الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


على أطراف المتوسط *

سهر العامري

2009 / 3 / 11
الادب والفن



لم يكن البحر المتوسط بعيدا عنهما ، فقد كانا كل صباح يلتقيان قريبا منه ، وهما يسيران بخطى مهمومة نحو الثانوية التي يدرسان فيها ، تلك الثانوية التي كانت تقف على مقربة من ذلك البحر ، والتي تبعد عن داريهما مسافة ليست بالقريبة ، ولكنهما رغم ذلك كان يواصلان تلك الخطى كل يوم من أيام العمل ، ومن دون أن يجلب انتباههما شيء مهم في تلك الصباحات المتكررة بملل أحيانا ، وبغبطة في أحيان أخرى ، ولكنهما مع ذلك كانا يرميان النظر فوق أرض بتول تمتد أمامهما طاهرة دون أن تدنسها قدم إنسان ، أرض يعلوها نبات اختلفت ألوانه ، مثلما اختلفت أصنافه ، تزف فوقه طيور القنبر التي بنت لها أعشاشا بين الشجيرات الشوكية منه ، وكان أجمل ما يشدهما لهذا الطائر الوديع صوته الذي يضيف سحرا لسحر الطبيعة وهي تنهض في الساعات الأولى عند تلك الأطراف .
لقد كان الأستاذ أحمد عبد العال المصري دائم الأسئلة عن الكون والحياة والبعث ، وربما كان يقدر أنه سيجد جوابا شافيا عند رفيقه في المهنة ، سامي العراقي ، فكثير ما كانا يذهبان بعيدا في نقاش فلسفي هادئ يكون محوره أسئلة من مثل : ما الكون ؟ ما عاقبة الحياة ؟ كيف يكون البعث ؟ وهل من المعقول أن يدخل الأستاذ أحمد عبد العال المصري ، الذي يؤم بعض المسلمين في جامع من جوامع المدينة كل يوم جمعة ، الى الجنة ، بينما لا يدخلها من صنع هذه الطائرة التي تحلق فوق رأسيهما ؟
تلك الأسئلة وغيرها كان يطرحها أحمد عبد العال المصري على رفيقه في المهنة بحرارة ، وصدق يجعلان سامي العراقي على قناعة من أن رفيق مهنته يتشوق الى سماع جواب شاف ٍكي يطمئن الى المصير التي ستؤول إليه حياة الإنسان .
- مش معقول من أنني أنا الذي أكذب أحيانا ، ولكنني أصلي خمس صلوات كل يوم ، أدخل الى الجنة ، بينما يدخل صانع هذه الطائرة التي تمرق من فوق رأسينا الى النار مع أنه قدم خدمة جليلة للناس كلها ، وذلك حين قصر المسافات بين أطراف الأرض ! ؟
- مش معقول يفضي الحال بالإنسان بعد هذا الكد والجهد ، وهذا العمل المتواصل الى اللاشيء ، ويعود عظاما نخرة سرعان ما تتحول بمرور الزمن الى تراب !؟
- قل لي هل تؤمن أنت بالبعث بعد الموت ؟
كان الأستاذ سامي العراقي لا يريد أن يجيب زميله على أسئلته إجابة مباشرة ، وبدلا من ذلك كان يحاول أن يقنعه بأن بعضا من أسئلته تلك هي أسئلة طرحها الإنسان قبله منذ ألوف السنين ، وتناولت الإجابة عنها مدارس فلسفية متعددة ، ولا زال الجدل في مواضع تلك الأسئلة مفتوح الأبواب للساعة ، ولكل مدرسة آراؤها ونظريتها في ذلك ، وعلى الإنسان نفسه أن يقرر ما يختاره من تلك الأجوبة ، ثم استعرض له بشكل موجز ما قالته بعض من تلك المدارس الفلسفية .
- إديله شكر ! قالها الأستاذ أحمد عبد العال بلهجة مصرية خالصة ، مخاطبا فيها زميله سامي ، وذلك بعد أن ترجل قبله من سيارة رجل حملهما بها الى حيث مكان عملها بعد أن شاهدهما يحثان الخطى على تلك الطريق الطويلة التي اعتادا أن يسيران عليها كل صباح.
لقد حزت كلمات الأستاذ أحمد : ( أعطِ له شكرا ) في نفسي سامي رغم أنه استغرب ذلك ضاحكا ، فالأستاذ أحمد أعتبر أن الشكر هو أجرة صاحب السيارة التي أوصلتهما الى الثانوية ، وهذا الحال لا يخلو من سخرية مضحكة وليس طرفة ، وحين رمى سامي كلمات عتاب في أذني أحمد عبد العال رد هو من فوره قائلا : وهو ماله ! هو حملنا بسيارته ، ونحن لقاء ذلك أعطيناه شكرا ! إيه اللي جرى يا أستاذ سامي!
