الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


التغيير الجذري في الولايات المتحدة بين الممكن والكامن ملاحظات أولية (الحلقة الثانية)

مسعد عربيد

2009 / 2 / 18
مواضيع وابحاث سياسية


(4)
معيقات التغيير الجذري في الولايات المتحدة

تقف جملة من العوامل (الاقتصادية والاجتماعية والسياسية) عائقاً أمام المسيرة الثورية. وقد إتسم المجتمع الاميركي لعقود طويلة ببعض المميزات والخصائص الداخلية وتشتمل هذه على درجة مفرطة من الفردانية والانانية والتمركز على الذات وقلة المبالاة بالآخر، وقلة الالمام والاهتمام باوضاع الشعوب والامم الاخرى والجهل أحياناً بالموقع الجغرافي للبلدان التي تحتلها وتدمرها الحروب الامبريالية الاميركية.

لن يتيح لنا المجال الاستفاضة بكل هذه العوامل، بل سنعرج على بعضها دون الادعاء بانها المعيقات الوحيدة أو الاهم لعلمية التغيير الجذري في الولايات المتحدة.

تخفيف الصراع الطبقي

ليس الصراع الطبقي في المجتمع الاميركي حديث العهد ولم يولد نتيجة الازمة الاقتصادية الراهنة، بل يمتد، بكل تجلياته الطبقية والاجتماعية والثقافية على مدى خمسة قرون من عمر الراسمالية وعمر الاستيطان الاوروبي الابيض للقارة الاميركية الشمالية.

وقد برعت الراسمالية وطبقتها الحاكمة، خصوصاً بطبعتها الاميركية، عبر قرنين من الزمن في تزييف الصراع الطبقي وتشويه طبيعته وتلطيف حدته امام جماهيرها والعالم باسره. ونجحت الى حدود كبيرة وخطيرة في إزاحة الطبيعة الطبقية للصراعات الاجتماعية والاقتصادية وفي تفتيت وحدة العمال والقوى السياسية والاجتماعية ونضالها ضد الاستغلال الراسمالي.

وقد تباينت طرائق ومكائد هذه الطبقة في زرع الفتنة والفرقة بين العمال والفقراء، ولم تقتصر على ضرب العمل واطره التنظيمية وتفتيت وحدة العمال الأمريكيين وإيقاع الفرقة والخصومة بينهم وتأجيج النزاعات بين الابيض والاسود، والابيض والاصفر، والابيض واللاتينو وصولاً الى ما نشهده اليوم من تشققات الحركة العمالية وإختراقها ووهنها وإحتدام الفتنة والاضطهاد ضد العمال المهاجرين من الجنوب اللاتيني بحجة إختطاف فرص العمل والموارد الاجتماعية الى غيرها من التبريرات الكاذبة. ولا يخفى أن هذه الحجج الملفقة تنفح بالعنصرية على اسس الاثنية والعرق والدين ولون البشرة.

لقد شكل خداع العمال والكادحين من الطبقات الشعبية الفقيرة، وإيهامهم بامكانية حل تناقضاتهم داخل النظام الراسمالي وضمن إطاره، حجر الاساس في التعاطي مع أزمات النظام بهدف تخفيف الصراع الطبقي وحدة التناقضات الداخلية.

ومن أجل صرف العمال عن معارضة الامبريالية وحروبها وإستغلالها لفقراء الشعوب الاخرى، إنتحى النظام الراسمالي، إضافة الى التضليل الايديولوجي والاعلامي والدعاوي، الى إلقاء بعض الفتات على الطبقات الشعبية، من "غنائم" الحروب ضد الشعوب الاخرى ونهب ثرواتهم، على شكل مكاسب ومنافع إقتصادية وإجتماعية.

