الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مسألة التعويضات وتسعير الضحايا

صالح سليمان عبدالعظيم

2009 / 2 / 18
مواضيع وابحاث سياسية



في أعقاب كل تدمير ووحشية وقتل وإجرام تقوم به الدولة اليهودية والأميركية ضد العالم العربي تتواصل الحملات من أجل التعويض، وربما من أجل ذر الرماد في العيون، واتقاء الهبات الشعبية المتواصلة، والرغبة في استرداد الحيثيات المفقودة. ودائما ما تتوه حمى الحديث عن التعويضات ويواصل أصحاب المأساة حياتهم، مُسلحين دائما بإيمان قوي بأن الله ناصرهم. يكفيهم فخرا الوقوف في وجه الآلة العسكرية الإسرائيلية الإجرامية، ومن يدعموها ويحموها غربيا وإقليميا.
لكن الحال هذه المرة في غزة يحمل ألما شديدا يتجاوز كل المرات السابقة التي عهدنا فيها دموية إسرائيل وعايشناها. فلم تترك لنا القنوات الفضائية المختلفة ثانية واحدة بعيدا عن تلك المشاهد المؤلمة التي صفعتنا يوميا، وجعلتنا نشعر بالذل والعار طوال أيام العدوان. ولعل ذلك هو ما يجعل المرء يفكر في الطريقة التي يتم بها تعويض أهل غزة تجاه ما واجهوه لمدة اثنين وعشرين يوما من الدمار الشامل برا وبحرا وجوا.
وأجدني هنا لا استطيع التفكير في الطريقة التي سوف يتم تعويضهم بها بدون معاودة استدعاء مشاهد القتل والدمار الدمويين. فبدون استدعاء تلك المشاهد التي ما زالت راسخة في العقل والقلب يصبح الحديث عن مسألة التعويضات محض تسكين ورغبة في معاودة الأمور إلى ما كانت عليه، بل والعودة من جديد لاسترضاء إسرائيل وأميركا، والانضواء تحت مظلتهما، وتنفيذ رغباتهما على دول المنطقة وجغرافيتها وتاريخها. لا يمكن الحديث عن التعويضات بدون مقارنتها بحجم الأهوال التي عايشها الفلسطينيون في الاثنين والعشرين يوما الماضية.
إذا افترضنا جدلا أننا سوف نعوض من هُدمت منازلهم، أو محالهم، فكيف سيتم تعويض من قُتل كل أفراد عائلته؟ هل تستطيع أموال التعويضات أن تعوض من فقد أولاده جميعا وبقى حيا يندب حظه، ويندب بقاءه في هذا العالم، بينما رحل كل من يحب، ويسعد بوجودهم جواره؟ هل تستطيع هذه التعويضات أن تعيد بسمة أطفاله وعراكهم وشجارهم؟ وهل تستطيع أن تمنحه ذلك الدفء العائلي الذي تعود عليه وأمّن له القدرة على مقاومة الحصار والعيش بين ربوع غزة التي أغلقها الجميع عليه وعلى أهله وأحبائه؟
وحتى بالنسبة لهؤلاء الذين لم يفقدوا أولادهم أو أي من ذويهم، كيف يمكنهم العيش الآن ولا يجدون أسرا بأكملها تم كنسها من الوجود بجرة قلم؟ تصور معي عزيزي القاري أن تنهض صباحا ولا تجد بجوارك المحال التجارية التي تعودت أن تُلقي السلام على أصحابها، ولا تجد جيرانك الذين اعتدت أن تتحدث معهم، وألا ترى صغارهم الذين كانوا يتشاجرون مع صغارك ويلعبون معهم. من يستطيع أن يعوض أهل غزة عن كل تلك المشاعر والذكريات والعلاقات التي تم محوها من خلال مجرمي الحرب الإسرائيليين.
