الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نحو نقض الميح التدجيني / التبجيلي لنشيد السلطة

ماجد الشيخ

2009 / 3 / 6
مواضيع وابحاث سياسية


تشكل الأمية المعرفية الثقافية والعلمية والسياسية والحقوقية والقانونية في ظل إنتشار التعليم التلقيني – الانتقائي، واحدة من أسباب شيوع الثقافة النقلية – التقليدية والاتباعية – الاخضاعية في ما أنتجته في مجمل مناحي الحياة العربية؛ وهي التحدي الابرز أمام مشروعات بناء تنمية مستدامة في نطاق مشروعنا المجتمعي التاريخي لبناء حداثتنا المنتجة، ومأسسة الحرية في مجتمعاتنا، بدءاً من إختيار السلطة ديمقراطياً، مروراً بالأطر التربوية والتعليمية وصولاً إلى بناء أطر معرفية ثقافية، تنقذ مجتمعاتنا من بطش التعليم التلقيني، ويمؤسس حريتها في بناء ثقافة المعرفة، كنقيض لشهادات الثقافة الاكاديمية او السلطوية، في نقلة تاريخية تؤسس لوعي الضرورة في خلق أنساق من المعرفة المستدامة والثقافة المستدامة، كضامنة وضمانة أولى لتطوير بنى إجتماعية وسياسية وإقتصادية وعلمية وتربوية، تساهم إسهاماً فعالاً في القضاء على البطالة والعطالة الانتاجية والسياسية. وتلك مهمة لا تحسن القيام بها إلاّ بنى مجتمع المعرفة واقتصاد المعرفة وسياسة وثقافة المعرفة، تلك التي ساهمت في مجتمعات اخرى في إحداث النقلة النوعية من اقتصاد الثورة الزراعية والثورة الصناعية في ما بعد إلى إقتصاد الثورة التكنولوجية والتقنية والرقمية الحالية.

ورغم محاولات بعض "المتنورين النهضويين" في عقود القرنين السابقين تجاوز حدود الذات، ومحاولة خلق وإبداع مناهج تحمل سمات خاصة لعصرنة فكرية وتحديثية، يمكن إستدخالها في إطار العملية الابداعية المعرفية، بهدف الانتقال خطوات هامة نحو حداثة العقل وأرجحيته على حساب سلفية النقل وإنحطاطيته، كما جادت به قرائح القائمين على الحياة العربية في سنوات الانحطاط الاولى، إلا أن تلك المحاولات – وبما فيها المحاولات الراهنة – على الاقل خلال سنوات العقود الاخيرة من القرن الماضي واوائل القرن الحالي باءت وتبوء بالفشل، وذلك ناتج تراكم وتضافر كافة عوامل التخلف الذاتي في البنى الثقافية والفكرية والعلمية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية القائمة في بلادنا، حتى قبل أن تتساند وتتشارط معها عوامل التخلف الموضوعي في ما أنتجته من بنى مرتبطة وتابعة لقوى الاحتلال والاستعمار والغزو الاجنبي على إختلاف موجاتها وطبائعها وأجناسها وثقافاتها وهوياتها القاتلة.

والواقع الثقافي العربي – وكما كان بالأمس – لا يشهد لقيام ثقافة واحدة في الاطر المعرفية، وهذا ليس حالنا فحسب، بل هو أيضاً لصيق حالات كل الثقافات الانسانية على اختلافها. هناك ثقافات متعددة داخل الاطار المعرفي لمكونات الدولة / الامة على النطاق الكوني، ولا تشذ عن ذلك حتى المكونات البدائية لأشباه الدول، حتى في الانماط القبائلية والعشائرية تتعدد الثقافات في تغايرها المختلف، كما في تغايرها المؤتلف، منها ما يشكل في تثاقفه إغناءً لتنوعه، ومنها ما يدور في دائرة مغلقة في نمطيته وتخلفه، وفيما يقود الاغتناء إلى تطوير الذات الاجتماعية ويؤدي بالتالي إلى خلق حيثيات حداثة مبدعة، إلا أن الانغلاق يؤدي بالتأكيد إلى العزلة، وإستبقاء تلك الذات بعيدة عن كل حيثية، يمكن أن تشكل إرهاص الخروج من سلبية الانحطاط وأطره الايديولوجية ذات السمات الشمولية، المكتفية بذاتها وذات معارفها وثقافتها النقلية التلقينية والاتباعية.