خلاصة القول، ان الراسمالية الاميركية أبلت بلاءأ حسناً في "تخفيف" حدة الصراع الطبقي، وصولاً الى تذويبه وحرفه عن مساره بين العمال والفقراء والطبقات الشعبية المستغَلة من جهة، وراس المال من جهة ثانية. ومع ان المعالجة الامينة والوافية لهذه المسائل تتطلب بحثاً مستوفياً ودراسة متخصص، إلا اننا نستطيع ان نقول باطمئنان ان هذه اللوحة الطبقية تشكل احدى المعيقات والتحديات الرئيسية في مشروع التغيير الجذري في الولايات المتحدة.

الدين في الازمة الراهنة

تعمد الطبقة المهيمنة الى تعزيز دور الدين في المجتمع لانه يوفر المبررات الاخلاقية لهذه الطبقة بغية التخفيف من وطأة التناقضات الاجتماعية والاقتصادية وخلق الذرائع لتبرير علاقات الاستغلال والحفاظ عليها وترسيخها. هكذا تمكنت هذه الطبقة من إرجاء، ولو الى حين، إنفجار الثورة الاجتماعية في بعض الاحيان وإجهاضها أحياناً اخرى. ولعل أهم الوسائل التي تستثمرها الطبقة الحاكمة في تسخير الدين، وأكثرها فاعلية في خلق الذريعة لاستغلال الشعب، هي تدمير الوعي الشعبي عن طريق بث الاوهام والخرافات والمفاهيم الغيبية التي تحول دون فهم الناس لحقيقة الواقع وتفسير الظواهر في الطبيعة والمجتمع، وبالتالي التعتيم على وإعاقة إدراك الجماهير لضرورة رفض هذا الواقع وإمكانيات تغييره.

ويعود نجاح المؤسسة الدينية في المجتمع الاميركي في تأجيج الاصولية الدينية وترسيخ سياسات اليمين الرجعي المتطرف ومؤسساته لسببين رئيسيين:
1) الاول، يكمن في تعزيز الاوهام الدينية والخرافات، كما أسلفنا، التي تبشر بالارتكان للارادة الربانية، وتبشر الفقراء والمستغلين بوسائل الخلاص والسعي، عن بالتقوى والتعبد، نحو السعادة في "الحياة الثانية" أو "الاخرى".
2) والسبب الثاني، والذي لا يقل أهمية، يتجلى في حالة القلق والخوف والترهيب والتوتر المستمر في المجتمع الاميركي والتي تغذي وتعزز السبب الاول وتضاعف من تأثيراته المدمرة.

ولحالة الخوف والقلق هذه اسباب كثيرة أهمها الازمات الاقتصادية والاجتماعية والاخلاقية المتلاحقة في مجتمع محكوم بتوتر أزلي لم ينفك منذ عقود. فالمجتمع الاميركي يفتقر الى عوامل الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي والعائلي والنفسي، من ناحية، ومن الناحية الثانية حَبَسَ هذا المجتمع مواطنية في قفص الخوف والترهيب من "الحرب على الارهاب" وخطرها على "ديمقراطيتهم" وحياتهم ومستقبلهم، وإلهاء المواطن الاميركي بين "الحرب على الارهاب" من جهة، والاصولية الاسلامية في حربها ضد اميركا من جهة اخرى. وقد استقطب هذا "التناقض" الجماهير وألهاها عن التناقض الرئيسي: الراسمالية والامبريالية من جهة، وجموع الفقراء والجياع والعاطلين في اميركا والعالم من جهة اخرى.

ومما يزيد من هذا التوتر هو الثقافة العامة حيث تهيمن مفاهيم الاستثنائية الاميركية والمركزانية الاوروبية ـ الاميركية و"زعامة العالم الحر" وغير الحر، وهي تقافة تغذي الشعب بهيمنة الولايات المتحدة "كأقوى دولة في العالم". أضف الى عوامل تعزيز القلق والتوتر تلك، ثقافة الاستهلاك اللانهائي التي سقط ضحيتها المواطن الاميركي دون ان يملك القدرة الاقتصادية (الشرائية) على إشباع هذه "الرغبات" والتي تصطدم دوماً بتحديات اقتصادية واجتماعية كبيرة، سبقت الازمة الراهنة بعقود (انظر لاحقاً).

