الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


غيبوبة

ايناس البدران

2009 / 2 / 23
الادب والفن


كنت لما أزل أنفي تهمة الموت عني في عالم يدعي الحياة حين لمحت وميضها بطرفة عين ، ولما إخترقت بعنادها الأجوف جمجمتي مادت بي الأرض وتظاهرت بالموت .
أصيخ السمع للكلمات تولد ميتة على شفتي كأسئلة تجوب أروقة المجرات ، تعاكسها سطوح المرايا وأصواتهم رجع أصداء بعيدة ، ألملم حيرتي معها .. ويجمعون ما تبعثر مني ! .. للوهلة الأولى بدا المكان غارقا في حمرة معتمة ، رويدا بدأت حجب الظلام تنجلي فوجدتني أجوب سدما يتخللها غمام حدائق ودروب تحفها أحراش تفضي الى نفق سماوي بلا نهاية .
الوجع ينبض في دمي كقطرات مطر ، كشذرات في قصيدة منسية ، منذ فجر موؤود نسج من فراغ ولد من لجة ألم ، مذ أصبحت صدورنا وعقولنا مصدات لأسلحتهم " الذكية " وهذا النزيف يشربه أديم الأرض بصمت العارفين الأولياء بصبر الأنبياء .
كنت اعلم أنها لعبة أيام ضائعة نكررها تكررنا كالنمل يعيد تشكلاته حول القدم العملاقة بعد أن داسته .. داستنا . هكذا نطوي صفحة لطختها الآلام لنبدأ مواجهة أخرى ضائعة نكرر فيها ذات الحماقات نجتر نفس المخاوف دون أن نتعظ من موت أو حياة .
ها قد حل فصل في حياتي محل آخر ظننته الأخير .. إبتدأ كإنبثاق عجيب كأنه الأول ! صفحاته بيضاء مثل أقمطة الوليد بإنتظار خربشات جديدة وسطوره جوعى لأي حروف و إن كانت بلا معنى .. بلا جدوى .
ها أني أودع أياما خلفتها ورائي .. ما كان أجمل الجناح والرفرفة وكتابي الملون واللف من صف لصف من عام الى عام و أنا أبدل شرنقتي بأخرى أكبر قليلا لأسير ذاهلا بنعمة سذاجتي من درب الى درب عاما بعد عام وصولا الى .. الآن .
قد كففت عن الرحيل .. والذي يعيش في داخلي يتأمل الآخر الذي مات فأجدني مضطرا الى حمل ما تبقى مني وأمضي الى .. لست أدري .
كنت أقمت مقبرة في عقلي لكل من مروا بي من أحياء وأموات وتركوا فيه ندبا وكدمات وحسرات ، وحين تمثلت إمتداداتها وحسن ترتيبها لا أدري لماذا إنشرح صدري ! ربما لأنه لايجوز ترك وجوه كهذه لتتعفن وتتفسخ ببطء أمام ناظري .. وإكرام الميت دفنه على أية حال .
وكغيمة عطشى أضناها الترحال ارقب نثيث الصور على جدار الذاكرة .. يوم طارت حمائم اعتادت أن تنقر حبات القمح ونتف التمر من كفيه السخيتين المتعبتين ، وإنفرطت مسبحة جدتي ، وعلا المرايا نشيج نسوة خبرن فجيعة الفقد ، فإفترشن السواد يقاسمنها الدمع والصبر ، وهن يهذين بين أكوام الثياب التي فاح منها عطر رجولة ذوى ، يشيعن زمانا إنطفأ ، يودعن صقرا حلق بعيدا خلف سدم الغيب غادرهن على عجل بغير وداع .
وجوههم ترنو الي بدعوة مبهمة محببة ، اللجة تغمرني تحملني بعيدا لبحور نأت بشطآنها ، أشهق بصرخة .. بودي أن اصرخ مطالبا بشيء نسيته مثلما تناساه غيري .. صرخة واحدة ماضية تشق كسهم ناري كبد السماء تقلق وحشة ليله تؤرق سواده . . ولكن متى إخترت أن أكون نملة ولماذا ؟
أيامي تترى سراعا تساقط كأوراق الخريف ، تدفع بها عجلات الزمن تعبر فوقها ، الزمن الذي يتخطى كل شيء ، الذي يعبر فوقها بقلب حجري كأنه لا يراها ، انه يطرق بابي بأصابع من ماء .. اللهم بيض وجهي يوم تبيض وجوه .. وجوه كثيرة تحدق بي لا يفاجئني شحوبها اعرف سر صمتها بعد إذ بت أرى كل شيء بعيون عقلي و أتلمس الأشياء بمجسات روحي التي تحررت من كل ما يستبيح نقاء البشر .. حتى بت أخشى على قاتلي من صحوة ضمير .. وأصيخ السمع للكلمات تولد ميتة على فمي كأسئلة تجوب أروقة المجرات .. و أصواتهم رجع أصداء بعيدة .. بعيدة .












التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أمسيات شعرية- الشاعر فتحي النصري


.. فيلم السرب يقترب من حصد 7 ملايين جنيه خلال 3 أيام عرض




.. تقنيات الرواية- العتبات


.. نون النضال | جنان شحادة ودانا الشاعر وسنين أبو زيد | 2024-05




.. علي بن تميم: لجنة جائزة -البوكر- مستقلة...وللذكاء الاصطناعي