الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المصالح التركية وأوهام الأصولية المسيَّسة

نجيب غلاب

2009 / 2 / 24
مواضيع وابحاث سياسية


العقل الأصولي المسيّس يمتلك ترسانة فكرية ثقيلة الوزن غيبية المظهر ودنيوية المنحى واقعاً، فمن يتابع سلوك الإسلام السياسي سيجد أن شعاراته الدينية يختفي وراءها نزوع انتهازي في تعامله السياسي وهو مدعوم بذكاء غير عادي في حساب المصالح التي يخادع ويفسرها بأنها هي مصالح الإسلام ويدعي منظروهم أن قياداتهم طاهرة وأن الحركات ليست مهمومة إلا بالعقيدة والشريعة وانتصار الحق وإقامة العدل. أما المصالح الدنيوية المتحققة فهي تحصيل حاصل رغم أنها كما يؤكد الواقع جوهر كل حراك، والإسلام السياسي مثله مثل دعاة الوطنية، فباسم الوطن يُؤكل الوطن، إلا أن الإسلاموي يتمكن بجدارة من خداع الجماهير الغارقة في تدين بريء فمن قال الله قالوا صدق، لذا فقد تحولت كلمات الله إلى شعارات سياسية في صراع المصالح.
ورغم الواقعية في التعامل مع طبيعة الصراع الحاكم للسياسة إلا أن أنصار التيار الإسلاموي ومثقفيه خصوصاً دعاة الفكر والايديولوجيا يفهمون الواقع باستخدام خطاب عاطفي وساذج وانفعالي خصوصاً الأحداث الخارجة عن مسار التأثير على مصالح أحزابهم ويتمكن الأذكياء منهم أباليس السياسة من تعبئة الجماهير باستغلال الحدث الخارجي لصالح صراع المصالح في الداخل.
يمثل فهمهم للدور التركي الجديد في المنطقة العربية عينة واضحة، فالإسلاموي ـ أو من تأثر بنزوعهم العاطفي ـ تسيطر عليه أوهام الايديولوجيا والتي تخلق لعقله حجاباً يلغي دور العقل في فهم الواقع، أما السياسي المحترف منهم فمهما أدعى إيمانه بأوهام الايديولوجيا فإن حساباته دقيقة وهذا يتحدث بلغة الايديولوجيا لكنه وظف الفكرة والتفسير فيما يخدم المصالح.
كيف فهم المؤدلج الدور التركي ؟
تم عزل واقع تركيا الاتاتوركية وواقع حزب العدالة والتنمية والتي هي في حقيقتها حركة قومية تؤسس لنفسها على البعد الإسلامي والعلمانية بالنسبة للحزب صارت خياراً محسوماً فقد تمكنت النخبة القيادية للحزب بعد تجارب طويلة أن تعمر قناعات حقيقية فيما يخص العلمانية واستطاعت أن تتجاوز تردد أربكان.
إلى ذلك تركيا دولة وطنية لها مصالحها، مثلها مثل أي دولة قومية أخرى وهي تتحرك بوحي مصالحها ليس إلا، وليس للقيم والعقائد أي دور فاعل في تحديد خياراتها الخارجية، وميزة تركيا مع حزب العدالة أن العقائد أو القيم المستخدمة لا تستخدم بطريقة انتهازية قذرة وإنما باعتبار هذه القيمة أو العقيدة السياسية أو حتى الدينية مهمة لمصالح تركيا، ويتم توظيفها التوظيف الصحيح والذكي، وهنا لابد أن نذكر أن رجل الدولة أياً كانت قيمه الشخصية عندما يصنع القرار الخارجي يفكر بعقلية الدولة ولن نبالغ إذا قلنا إنه يفكر بعقل الدولة لا بعقله الشخصي خصوصاً إذا كانت الدولة مؤسسية ولا ننفي هنا تأثير القائد على صناعة القرار.