ما يهمنا تأكيده هنا ان هذه المفاهيم الدينية والاصولية (بما تتضمنه من معتقدات دينية ووظيفة المؤسسة الدينية في المجالات الاجتماعية والسياسية) تجد إنتشاراً وإرتياحاً لدى فئات وقطاعات واسعة من الشعب والطبقات الشعبية بشكل خاص وهي القطاعات والطبقات التي تشكل القاعدة المادية والقوة الدافعة لأي تغيير جذري في المجتمع الاميركي.

الجهل وتكنولوجيا التجهيل

في تقييم الاوضاع القائمة والتأمل بمشروع المستقبل في الولايات المتحدة، تستوقفنا مفارقتان هامتان:

الاولى: في حين يفترض ان تكون الطبقات والفئات الاكثر فقراً والتي ترزح تحت أشد صور الاستغلال والاضطهاد، تكون السباقة للتغيير الثوري ورفض قيود العبودية والانطلاق نحو التحرر، نجد ان القناعات الدينية تشكل احدى كبرى المعيقات امام توعية هذه الطبقات وتنظيمها في عملية التغيير. وتتمثل أهمية هذه المسالة أيضاً في أن النضال ضد الاستغلال ومن أجل العدالة الاجتماعية يستلزم توحيد أكبر وأوسع قطاعات وفئات الشعب الذين هم في واقع الامر أصحاب هذه المعتقدات الدينية والموالين للمؤسسة الدينية وهم في الآن ذاته، أصحاب المصلحة في التغيير والاطاحة بالنظام الراسمالي.

أما المفارقة الثانية، في هذا الصدد، فهي ان الدين ومؤسساته في الولايات المتحدة يعمل على تجهيل الشعب وبشكل منظم وممأسس بغرض حرفه عن فهم الواقع فهماً مادياً وعلمياً، في مجتمع هو الاكثر تقدماً في تكنولوجيا المعرفة ووسائل الاتصالات (الانترنت وغيرها).

الاستهلاك وقود الاقتصاد الاميركي

لم يكن يتسنى للاقتصاد الاميركي ان يحرز هذا النمو المنتفخ والمشوه، كما شاهدنا في السنوات الاخيرة، دون الاستهلاك الاميركي الذي شكل وقود هذا الاقتصاد. ولعل الادق أن نقول ان الاقتصاد اعتمد على قدرة المستهلك على الاستدانه والحصول على قروض واستخدام ال"كرديت كارد" (النقود البلاستيكية). ويجب ألا يتوهم أحد ان المواطن الاميركي العادي يملك الدخل او القدرة على الاستهلاك الذي نشهده في المجتمع الاميركي أو ان دخله يتيح له هذا المستوى المعيشي والقدرة الشرائية الشرهة وهذا القدر من الترف والتبذير المفرطين. كي "يزدهر" الاقتصاد الاميركي، كما رأينا في العقود الاخيرة، كان لا بد للاميركي ان يذهب اشواطاً بعيدة وأن يطرق دروباً غير مألوفة في التبذير والاستهلاك الذي يفوق دخله وقدرته الشرائية وقدرته على الاستدانة وكل ما يملكه من سيوله وسيارات وعقار.

وبعيداً عن المبالغة، يمكننا القول ان هذا الاستهلاك الاميركي "والحلم" الذي بني عليه ، يشكل أحد الركائز والخصائص الاساسية للنمو الاقتصادي في الولايات المتحدة. ودون الدخول في الابعاد الاجتماعية والاخلاقية لهذه الظواهر، نكتفي بالقول ان نمو الاقتصاد والسوق الاميركيين كان في جوهره "نمواً إستقراضيا"، إن جاز التعبير، فاق كل المداخيل والقدرة على تسديد القروض الى حد تعذر معه المزيد من الاستقراض.