هكذا يتحول النقاش في أحيان كثيرة بين الأستاذ سامي العراقي وأحمد المصري في الكثير من الأحيان وخلال تجوالهم سوية في أطراف المدينة مساء ، أو في أسواقها في بعض الساعات من الصباح ، وكثيرا ما كان يجلب انتباه سامي العراقي هو أن بعضا من رجال الدين المعتمين بعِمة ، والمتسربلين بجبب كانوا يبادلون زميله أحمد التحية ، ولهذا فقد دفعه فضوله ذات يوم الى توجيه سؤال لأحمد عبد العال عن هوية شيخ كهل ، نحيف البنية ، أسمر اللون ، قصير القامة ، معتم بعمامة ، ومتسربل بجبة كالحة اللون ، كان أحمد قد بادله التحية في سوق المدينة الذي تعارف أبناء المدينة على تسميته بسوق الظلام .
- أين تعرفت على هذا الشيخ ؟ هل هو أمام جامع ؟
كان هذا السؤال قد ذكر الأستاذ سامي العراقي بسؤال عن شيخ معمم ، التقاه صدفة في شارع من شوارع مدينة كربلاء ، وكان صاحب السؤال هو واحد من معلمي الأستاذ سامي في مرحلة الدراسة الإبتدائية ، وقد أحس هو وقتها أن السؤال ذاك كان محملا بشيء من السخرية والاستفزاز ، ولهذا رد قائلا :
- أهو شيخ هذا ؟
- ولكن مظهره يدل على أنه شيخ ، فهو يعتم بعمة ، ويتسربل بعباءة وجبة . قال الأستاذ سيد يحيى .
- نعم . هو شيخ في مظهره ، ولكنه ـ يا أستاذ - مدير دار الثقافة الجماهيرية في المدينة .
- ماذا يريد منك ؟
- يريد غوايتي بمال أو بمنصب كي أصبح واحدا ممن يسبحون بحمد النظام .
لم يكن سيد يحيى يصدق أن النظام استطاع أن يوظف في ماكنته حتى أولئك الذين ارتدوا الدين عباءة وجبة ، وصار بعضهم مديرا يدير دائرة هي اسم من دون مسمى ، وفات سيد يحيى أن النظام نفسه قد وصل الى امرأة تبيع خضارا في سوق المدينة ، وتحاول الإيقاع بالرجال الذين يعتبرهم أعداء له ، مثلما فاته أن انتماءه لحزب السلطة لن يحميه من بطش السلطة نفسها ، فقد قامت السلطة هذه باعتقاله بعد أن فارق الأستاذ سامي بخطوات قليلة ، وذلك لأن الأستاذ سامي العراقي كان مراقبا مراقبة شديدة من قبل عيون النظام أينما سار وأينما اتجه حتى أن أصدقاء له منذ الطفولة صاروا يخشون على أنفسهم من اللقاء به في شارع من شوارع تلك المدينة حين يسير ، أو في مقهى من مقاهيها حين يجلس . هذا رغم أن الشرطة السرية قد اعتقلته أكثر من مرة ، ورغم أنهم دخلوا معه في أكثر من ساعة جدل لم تفض ِ الى النتيجة التي يريدونها هم ، والمتمثلة بنزع الفكر الذي يؤمن به من عقله ، ومن أجل هذه النتيجة استخدموا معه وسائل مختلفة ترغيبا مرة ، وترهيبا أخرى ، ففي أحدى الليالي الحالكة الظلام من شهر شباط اقتحم الدار عليه بعد منتصف الليل ثلاثة من رجال الأمن قائلين له : جئنا لنستقي الشاي عندك !
- سقاية الشاي بعد منتصف الليلة ؟ رد الأستاذ سامي العراقي بتهكم .
دخل الثلاثة الى غرفة الضيوف ثم قدمت لهم أقداحا من الشاي وبعد أن تناولوها بدأت واحدة من معارك الجدل التي اعتاد الأستاذ سامي العراقي الدخول بها معهم من قبل مع علمه أنه لن يستطيع أن يؤثر على المهمة التي جاءوا من أجلها ، والتي تسلحوا لها هذه المرة بأسلحة فتاكة تمثلت باختلاق تهم أملوا أنفسهم أنها ستؤدي الى ثني الأستاذ سامي العراقي عما يؤمن به ويعتقد .
- أنت - يا أستاذ - سامي تقف من الوحدة العربية موقف المعارض لها ! قال رجل منهم كان فارع الطول، ضخم الجثة ، عظيم البطن ، ممتلئ الوجه عابسه ، فض القول قبيحه .
تبسم الأستاذ سامي العراقي إبتسامة تنم عن سخرية خفية ، ورد بلباقة على سائله وبسؤال لم يخطر على بال هذا السائل وعلى بال من يرافقه .
- هل تحمل في جيبك مشروعا للوحدة العربية ؟
- لماذا ؟ رد رجل الشرطة السرية بخشونة .