تجاهل الأصولي الواقع وفجأة بين ليلة وضحاها أصبح أردوغان حفيد بني عثمان وزعيم الإسلام الذي لا يبارى، وأصبح أتراك حزب العدالة والتنمية هم العثمانيين الجدد، لقد تفجّر المكبوت لدى الإسلام السياسي وتجلّت أحلام الخلافة في هذا المسلم البطل الصنديد المدافع عن المسلمين ومصالح المسلمين، ولم تعد تركيا أتاتورك وأحفاد أتاتورك ملاعين وكفرة، لأنهم دمروا الخلافة وسلّموا العالم الإسلامي للاستعمار بل إنهم في ظل تصريحات أردوغان تحولوا إلى محررين لفلسطين من جبروت اليهود.والسبب أن العقل العربي عقل عاطفي آني سطحي رغبوي لذا فإنه يتأثر بالخطاب ويتجاهل الواقع وحقائقه.
البعض شتم ولعن حكام العرب حتى المناهضين لإسرائيل والرافضين بالمطلق إقامة علاقات مع إسرائيل وبدأ يقدّس حكام تركيا، رغم أن العلاقات التركية الإسرائيلية تاريخية وعميقة وواسعة وتمثل تركيا بتدخلها في المنطقة عامل أمن واستقرار لإسرائيل، ولا نلوم تركيا فهي صاحبة الحق في تحديد مصالحها وكيف تحققها؟ بل نحاول هنا أن نفهم، فبينما العالم يتحرك بمنطق السياسة أي بمنطق العقل سنجد أن البعض في عالم العرب الحالم بمن ينقذه من واقعه السيئ بعد أن قيدوا العقل بدأ يعتقد أن العثمانيين الجدد سيعيدون الخلافة وأنهم قادمون لمواجهة أعداء الإسلام في المنطقة وتبني سياسات داعمة للأصولية الإسلامية في مواجهتها المحمومة مع الأنظمة الحاكمة.
المسألة ببساطة، استطاعت دولة تركيا عبر زعيم حزب العدالة والتنمية أن تسوق نفسها في المنطقة بذكاء شديد وهذا التسويق ليس إلا المقدمة لتنفيذ إستراتيجيتها الجديدة المتجهة نحو الشرق ، وقراراتها الخارجية المتعلقة بالمنطقة منذ الغزو الأمريكي للعراق اتخذت مسارات الهدف منها تحويل تركيا إلى لاعب أساسي في المنطقة، وهي تتحرك وتعرف المنطقة جيداً بحساسياتها وحاجاتها وصراعات النفوذ فيها.
لم يكن موقفها في حرب غزة إلا تتويجاً لفلسفتها في اختراق العقل العربي وقلبه حتى تتمكن من فرض مصالحها وفق آليات سلسة وناعمة، فتركيا لا تتحرك كما يتصور العقل العربي المغطى بغشاوة فهم العالم من خلال الايديولوجيا والانفعالات العاطفية بعشوائية أو بانفعال عاطفي بل وفق حسابات دقيقة وموزونة ومخطط لها باحتراف، يتحرك الأتراك بذكاء ورغم مخاطر تحركاتهم على مصالح بعض الأطراف الإقليمية كإيران ومصر والدولية كالاتحاد الأوربي، إلا أن حرب غزة أثبتت أن الأتراك تمكنوا من التواصل مع الحكام ومع الشعوب العربية بذكاء غير عادي وتمكنوا من التواصل مع الجميع بلا استثناء، وجعلها مقبولة شعبياً في كل دول المنطقة.
ولابد أن نذكر أن تصريحات أردوغان الإنسانية والأكثر واقعية فيما يخص حرب إسرائيل على غزة أن تمكنت من تسويق تركيا وقيادتها في المنطقة وجعلها تنال إعجاب الجميع، إلا أن المكاسب الحقيقية هي في الداخل التركي فالانتخابات البلدية القادمة في تركيا كانت تتطلب أيضاً مواقف متوافقة مع القاعدة الاجتماعية العريضة المؤيدة للحزب في الريف والمدينة وهي في أغلبها متدينة ومهتمة بأمر المسلمين ومتعاطفة مع القضية الفلسطينية ولديها رغبة في الاتجاه نحو المحيط الإسلامي، وقد تمكن أردوغان من مخاطبة الرأي العام المؤيد لحزبه، ونجح في تخفيف الانتقادات التي توجه لزعماء الحزب من مؤيدي الحزب نتيجة سياساته التي لا فرق بينها وبين أي حزب علماني آخر في الساحة من حيث المرجعية العلمانية، رغم تركيزه على الحرية الثقافية وتسهيل تأدية الشعائر وممارسة الحقوق والحريات الدينية التي مازالت مكبوتة رغم وجود الخليفة أردوغان.
