ملائمة جديدة تناسب عمره وحاجاته.
بناء على هذا، فأننا لو دققنا جيدا في تاريخ العراق الحديث، سنكتشف ان الانقلابات العسكرية التي اطلق عليها(ثورات) وخصوصا تلك(التموزيات العسكرية: 14 و 17 و30) بالاضافة الى (شباط 1963) وقبلها (حركة الكيلاني 1941)، ماهي الى(جعجعات عسكرية) و(تغييرات حكومية داخلية) فاشلة او ناجحة. رغم كل الممارسات العنفية التي رافقتها، الا انها لم تمس غير القيادات الحكومية، وابقت على الدولة واجهزتها ومؤسساتها والفئات التي تتكون منها والهرم الاجتماعي والعقلية(الحداثية) السائدة. ربما يمكن اعتبار انقلاب(14 تموز 1958) اكثرها جذرية واقربها الى الثورة، لأنه ازاح الفئة الملكية ومعها فئة الاقطاع، الا انه ابقى على اهم عامل مكون للدولة العراقية، ونعني به : التكوين الطائفي ـ القومي، بالاضافة الى التكوين الثقافي الآيدلوجي الحداثي، بمنوعاته اليسارية والقومية والليبرالية. اما التغييرات الجذرية الحقيقية التي عاشها العراق فأنها حصلت مع الثورتين الكبيرتين اللتين غيرتا تماما بنية الدولة والمجتمع والعقلية:
ـ الثورة الاولى ( 1914 ـ 1921) التي ازاحت الدولة العثمانية وبنيتها الاجتماعية وعقليتها الاسلامية العثمانية بكاملها لتحل محلها الدولة العراقية(1921) الملكية ثم الجمهورية، ومعها البنية الاجتماعية الجديدة والعقلية الحداثية ـ القومية ـ الطائفية.
ـ الثورة الثانية(2003 ـ 2009)، التي اكملت نواقص الثورة الاولى، فازاحت الدولة القومية الطائفية السابقة، وغيرت تماما الهرم الاجتماعي المشوه والعقلية الحداثية المتحكمه فيه، لتحل محلها الدولة الوطنية الممثلة لجميع الطوائف والقوميات والهرم الاجتماعي شبه المتوازن والعقلية الواقعية التي تعبر عن عقائد وميراثات الشعب.
الثورة العراقية الاولى 1914 ـ 1921
ان هذه الثورة تعتبر (اعادة ميلاد الامة العراقية) واخراجها من حالة (الانقبار) التي عاشتها خلال حوالي سبعة قرون، أي منذ انتهاء آخر دولة عراقية بعد سقوط بغداد العباسيةعلى يد المغول عام 1258.
ان الاحتلال الانكليزي الذي بدأ عام 1914 كان (القابلة) التي اشرفت على (حالة المخاض) القاسية الدامية التي اطلقت وحوش الدمار بحروب دولية وداخلية ومجاعات وامراض وانتفاضات شعبية، دامت حوالي سبعة اعوام(1914 ـ 1921)، ادت اخيرا بالانكليز الى الموافقة على تكوين دولة عراقية مستقلة بقيادة الملك فيصل الاول.
ان هذا التغيير يعتبر ثوريا لأنه غير بصورة جذرية (الدولة والمجتمع والعقلية)، وأعاد احياء امة عريقة منسية، هي الامة العراقية. فالدولة انتقلت من جزء من امبراطورية اسلامية عثمانية مقرها اسطنبول، الى دولة عراقية مستقلة مقرها بغداد ويقودها عراقيون ويحميها جيش عراقي ويحرس امنها شرطة عراقيون. اما من الناحية الاجتماعية، فقد تمت ازاحة كاملة للطبقة العثمانية السابقة القادمة من خارج العراق(بلقان واتراك وقفقاس)، لتحل محلها طبقة عراقية مع عقلية وممارسات وثقافة مختلفة تماما. بل ان التغيير قد مس حتى لغة الدولة وثقافة المجتمع، بحيث اصبحت العربية هي اللغة الرسمية والسائدة، بعد ان كانت(التركية العثمانية).
يبقى ان نشير، الى ان هذه التغييرات الثورية لم تكن (قومية) ضد(الاتراك) كما صورها العروبيون، بل هي ثورة شاملة لكل شعوب الدولة العثمانية ضد امبراطورية عجوز مهترية. واوضح دليل، ان النخب التركية نفسها كانت اول من عمل على التغيير، وقد قامت بثورتها فيما بعد بقيادة الزعيم(مصطفى كمال)، حيث اطيح بالنظام العثماني وأسس الجمهورية التركية.