نخلص الى بعض المشاهدات التي قد لا تخلو من التعميم، إلا أنها جديرة بالملاحظة لدى رصد الثقافة السائدة في المجتمع الاميركي:

□ قد يُقر المواطن الاميركي بان "الرفاه" الاميركي هذا لم يكن ممكنا دون "سخاء" الامبريالية الاميركية وإنجازاتها "التاريخية" على المجتمع الاميركي، وقد يعترف، لانه لا يستطيع أن ينكر، ان هذا السخاء وما تبعه من رفاه جاء "ثمرة" حروب امبريالية ونهب ثروات شعوب العالم وفقرائه ودفع الملايين منهم الى المزيد من الافقار والجوع والتهميش. قد يقر بذلك، وإن على مضض، إلا ان هذا لا يتعدى القبول الشكلي والتعبير اللفظي الذي لا يتجاوز السطح ولا يعبر عن إدراكٍ للمسألة.

□ وعليه، فالمواطن الاميركي غير مستعد للتضحية أو التنازل عن "اسلوب" الحياة الاميركية بما فيها من ترف وجشع ونهم وإمتيازات، بل هو يعتقد ان هذا الاسلوب هو الامر الطبيعي وهو حق يستحقة. وهو موقف عنصري بامتياز يستقي من مركزانية اوروبية ـ اميركية تم إستداخلها في الثقافة العامة منذ عقود.

□ تسود القناعة بدور متميز ومهيمن للولايات المتحدة في العالم "كزعيمة" له، وهي قناعة تقوم على تعبئة سياسية قومية تشمل كافة جوانب الحياة والثقافة والتربية الوطنية، من جانب، كما تقوم على قناعات لدى قطاعات واسعة من المجتمع الاميركي وخصوصاً أبناء "الطبقة الوسطى" تغذيها مقولات دينية توراتية بانه انيط باميركا دور إنقاذ هذا العالم من الدكتاتورية والتخلف والسير به نحو "السلام" والحرية والديمقراطية. ويخطأ كل من يقلل من قدر هذا المفاهيم والقناعات في النفسية والعقلية والمسلكية الاميركية.

إلا انه تحت هذه القناعات والطروحات التي يتلقنها المواطن الاميركي بقصف يومي لا ينقطع عبر وسائل الاعلام وفي والبيت والمدرسة والكنيسة، تقبع عنصرية شوفينية اميركية اوروبية بيضاء قوامها تفوق العرق الابيض والذكر الابيض والنظام الراسمالي والمجتمع البطريركي، وهي عنصرية ليست موجهة ضد الشعوب "الاخرى" "والآخرين" من الفقراء والملونين والاعراق فحسب، بل وضد فقراء اميركا انفسهم ونسائها وإثنياتها المتعددة.

□ هناك قطاعات كبيرة من القوى الرجعية انحدرت من اصول طبقية فقيرة ومعدمة. وفي حين ان مصالحها الموضوعية تكمن حقيقة في الثورة وفي التغيير الجذري، إلا أنها، ولاسباب عديدة، إصطفت مع القوى الرجعية. هذه القطاعات لابد ان تظل في ذهن القوى الثورية ومحط إهتمامها والعمل على كسبها سياسياً لصالح الثورة والمسيرة النضالية وحسم إنحيازها نهائياً لصالح الثورة.

