الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تداعيات البعد الواحد ... قصة قصيرة

أحمد الجنديل

2009 / 2 / 18
الادب والفن


ما الذي بقي لديك الآن ؟ أما آن الأوان أن تكشف أوراقك بطريقة واضحة وصريحة ، دون اللجوء إلى التبريرات التي أدمنت عليها في جميع محطات الخيبة والإحباط التي رافقتك طيلة سنوات عمرك الطويلة .
ما الذي بقي لك ؟ رفاقك الذين قاسموك الهمّ سنوات رحلوا عنك ، ولم يعد لديك أحد تسامره وتناجيه ، وسميرة التي كانت ملاذك الأخير ، هي الأخرى اختارت طريقا آخر دون تمهيد أو إشارة ، ولا حتى كلمة وداع ، ورصيدك من المال بدأ بالتقلص إلى الحد الذي تقلصت معه نفقاتك في الأكل والشرب ، ولم يعد لك لا مال ولا صديق ولا امرأة تمتص الغضب المتمترس في عروقك ، وما عليك إلا أن تخلع هذا الرداء المزيّف المتلفع به ، ولو لفترة قصيرة ، لكي تشعر أنك سرت في الاتجاه الصحيح ، ولتغادر دائرة الوهم التي أنت فيها ، فقد تحرك جميع أصحابك نحو دروب الحياة الواسعة ، وبقيت وحدك تمثل دور البطل دون أن يسمعك أو يراك أحد .
ما الذي بقي لديك الآن ؟ لم تبق سوى مزبلة ذاكرتك التي تنبشها كلّ صباح ، لتمارس من خلالها لعبة إيهام ألذات ، والضحك على رأسك ، بعد أن فقدت صدر سميرة العجوز الذي كنت تتخذه حاضنة لأوهامك ، ورغم أن سميرة كانت تسمع ما تقوله على مضض وكره ، ورغم أنها كانت بحاجة إليك بقدر ما أنت بحاجة إليها ، إلا أنها جزعت من تكرار ما تقوله ، وهاجرت بعد أن خسرت لحظة الإشباع وقليلا من المال ، وخسرتَ صدرها الذي كنتَ تتخذه صنما تبكي عند أقدامه .
يحاصركَ الصقيع الآن من كلّ الجهات ، كقائد مدحور ، والأعداء حوله لا يسمع منهم سوى صيحات النصر ، ولا تملك غير البكاء .
عزيمتك منهارة ، وهمتكَ معطوبة ، وليس لديك إلا غرفتكَ المتربة المتداعية ، تبكي بين جدرانها ، دون أن يسمعك أحد .
لا مال ولا أنيس ولا أمل ينقذكَ ممّا أنتَ فيه ، فما الذي بقي لديك الآن ؟
بالأمس كنتَ تتفيأ خيمة صبري الشرهان ، وتتكىء على اسمه اللامع ، وسمعته الطيبة بين أهالي المدينة ، وكانَ يعلمُ أنكَ خذلته ـ وسحقتَ أمانيه التي كانت تراوده في أن تكون خليفة من بعده ، بعد أن عانى من قسوة حياته التي انتصرَ عليها بالصبر والمثابرة ، حتى نال الجاه والثراء ، إلا أنّ سحابة الحزن التي تغّـلفُ عينيه الواسعتين واضحة ، ويعرفُ الجميع أنتَ مصدرها ، ولكي تتجنب نظراته ، بدأتَ تتوارى عن وجهه خوفا من سياطه القاسية ، مبتعدا عن نظرات أمك المتوسلة لديه ألا يصيبك مكروه منه ، وعندما تجدُ نفسكَ مضطرا للوقوف أمامه ، كان يصرخُ فيك : كنْ رجلا مرّة واحدة ، فالحياة امرأة لعوب لا تخضع إلا للرجل الفحل الجسور .
أنتَ تنظرُ إلى وجه أبيك بذعر ، وعندما ترى سيل الغضب المتدفق من عينيه ، يرتدّ بصركَ إلى الأرض دون حراك ، وتبقى ساكنا ذليلا ، ولا يجد أبوك ما يحدّثكَ به ، فينفضُ عباءته منفعلا ويخرجُ من البيت ، عندها تتحركُ أنتَ الآخر ، وتخرجُ نحو شاطئ المدينة المكتظ بزعيق الباعة ، وأكداس القمامة ، وتزاحم الرجال والنساء ، والكل لديه مهمة جاء من أجلها إلا أنتَ ، كنتَ تبحثُ في عيون المارّة عن تعزية لما أنتَ فيه من خيبة وشقاء ، والآن مضى زمن طويل على موت أبيك ، لحقته أمك وفي قلبها غصّة منكَ ، وظلّ البيت المتداعي مهجورا إلا منك ، فما الذي بقي لديك ؟