ان العيب الكبير الذي عانت منه الثورة العراقية(مثل غالبية ثورات العالم الثالث في تلك الفترة) هو ضعف النخب المثقفة والدينية العراقية وعدم قدرتها على التحالف والتعاون من اجل صنع الثقافة والمشاريع الوطنية الواقعية المناسبة للمرحلة الجديدة. لقد حدث شرخ هائل بين المثقف العصري والمثقف الديني، ادى الى عزل النخبة الدينية وسيطرة المثقفين وتبنيهم الساذج للثقافة الحداثية الغربية البعيدة تماما عن الواقع الوطني، تحت رايات اليسار والليبرالية والقومية.
ان هذا التشويه الثقافي من اهم الاسباب التي جعلت هذا التغيير الثوري عاجز عن تنفيذ متطلبات اكمال(الهوية الوطنية) لهذه الامة العراقية الوليدة. صحيح ان دولة عراقية قد قامت ويقودها عراقيون، ولكن بسبب سيطرة العقلية القومية (والطائفية المستترة) فقد تم ابعاد الشيعة والاكراد والتركمان وباقي الفئات العراقية من قيادة الوطن،(الا بصورة تكتيكية محدودة) حيث ظلت القيادة حكرا على (العرب السنة). وهذا التقصير لا يتحمل مسؤوليته فقط العرب السنة وحدهم(بميراثهم الطائفي العثماني)، بل الشيعة والاكراد والتركمان ايضا. الشيعة لانهم تاريخيا وبسبب المنافسة العثمانية الايرانية، بقوا (دينيا) تابعين للتأثير الايراني، من ناحية، وتأثير المراجع الانعزالية المتعالية وشبه الاجنبية، من ناحية ثانية. اما الاكراد فقد ظلوا ضحية القيادات(الجبلية الانعزالية) التي ترفض الاستفادة من الامر الواقع وتتمسك بمشاريع قومية متعصبة وانفصالية وامبراطورية جعلت جميع دول المنطقة تخشى اشراكهم. التركمان تقريبا لنفس الاسباب مشتركة ولكن بصورة اقل حدة وتطرف.
الثورة العراقية الثانية 2003 ـ 2009
ان هذه الثورة الثانية اتت وهي الآن في طريقها لانجاز ما عجزت عنه الثورة الاولى، أي مهمة (اتمام تكوين الهوية الوطنية) لهذه(الامة العراقية) التي هي في طور النضوج. أي الغاء (التشوية القومي ـ الطائفي) بسبب استحواذ(فئة العرب السنة) على قيادة الدولة، والعمل على رد الاعتبار الى (العرب الشيعة) و(الاكراد) و(التركمان) في الدولة والمجتمع. وكذلك المهمة الثانية الاصعب فهي التي تبتغي تغيير (العقلية القومية ـ الحداثية الغربية) المهيمنة، لتحل محلها :عقلية وطنية وسطية واقعية معبرة عن الواقع العراقي بخصوصياته الدينية والمذهبية والقومية والمناطقية والحياتية.
نهضة الشيعة الشراگوة
ان هذه الثورة الوطنية ما حصلت الى نتيجة تراكم المتغيرات الاجتماعية والعقلية في داخل المجتمع العراقية طيلة القرن العشرين. واكبر هذه المتغيرات تمثلت بصعود فئات جديدة الى قيادات الهرم الاجتماعي، بسبب المتغيرات الحاسمة حصلت لدى شيعة العراق. ان تكوين الدولة العراقية الحديثة عام 1921 وما تطلبه من جيش وشرطة وادارات وصناعات، ادت الى هجرات تاريخية كبيرة من الجنوب وخصوصا من محافظة ميسان الى المدن العراقية الكبرى، وبالذات البصرة وبغداد. حتى تحولت هاتين المدينتين الى غالبية شيعية جنوبية(شرگاوية ـ أي من جنوب العراق). الملايين من المهاجرين الفقراء الذين يعيشون في اطراف العاصمة وباقي مدن الجنوب والوسط (مدينة الثورة نموذجا) ظلوا مهمشين محتقرين، حتى تمكن ابنائهم من فرض انفسهم في الحياة الثقافية والسياسية والاقتصادية. ومع الزمن برزت نخب سياسية وثقافية(شيعية شرگاوية) تختلف تماما عن النخب الشيعية السابقة. فهي نخب عراقية جنوبية اصيلة خارج النفوذ الايراني وخارج سيطرة المرجعيات الانعزالية المتعالية وشبه الاجنبية. نعم ان ابناء مهاجري الجنوب أخذوا يتعلمون ويبرزون في مختلف المجالات، حتى فرضوا انفسهم في داخل مؤسسات الدولة والاحزاب وفي اعالي الهرم الاجتماعي.