وهن اليسار الاميركي

تدرك الطبقة الحاكمة مقدار المخاطر الكامنة في الاوضاع الاقتصادية والاجتماعية المتردية، وتدرك إحتمالات الانفجارات والانتفاضات التي يمكن ان تتمخض عنها، ولا شك أن في جعبتها الكثير من إستراتجيات المواجهة والقمع. وتمعن هذه الطبقة بيمينها المتطرف و"بوسطها المعتدل" وبحزبيها الحاكمين، الديمقراطي والجمهوري، وبما يتربعان عليه من مؤسسات الحكم والقمع والبطش، تمعن في أجندتها وتعزيز المقدمات المادية الملموسة لهيمنة دكتاتورية أصبحت جلية في السنوات الاخيرة (الحملة ضد الحقوق والحريات الديمقراطية والمدنية للمواطنين واعلان قوانين الطوارئ وسن التعديلات الدستورية وتشريع القوانين لزمن الحرب).

في المقابل ليس هناك من إيماءات جدية من اطراف المعارضة واليسار والقوى التقدمية لصياغة استراتيجية نضالية ومقاومة. فما فتأت هذه القوى تائهة في الجدل والتنظير السياسي والايديولوجي، وما زالت قوى هذا اليسار تتحاشى في أقوالها وأفعالها ما يمكن ان يوصف بانه "راديكالي" أو"متطرف" كي يضمن رضاء الكل وخشية أن يثير حفيظة أحد.

(5)
مسلمات ومفارقات

المشهد الاميركي معقد، ولا بد من أجل قرائته وتفكيك مكوناته، من معالجة العديد من الاسئلة والاشكاليات ليس أقلها المفاهيم التي سادت لما يقارب قرنا من الزمن او أكثر حول إستتاب الامن والاستقرار وإضطراد التقدم والازدهار وما يسمى ب"القرن الاميركي"، وحول إستحالة أو عبثية الثورة والتغيير الثوري في الولايات المتحدة الاميركية.

الاستقرار الاميركي

على خلاف الانطباعات السائدة عن المجتمع الاميركي والتي تعطي صورة زائفة عن هذا المجتمع، وبالرغم من أن "الظاهر" الاميركي يشي بان الاستقرار والآمن مستتبان،
فان الداخل الاميركي يفتقر الى الامن الاجتماعي وتغيب منه الكثير من عناصر الاستقرار والضمانات الاجتماعية والانسانية. ولا تقتصر هذه الانطباعات على العالم الخارجي بل يصدقها الكثيرون من الاميركيين وتغزو في العديد من تجلياتها النسيج الثقافي والذهنية الاميركية ذاتها. على النقيض من ذلك، فان الواقع محتقن بالتناقضات الاجتماعية والاقتصادية.

إستحالة الثورة

يسود إعتقاد لعقود طويلة بان الثورة لا ولن تحدث في أميركا. وكأن هذا البلد وهذا المجتمع خارجان عن سياق التاريخ وقوانين حراكه. وينفي الكثيرون من الاميركيين، بما فيها بعض المنحدرين من أصول عالمثالثية، إحتمال الثورة ويستشهدون بتاريخ طويل من الازمات والمنعطفات التي حلّت بالولايات المتحدة عبر القرنين المنصرمين وحبلت بالكثير من كوامن التغيير والثورة ولم يتحقق منها سوى يعض الاصلاح و"التحول" ولم يرقى أي منها الى التغيير الجذري.

إلا أن مثل هذا الاستشهاد بالاحداث التاريخية والارتكان الى هذا التفسيريتناسى ان "تكرار التاريخ" لا يتم ضمن الظروف الموضوعية والذاتية ذاتها حيث تتسم كل مرحلة بقواها وتناقضاتها الطبقية ومصالحها وخصائصها المتصارعة.