والمشكلة أن تقوم الحركات الأصولية في العالم العربي بالتسويق لنفسها من خلال تسويق نجاحات حزب العدالة باعتباره حزباً إسلامياً دون إدراك لتجربة الحزب وتركيبته وقناعاته الفكرية، فالقيادات الحزبية تتبنى العلمانية التي تفصل الدين عن السياسة كقناعة كما ذكرنا سابقاً وترى أن الدين ثقافة مجتمعية وهو جزء من القومية التركية التي تمثل جوهر تركيبة الحزب الذي يتكون من قوى إسلامية ووطنية وليبرالية، وحزب العدالة هو نتاج لتجربة طويلة في مواجهة الاتجاه العلماني المتطرف والتي انتهت ببناء فكري أكثر مرونة في قبول العلمانية كمحدد جوهري لإدارة الدولة، مع إعطاء الحرية الشخصية مجالاً أوسع.
المسألة المهمة أن الاتجاه نحو الشرق لا يعبر عن قرار اعتباطي أو انفعالي بل استجابة للتحولات الداخلية في تركيا والتحول في البيئة المحيطة بتركيا، فالقاعدة الاجتماعية الاقتصادية التي ترتكز عليها الدولة وأيضاً قاعدة حزب العدالة والتنمية من رجال الأعمال أصبحوا يرون أن الاتجاه شرقاً يخدم مصالحهم ومصالح تركيا، وأن هذا الخيار ربما يكون أكثر جدوى ومنفعة لمستقبل تركيا من الاتجاه غرباً خصوصاً والاتحاد الأوروبي مازال يتلكأ في انضمام تركيا للاتحاد، لكن هذا لا يعني التخلي عن أوروبا بل إن قوتها في الشرق هي من ستمكنها من فرض نفسها بقوة على الاتحاد الأوروبي.. بالنسبة للولايات المتحدة وحتى الغرب عموماً يمثل دخول تركيا إلى الشرق أي إلى المنطقة العربية وإلى الجمهوريات الإسلامية المستقلة في وسط آسيا سيكون له دور بفعل التجربة التركية وقربها من ثقافة الشرق وباعتبارها دولة قريبة جداً إن لم تكن متطابقة مع الدولة القومية الغربية في إخراج المنطقة - خصوصاً العربية - من الصراع والحروب والانفتاح والتواصل مع العالم.
تقوم سياسة تركيا الخارجية على مبادئ عقلانية واضحة ذات منحى سلمي تعاون، حيث يؤكد مسئولوها على بناء علاقات إيجابية تركز على الدفاع عن المصالح المشتركة وضرورة التقارب والتعاون فيما يخدم مصالح الجميع ويؤسس لأمن والاستقرار، وتعتمد تركيا على سياسة النفس الطويل في بناء العلاقات في المنطقة ولكنها مع حرب غزة أصبحت مستعجلة.
ولا ننسى أن تركيا هي وسيط السلام بين تركيا وسوريا وهي من أكثر الدول الإسلامية حرصاً على أمن إسرائيل ولكن وفق آليات ذكية ومحترفة أي أن تركيا دولة وطنية بامتياز، أما الدول العربية فمازالت تفكر بعقل الحركة أو الحزب أو الشخص، والمشكلة أن الأصوليات هي من تدفع المنطقة لإلغاء عقل الدولة لصالح عقل المراهقة السياسية الذي يحكم الحركات الدينية وبعض ساذجي القومية.










التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. رغدة تقلد المشاهير ?? وتكشف عن أجمل صفة بالشب الأردني ????


.. نجمات هوليوود يتألقن في كان • فرانس 24 / FRANCE 24




.. القوات الروسية تسيطر على بلدات في خاركيف وزابوريجيا وتصد هجو


.. صدمة في الجزائر.. العثور على شخص اختفى قبل 30 عاما | #منصات




.. على مدار 78 عاما.. تواريخ القمم العربية وأبرز القرارت الناتج