على أن ثقافة النقل والتلقين إنتقائية بإمتياز، وهي إذ لا تنتمي إلى عصرها، فهي على الدوام تتناسل من لازمنيتها لتتسرب إلى كل زمن، معلنة خروجها عن منطق الاجتماع الانساني، وهي إذ تبتدع عصراً ما لزمنها البدئي، فلكي تعلن قطيعتها المعرفية والثقافية والفكرية عن كل زمن وعن كل عصر، إستناداً إلى واقع الانغلاق والقطيعة والفواصل، وواقع غياب الثقافة والفكر المؤسس للممارسة المجتمعية والاجتماعية في إطار الحداثة المفترضة في كل عصر وأوان.

وهكذا تصبح واقعة الانحطاط لحظة مؤسسة في التاريخ لم تدشنها واقعة ما أو حدثاُ ما، قدر ما يكرسها الآن الواقع السياسي – الاجتماعي ذاته بإنفكاك وتفكك مفاعيله السياسية وإقصائيتها الاستبعادية للسياسة وللثقافة وللفكر ولشتى أنواع المعارف الانسانية، وسقوطها ليس بفعل الاحتلالات الاجنبية وما تشيعه من هيمنة شمولية، بل وبفعل وهن السلطة أو السلطات البطركية أمام فتنة السلطة وفتنة الارتباط بالخارج، وتغولها في الداخل، وإستدخال أنوفها في كل ما يحرف ويحط من أفكار وثقافة نخب حاولت وتحاول عصرنة أو تحديث مجتمعاتها عبر نشر مفاهيم نهضوية، وإستحداث مجرى آخر لحداثة تبسيطية ما كان لها ان تنجح إلا في مغايرتها ومناهضتها لكل سمات التفكير السائد، وإختراقها تلك الانماط الجامدة التي شكلت قواعد ومعايير ثقافة النقل والتلقين في إنشداهها والانشداد نحو تحصين إزار الانحطاط. إذ لا يمكن لحداثة أن تنبني على قاعدة تلك الاختلالات التاريخية والخلل الثقافي المزمن، وعلى أرضية من هشاشة السلطة ومن سلفيتها وهويتها القاتلة.

مثل هذا الخلل في بنية ثقافتنا العربية هو الذي شكل الارضية والقاعدة التي إنبنت فوقها مداميك أبنية كل خلل نشهده في أوضاعنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية وبضمنها العلمية والتعليمية، وكل ما يشكل قاعدة إنبناء المجتمعات والدول، فالذاتية المتخلفة في إستئصاليتها المعادية لكل آخر، حتى الآخر المتماثل دينياً أو طائفياً أو مذهبياً أو إثنياً لا يمكن أن تتقدم خطوة واحدة في إتجاه رؤية الاختلالات الناتجة من ممارستها وسلوكها.

ولذلك فإن ثقافة الاكراه والغلبة ما عادت لصيقة بالسلطة، أو بعصبيتها المؤسسة لكيان الدولة، فقد إنسحبت إلى كيان أو كيانات المجتمع السياسي الأضيق كالحزب والقبيلة أو العشيرة والطائفة والمذهب واخيراً العائلة التي تمحورت حول السلطة، مشكلة لها غلالتها الايديولوجية وشرائحها الاجتماعية القاعدية ومشروعيتها – غير المستقرة في ما تشهده من تهالك وإنحلال دائمين – دون شرعيتها.

ولهذا تؤكد مسارات الحضارة الانسانية، أن الثقافة وإبداعاتها ومنجزاتها التراكمية، ما كان لها أن تؤسس المنابع الدائمة للفكر الانساني، إلاّ في أنساق من المغايرة والاختلاف، وحضور غنى التعدد والتنوع في إطار المجتمعات البشرية، إنطلاقاً من إبداعية الفرد وسلوكه غير المتماثل او الممتثل لإخضاعية السلطة / السلطات المهيمنة. فإن كان الأصل في سلوك الفرد هو الابداع والبحث عن الجديد المغاير والمختلف في مسيرته الحياتية، فإن أسباب تعطيل هذا السلوك وإعاقته لا تكمن فقط في طبيعته، او تستمد من طبيعته كذات مبدعة، إنما تكمن في شروط حياته نفسها وإشتراطاتها الموضوعية وظروفها، في مغايرة مشروطة بتبدل معطيات البيئة والثقافة والمجتمع والسلطة والقيم والاخلاقيات السائدة، الفرد هو المساهم الاول فيها. على أن تعويق قدرة المجتمع للخروج من أنساق الماضي، والتخلص من أسارات التخلف والعجز عن الفعل وتعطيل قدراته وفاعليته، إنما هي الانعكاس المباشر لطمس روحية الابداع لدى الفرد، ما بلور وجود ثقافات العطالة التي نشأت على حواف الثقافة الاصل، وأغرقت مجتمعاتنا في عطالة مضاعفة، أعاقت بدورها إمكانية تجاوز الازمات او المحن التي تحيط كامل شروط حياتنا المعاصرة.