هذا الصباح ، طرق بابكَ سلمان الهادي ، رفيق والدكَ ، وأحد أقربائك البعيدين ، دخلَ بجسده النحيل ، ورقبته الطويلة ، ورأسه الذي يشبه رأس خروف جائع مريض ، جلس على الكرسي المتداعي وهو يسندُ ظهره إلى الحائط الرطب ، وكنتَ تنظرُ إليه تارة والى الأرض تارة أخرى ، جاهدا نفسكَ على معرفة سرّ هذه الزيارة المفاجئة ، وبعد أن رمى عقب سيجارته من خلال فتحة الباب المخلوع ، اعتدلَ في جلسته وقد ارتسمت على وجهه ملامح الجد ، ودون مقدمات ، قال ما يريد بوضوح : سالم ، اسمعني جيدا ، سأقولُ لكَ باختصار ، إنني أعاني من مرض قاتل سيدفعني إلى قبري لا محال ، وأنتَ تعرف إنني لا أملكُ غير بثينة ، ابنتي الوحيدة ، والحانوت الذي أعتا ش عليه ، وأنتَ قريبي وابن صبري الشرهان ، الرجل الطيب ، وقد امتدّ بكَ العمر ، وأنتَ تعيش وحيدا في هذا البيت ، لقد فكرتُ طويلا ولم أجدْ أحدا أمنحه ما أملك إلا أنتَ ، كنْ في مستوى المسؤولية ، وتوكل على الله ، وامنح حياتك بابا ترى من خلاله السعادة والاستقرار ، هذا ما أردتُ قوله ، فماذا تقول ؟ .
سلمان الهادي وضعَ مفتاح الفرج بين يديك ، وأنتَ ترمقه بنظرة بلهاء ، والدقائق تمرّ حبلى بالإحراج ، بين التنازل عن عرشكَ الوهمي وترسل ابتسامة إلى شفتي أبيك الراقد في قبره منذ سنين ، وبين رأس الحمار الذي حملته طيلة سنوات عمرك .
سلمان الهادي ينظرُ إليك ، وأنتَ تغضّ الطرف عنه ، وفي لحظة انهياركَ رفضتَ طلبه .
مسح سلمان الهادي جبهته المعروقة ، وفركَ يديه بعصبية ، وبلا كلمة وداع خرج من البيت بأسرع ممّا دخل إليه ، بينما أسرعتَ أنتَ نحو فراشكَ تدفنُ رأسكَ المتسوس ، وتجهشُ في بكاء حارق ، ظلت تردده أجواء غرفتكَ الغارقة في الظلام .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - اللغة الرشيقة والمنللوج الداخلي
أنهار علي الجبوري ( 2009 / 2 / 18 - 17:33 )
تداعيات البعد الواحد مقطع من منللوج داخلي ساخن قدمه لنا الكاتب من خلال لغته الرشيقة وهي تتحدث عن البعد الواحد لبعض الاشخاص من خلال سبر غور الوضع النفسي الذي يعيشه والذي يعبر عن خيبات واحباطات متتالية منذ نشأته الأولى وحتى ( دفن رأسه المتسوس واجهاشه في بكاء حارق ظلّت تردده جدران غرفته الغارقة في الظلام ) انها لوحة اختلطت بها سخونة المنللوج بجمالية اللغة فوصلت الينا شهية طازجة . شكرا لكاتبها المبدع الذي عودنا على قراءة كل ما هو جميل

اخر الافلام

.. مليون و600 ألف جنيه يحققها فيلم السرب فى اول يوم عرض


.. أفقد السقا السمع 3 أيام.. أخطر مشهد فى فيلم السرب




.. في ذكرى رحيله.. أهم أعمال الفنان الراحل وائل نور رحمة الله ع


.. كل الزوايا - الفنان يحيى الفخراني يقترح تدريس القانون كمادة




.. فلاشلايت... ما الفرق بين المسرح والسينما والستاند أب؟