لقد تعايش أهل غزة مع واقعهم البائس على مرأى ومسمع من العالم المتحضر، وعلى مرأى ومسمع من الدول المحيطة بهم. ارتضوا معيشة المخيمات، وعاشوا في كنف المؤسسات الدولية. أجيال وراء أجيال خرجت من عباءة الأنروا، كبرت وترعرت وبنت تاريخا جديدا، وذكريات عديدة، ذكريات نسيجها القمع والفقر والحرمان، لكنها على أية حال ذكريات تم خلقها وإبداعها والاستئناس بها. ومن جديد يعود الغاشم اليهودي الحقير مرة أخرى ليقتل ذلك التاريخ، ويدمره بغلظة ودموية. ومن خلف تلك المأساة تعاودنا معزوفة التعويضات، وفصولها المهترئة.
هل يمكن لنا أن نقوم بتسعير الضحايا؟ هل يمكن أن نمنح الفلسطيني ألف دولار تعويضا عن الذكر الذي فقده، وخمسمائة عن الأنثى، أم نمنحه ألفين أم ثلاثة أم عشرة؟ هل يمكن أن نعوض الصغار الذين تشبثوا بأمهاتهم الموتى، وانغرست أصابعهم في اللحم المتحلل الذي فاحت رائحته، عما استتب في ذاكرتهم، وعما استقر في أنفاسهم وأعماقهم؟ وهل يمكن أن نعوض الفلسطيني في غزة عن جثث النساء التي لم يستطع سترها في الحارات والشوارع، مع ما يمثله جسد المرأة من قداسة بالنسبة للفلسطيني العربي الشرقي؟ وهل يمكن أن نسترد للفتاة الفلسطينية الجميلة التي نشرت قناة الجزيرة صورها ساقيها اللتين يمثلان بالنسبة لها الحياة والجمال والأنوثة؟ ومن يمكن أن يدفع لنا نحن العرب المهزومين تعويضا عن مشاعر الكبت والتكبيل التي انتابتنا جراء ما شهدناه عبر القنوات الفضائية حيث الأطفال الصغار جدا المثقوبة أجسادهم الطرية الغضة برصاص الغدر والخيانة والإجرام؟ ومن يستطيع أن يعوض ذلك الأب الفلسطيني وهو يتحسس جسد أطفاله الموتى، وأصابعه تشير لثقوب الرصاص في أجسادهم الطاهرة؟ وهل يمكن أن نعوض الفلسطيني عما يجيش في نفسه، وعما يختمر في أعماقه، وهو لا يستطيع أن يداري أجساد الشهداء، في ثقافات إكرام الميت فيها دفنه؟
المسألة لا تكمن فقط في موجة التعويضات الراهنة، رغم أهميتها المطلقة في التخفيف عن أحزان وآلام أهل غزة في ظروفهم القاسية الآن. الأهمية تكمن في ضرورة أن نضمن ألا يحدث ذلك مرة ثانية، وألا نسمح بتكرار هذه المذابح والقتل المجاني لهم، ونحن نرقب ونتفرج ونشجب وندين ونختلف ونحتفل ونلتقي ونتشاجر ونتشاحن ونتصالح وأخيرا نعوض. إذا كنا لا نستطيع حماية أهل غزة فمن الضروري ألا نعوضهم، علينا أن نتركهم لمصائرهم وأقدارهم، بديلا عن منحهم تواريخ وقتية يكنسها اليهود القتلة بجرة قلم!!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. في شمال كوسوفو.. السلطات تحاول بأي ثمن إدماج السكان الصرب


.. تضرر مبنى -قلعة هاري بوتر- بهجوم روسي في أوكرانيا




.. المال مقابل الرحيل.. بريطانيا ترحل أول طالب لجوء إلى رواندا


.. ألمانيا تزود أوكرانيا بـ -درع السماء- الذي يطلق 1000 طلقة با




.. ما القنابل الإسرائيلية غير المتفجّرة؟ وما مدى خطورتها على سك