وتكمن جلّ اسباب مثل هذا الاعتقاد في هيمنة الطبقة الحاكمة وهجمة اليمين والقوى الرجعية، من جهة، وفي ردة اليسار الاميركي ووهنه وتفتته "وتأقلمه"، من جهة اخرى. كما تقف خلف هذا الاعتقاد حملة ايديولويجية ـ سياسية ـ ثقافية غزت النسيج الاجتماعي الاميركي بكافة مكوناته، كما غزت العالم، استخدم فيها رأس المال كل ما في ترسانته من اسلحة اعلامية ودعاوية كرّس بواسطتها ومن خلالها العديد من النظم القيمية والمفاهيم وزرعها عميقاً في الذهنية الاميركية ليس اقلها ان اميركا بلد الحرية والديمقراطية، وزعيمة العالم الحر، وهي اقوى دولة في العالم اقتصادياً وعسكرياً وتكنولوجياً، وغيرها من الانطباعات والمفاهيم. وقد جاء حكم اليمين المتشدد في السنوات الاخيرة ليجعل من هذه المقولات مسلمات غير قابلة للنقاش أو التساؤل يسندها العديد من إجراءات الترهيب والقمع الذي ضربت اوصال المجتمع الاميركي وما صحبها من قوانين سُنت لشرعنتها.

شلل الشارع الاميركي

بالرغم من الآثار الكارثية الناجمة عن الازمة الاقتصادية ـ الاجتماعية الراهنة والتي ضربت الركائز الاساسية للحياة "والاستقرار" "والرفاه" الاميركيين، وما تُنبأ به من خراب قادم، لم يشهد الشارع الاميركي، بجماهيره وعماله ونقاباته وطلابه وحركاته السياسية بما فيها "اليسارية" والتقدمية، حراكاً جذرياً أو جدياً يمكن له ان يشكل تحدياً ولو رمزياً للنظام والطبقه الحاكمة.

كان من المتوقع والممكن، على سبيل المثال، تطوير حركة عمالية وشعبية تثور ضد فساد الشركات ومديريها وتشكيل "لجان مراقبة" عمالية لتطالب بمحاسبة ومراقبة الشركات ومديريها من لصوص ونصابين، وتشكيل حركة تضامن مع الذين فقدوا بيوتهم واقامة تظهرات واعتصامات جماهيرية ضد مصادرة البيوت ومنع بيعها في المزيد العلني وتشريد الناس منها، وكذلك ضد البنوك والشركات وملايين الدولارات التي ضختها الحكومة ل"لانقاذهم". وليس هناك في المشهد الاميركي، على الاقل في الفضاء العلني، ما ينبأ بطروحات جدية وجذرية أو ما يشير الى ظهور أو نهوض حركات وأحزاب تنوي وتعمل هلى إلتقاط اللحظة التاريخية الراهنة والمبادرة بالتوجه الى الجماهير العريضة والعمل على توعيتها وتنظيمها وتجنيدها في خدمة مشروع التغيير الجذري.

فما زالت الطبقة الحاكمة قادرة على إحكام قبضتها على الشارع وقواه السياسية والاجتماعية. ولعل تفسير ذلك، او احدى التفسيرات، تكمن في قدرة هذه الطبقة من بسط هيمتنها الايديولوجية والسياسية بما اوتيت به من وسائل وآليات. فقد إنتهى حراك الشارع الاميركي خلال العقود الاخيرة الى أشكال التظاهرات والاعتصامات وغيرها التي سرعان ما تخبو دون أن تتحول الى حراك طبقي تأخذ به الطبقات الشعبية المستغَلة وصاحبة المصلحة الحقيقية وتصعدة الى مستويات أشمل وأرقي النضال. ومن الجائز أننا نقف اليوم أمام محطة مشابهة ومتكررة، في كثير من جوانبها وأبعادها، للتجارب السابقة في التاريخ الاميركي المعاصر.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ماذا وراء استئناف الخطوط الجوية الجزائرية رحلاتها الجوية من


.. مجلس الامن يدعو في قرار جديد إلى فرض عقوبات ضد من يهدّدون ال




.. إيران تضع الخطط.. هذا موعد الضربة على إسرائيل | #رادار


.. مراسل الجزيرة: 4 شهداء بينهم طفل في قصف إسرائيلي استهدف منزل




.. محمود يزبك: نتنياهو يريد القضاء على حماس وتفريغ شمال قطاع غز