وكما للثقافة مستلزماتها المعرفية، كذلك فإن للسياسة ما هو أكثر من هذه المستلزمات لجهة تفرعاتها الدولتية، وإختصاصها وإشتغالها في حقول إن لم تتلازم والطبيعة التراكمية والتواصل المعرفي في إطاراتها المفترضة – والاجتماعية والمجتمعية أولها – فإنها تصبح احدى الطفيليات الضارة في النسيج البشري. لهذا فإن تاريخية المعرفة / المعارف وإن كانت ملازمة للثقافة كإحدى نسائجها العضوية، فإن السياسة ومعارفها – والمعارف عموماً – ليست نبتاً شيطانياً أو فطرياً في تاريخ المجتمعات، إنما هي إنبناء إفرازي لبيئة وطنية، إما أنها تتواصل معرفياُ أو تنفصل بمعارفها الذاتوية لتغلق على ثقافتها وعلى مجتمعها فيكون الاستبداد والشمولية حيث تكون الغلبة للخوف والاكراه كمنتج من منتجات القوة.

ولئن اعتبرت العصبية محركاً للتاريخ، فإن إستمرار قيامها على حوامل القوة والغلبة والاكراه إجهاض للتاريخ، في ما تحاوله السلطة من عمليات مصادرته وتكسير قوائمه وتدمير لقواعده، وما قام ويقوم له من مآثر لا تبغي السلطة أن تمتد لغيرها، بل هي تسعى إلى إحتكاره وإيقافه عند عصبيتها هي، بإستبعادها عن كل تأثير حفاظاً لها وإحتفاظاً بها، وهنا لا تعود العصبية وسلطتها إلا موضوعة مفردة خارج شرعية القوانين العقلية وقوانين العلاقة الاجتماعية، حيث يسود الاستبداد ليطاول في إنتاجه شتى المحن محنة العقل، وما تبطنه هذه السيادة من إلغاء للدولة ومصادرة لشرعيتها كونها نتاج قوة شرعية وليست نتاجاً للعصبية إطلاقاً.

لقد حجبت ثقافة التبجيل أي إمكانية لبروز فكر نقدي وثقافة نقدية، ما غيّب معها إمكانيات تحرر المجتمع والنخب الثقافية – وحتى السلطوية – من أزمة القيم والاخلاقيات التي جانبت على الدوام حق القول وقول الحق وإشاعة الحرية في قول الحقائق، وبقيت المداراة والمماهاة والزيف والتزييف والتزلف، واحدة من أساسات إنبنت فوقها العديد من رؤى الاستلاب الثقافي في إضفائها أبعاداً غير حقيقية، على شخصيات أو أحداث تاريخية أو افكار لا تستحق كل هذا المديح التبجيلي في إتساعه وتوسع أطره الايديولوجية، الساعية إلى تزييف حياتنا في إرتهانها لسلطة الايديولوجيا وأيديولوجيا السلطة، العاملة على إنتاج سكونية إنحطاطية، ليس في نطاق الابنية القائمة، او الثقافة والفكر السائدين، وإنما في نطاق المفاهيم وتزييف مدلولاتها، وفي نطاق الحياة، كل مجالات الحياة.

من هنا كانت تنبثق وعلى الدوام أفكار السلفيات الايديولوجية – كل في زمنها – دون ان تستطيع تحريك الراكد. وما أسمي أفكار عصر النهضة في القرن التاسع عشر كانت تنويعاً من تنويعات تلك الافكار السلفية في لبوس جديد، أضفى عليها الانبهار بالغرب والافكار الغربية رونقاً جديداً لم يستطع إختراق نسيج الافكار السائدة، ولا إختراق الستارات الحديدية التي سجنت داخلها المجتمعات، وبالتالي فإن تلك الافكار عاشت على الهامش، كقشور إنحصر تمثلها وتداولها في أوساط نخب لم تستطع تحويلها إلى تيارات منظمة داخل المجتمع نفسه، ولم تستطع أن تجعل منها مشروعاً تربوياً يمكن تأهيل جيل أو أجيال على أساسه، بل كان العجز عن تطوير منهج نقدي او تجديدي جذري سواء على صعيد الفكر الديني أو على صعد الفكر عامة، الدافع الابرز لإستفادة النظم الحاكمة يومها، ما أدى بالفعل إلى تلبية إحتياجاتها وطموحها لشرعنة وجودها، وفيما لم تستطع أفكار ذاك العصر ان تؤسس لتيار سياسي – إجتماعي شعبي واسع لوضعها موضع الكفاح التحديثي، فإنها وبالمحصلة أدت إلى إعادة إنتاج الثقافة النقلية القديمة ذاتها.