ان هذه التغييرات البطيئة كانت تتطلب وتحتم تغييرا في قيادات الدولة وفي سلوكيات الهرم الاجتماعي وطبيعة العقلية السائدة. لكن الحكومات العراقية ظلت متمسكة بالمناطقية الطائفية في قيادات الدولة والمجتمع، مبررة ذلك بخطاب حداثي عروبي ثوري زائف ومنافي للواقع. ثم ان القوى السیاسة العراقیة الشعبية القومية والشيوعية، جمیعها کانت متواطئة مع هذا التشويه الطائفي السائد، ورغم معارضتها للحكومة الا انها تشترك معها في تبني الخطاب الحداثي العروبي المنفصل عن الواقع. وقد ادى هذا الوضع الى لجوء النخب الشيعية الشرگاوية خصوصا( كذلك باقي الفئات الشيعية المهمشة مثل التركمان والفيلية وكذلك الشبك) الى خلق قوى سياسية شيعية خاصة بها(مثل حزب الدعوة)، معارضة للدولة وبنفس الوقت بعيدة عن هيمنة ايران والمرجعيات الانعزالية، وبعيدة ايضا عن هيمنة القوى الحداثية المزيفة. بل ان هذه النخب الجديدة افرزت مراجع دينية وطنية شعبية ملائمة لها، مثل (الامام محمد باقر الصدر ثم الامام صادق الصدر). طبعا ايران كعادتها قامت بمحاولة الاستحواذ على هذه النخب الشيعية الناهضة، من خلال تأسيس المجلس الاعلى، لكن هذا التأثير ظل مؤقتا ونسبيا، وفي طريقه الى الانحسار.
الهجرة الكردية من الجبال الى السهول
ثمة ظاهرة اجتماعية ثانية حدثت ايضا طيلة القرن العشرين، وساهمت في تراكم اسباب التغيير الثوري في الوضع العراقي. وهي الهجرة الكبيرة لاكراد العراق من مناطقهم الجبلية المعزولة، الى سهول شمال العراق حيث المدن العامرة، وبالذات الى اربيل والموصل وكركوك بالاضافة الى العاصمة بغداد. ان انتقال الاكراد الى هذه المدن العراقية، منحهم قدرة التأثير المباشر على الحياة الثقافية والسياسية والاجتماعية في الوطن وجعلهم يختلطون من كل النواحي مع باقي اخوتهم في الوطن. كذلك هذه الهجرة اكسبتهم وعيا وثقافة جديدة. وهذا الوضع يفسر سبب تمسك القيادات التقليدية الكردية ذات العقلية الجبلية العتيقة بالخطاب القومي العنصري، على امل الحد من تأثير هذه الانفتاح السهلي للاكراد. نعم ان هذه الهجرة نحو السهول العراقية قدر ما منح الاكراد قدرة للتأثير المباشر على الوضع العراقي، قدرما منح ايضا للوضع العراقي قدرة للتأثير على الاكراد مجتمعا وعقلية، ودفعهم اكثر واكثر بالانصهار بالحالة العراقية. وهذه الحالة الكردية المزدوجة هي التي تواجهها الآن الثورة العراقية الحالية.
ان السنوات القاسية الماضية للثورة قد حلت الاشكالية الطائفية من خلال عقلنة التفاهم(الشيعي ـ السني)، والسنوات القادمة في طريقها لحل الاشكالية القومية من خلال عقلنة التفاهم(العربي ـ الكردي ـ التركماني).
وبهذا تستحق الثورة العراقية الحالية عن جدارة ان تسمى( ثورة اكتمال الامة العراقية) من الناحيتين الطائفية والقومية.
ربما يمكن اعتبار الانتخابات الاخيرة لـ (مجالس المحافظات) في مفتتح هذا العام(2009) نقطة التحول التاريخية الكبرى لهذه الثورة وانتقالها من مرحلة(حفر الاسس) وما صاحبها من دمار عنف، الى حالة التجذر والبناء.
فأيها العراقيون، انتبهوا الى ثورتكم الحالية واعترفوا بها وطوروها ولا تبقوها هكذا ثورة مجهولة يتيمة..
ـــــــــــــــــــــــــــ
ـ اما الناحية العقلية(الثقافية) لهذه الثورة ودور النخب العراقية المثقفة والدينية، فلنا موضوع قادم.













التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إسرائيل تخطط لإرسال مزيد من الجنود إلى رفح


.. الرئيسان الروسي والصيني يعقدان جولة محادثات ثانائية في بيجين




.. القمة العربية تدعو لنشر قوات دولية في -الأراضي الفلسطينية ال


.. محكمة العدل الدولية تستمع لدفوع من جنوب إفريقيا ضد إسرائيل




.. مراسل الجزيرة: غارات إسرائيلية مستمرة تستهدف مناطق عدة في قط