إلا أن أخطر ما يمكن قوله في وقتنا الحالي أن الاستبداد السلطوي والثقافة السلطوية، وقد نجحا في تفكيك وحدة المجتمع وعلاقته بالثقافة وبالفكر وحتى بالسياسة، يعيدان اليوم إصطفافهما الجديد الناشئ من تحالفات مع الايديولوجيا الدينية، في مساومة نكوصية إرتدادية في إتجاهات أكثر إظلامية، تعادي الحداثة والعلمانية والتقدم الاجتماعي والتنمية الاقتصادية والبشرية والعلوم على إختلافها، فيما هي تعادي كل ثقافة إنسانية وفكر إنساني للمشترك الحضاري الذي أوجدته البشرية، على إمتداد قرون من الانتاج الواعي والمدرك لمستحثات التطور العقلاني تاريخياً، وثقافة وفكراً وسياسة، ومنتجات مادية من تقنيات وتكنولوجيا وعلوم وأبحاث علمية...إلخ من نتاجات العقل الإنساني.

ولهذا تستمر مجتمعاتنا اليوم بدفع أثمان باهظة لكل ما أنتجته ايديولوجيات الثقافة السلطوية والانظمة الشمولية والسلفيات الماضوية والحداثوية، على إختلاف أنساقها المعرفية والثقافية، الأكثر أدلجة في مصادمتها ومنازعتها للآخر مؤتلفاً أم مختلفاً. في حين اثبتت الثقافة المغلقة حتى وهي تناهض السلطة او مجموع السلطات القائمة، إنها معين هذه السلطة أو إحتياطيها المضمر في مواجهة المجتمعات، ومصدر آخر من مصادر قوة السلطة. وأمثال هذه الثقافة / الثقافات وعلى إختلاف مصادرها ومآلاتها، إنما هي الوجه الاخر لعملة السلطة القاهرة في إستخدام أمضى أسلحتها: سلاح التخوين السياسي والتكفير الديني في مواجهة معارضيها وكل من يمتلك رأياً مغايراً او مناهضاً لها.

إن تزييف الوعي يشكل أحد تجليات ثقافة الولاء والتعصب الاعمى للحكم التسلطي الشمولي، في وقت شكلت موضوعة إستبعاد الحقوق وإستحضار الواجبات، وغياب أو تغييب المواطنة وعقدها الاجتماعي، آفة من آفات شيوع الاستبداد السياسي، وقبلاً علة العلل الثقافية في مديحها التدجيني / التبجيلي لنشيد السلطة سياسية كانت أو دينية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - رائع يا صديقي العزيز
ابراهيم علاء الدين ( 2009 / 3 / 5 - 21:13 )
رائع ما قرأت او ما كتبت .. ويبدو ان زماننا المشترك كان صحيحا وحيويا رغم النكسات ورغم ما بدى في لحظات ان الدنيا توقفت عن السير الى الامام .
ولكن ها هي الثمرات تتدلى ناضجة رائعة شجية تنثر بذور الحياة في كل اتجاه .. لتقول لنا كم ان حلمنا بتغيير الدنيا لم يكن يوتوبيا أومراهقة شباب ..
بل كان فعلا حقيقيا يتراكم شيئا فشيئا وسنظل سويا نراكم الفعل الحقيقي .. وسنظل نحلم كما كنا دوما بتغيير العالم
شكرا يا صديقي والى المزيد من الدعوة للحلم الحقيقي

اخر الافلام

.. توقعات بتسليم واشنطن قنابل نوعية للجيش الإسرائيلي قريبا


.. غالانت: لا نسعى إلى الحرب مع حزب الله لكننا مستعدون لخوضها




.. حشود في مسيرة شعبية بصنعاء للمطالبة بدعم المقاومة الفلسطينية


.. فايز الدويري: الاحتلال فشل استخباراتيا على المستوى الاستراتي




.. ساري عرابي: رؤية سموتريتش هي نتاج مسار استيطاني طويل