قلت إذا كان لديك مشروع للوحدة العربية فأنا على أتم الاستعداد أن أبصم عليه بأصابعي العشرة هذه ، حتى أثبت لك أنني متعلق بالوحدة العربية المادية ، ولكن ليس بوحدة ملوك ورؤساء الدول العربية الذين يتشدقون بها من على كراسي حكمهم ، وعلى هذا أطلب منك أن تزيل هذه التهمة عني .
- يا أستاذ سامي ! قل لي ماذا تعني بالوحدة المادية ؟ قال واحد من زميلي رجل الشرطة السرية .
- أنا أعني بالوحدة المادية ، هي تلك المشاريع التي تربط العالم العربي بعضه ببعض مثل : السكك الحديدية ، طرق السيارات المعبدة ، المشاريع الصناعية والزراعية المشتركة ، مناهج التعليم المتقاربة ، التبادل الثقافي والمعرفي ، فبهذا كله نستطيع أن نشد لحمة أجزاء الوطن العربي ، وحين يزعل رئيس دولة على رئيس دولة أخرى فإنه لن يستطيع والحالة تلك أن يرفع السكة الحديدية أو يغلق مشروعا يدر عليه وعلى دولته منافع للناس الذين يتحكم بهم .
على هذه الطريقة استطاع الأستاذ سامي العراقي أن يبيد التهمة المختلقة التي وجهت له من قبل ذلك الرجل الضخم الذي نهض منفعلا قائلا :
- نحن لدينا أساليب أخرى ستجعلك تذعن لكل ما نطلبه منك ! قال ذلك ثم خرج من باب الغرفة باتجاه الباب يتبعه زميلاه ، ومن دون أن يلقوا كلمة وداع على مضيفهم مثلما زعموا !
ورغم مرور سنوات ليس بالقليلة فقد ظلت صورة رجل الدين الدارمي العراقي ، الذي تحول الى رجل في أجهزة الأمن السرية للنظام ، قبالة ناظريه وهو يحدق بوجه رجل الدين محمود الصعيدي المصري رغم الفارق بين الصورتين ، فبينما كان الدارمي ظاهر الثراء ، نظيف العمامة والجبة ، كان محمود الصعيدي رث الثياب ، معتم بعمامة أكلت منها الأيام ما أكلت ، ولهذا أصر الأستاذ سامي العراقي على زميله أحمد عبد العال المصري معرفة المهن التي يمتهنها هذا الرجل .
- لا يدل مظهر هذا الشيخ على أنه إمام جامع !؟
- وأنت مالك وماله ! قالها أحمد المصري بلهجته .
- هل هو متسول ؟
- أبدا .
- هل هو مخبر سري كالشيخ الدارمي ؟
- من يكون هذا ؟ قالها أحمد المصري باستغراب ، فهو لا يعرف الشيخ الدارمي ، ولم يسمع باسمه من قبل ، ولكنه ليس على علم بأن رجال دين كثيرون صاروا موظفين في أجهزة مخابرات دول كثيرة كذلك ، وكلف بعضهم بمهمات غاية في الخطورة ، ولم يبق من الدين عندهم غير العمة والجبة.
- سأحدثك بحديث الشيخ الدارمي بعد أن تحدثني أنت بحديث الشيخ محمود الصعيدي !
- طيب . قالها على مضض .
- الصعيدي هذا يدعي أنه على المذهب المالكي .
- على شاكلة ابن بطوطة !
- وهل كان ابن بطوطة مالكيا ؟
- نعم . كان مالكيا ، وقد شغل مناصب متقدمة في القضاء ، وبأكثر من دولة ، ولكن شاغله الأول ظل النساء والجنس !
- كلهم كده ! قالها أستاذ أحمد المصري متبسما.
- لكن ابن بطوطة فاقهم في هذا المضمار ، فقد قلب من أجساد النساء ما قلب ، وذاق منهن ما ذاق على اختلاف شعوبهن وأممهن ، وما كان ليعجز عن الاثنتين والأربع في اليوم الواحد ، وقد ظل على عادته هذه سنينا طويلة كان لا يتخلف عن ممارسة الجنس فيها كل يوم مع نساء أربع تزوج بهن ، وذلك حين يفرغ من مجالس القضاء التي كان يعقدها في دار القضاء عند سلطان جزائر ذيبة المهل ، وهو نفسه الذي أهدته إحدى ملكات الترك زوجتين تسبحان في بحر من جمال فياض ، هذا في وقت كان هو فيه يلهو بستين جارية حسناء على قاعدة : وما ملكت أيمانكم !
- ما هذا ؟ تساءل الأستاذ أحمد المصري مستغربا من حديث زميله العراقي الذي اعتاد أن يمده بالكتاب والكتابين على سبيل الاستعارة ، ولكنه شذ مرة ، وتمسك بكتاب تمسكا شديدا ، وطلب من الأستاذ سامي العراقي أن يملكه لأنه يريد حمله معه الى القاهرة ، وكان له ما أراد ، فقد كان للكتاب أهمية كبيرة عنده ، فقد تحدث فيه مصطفى المراغي ، وزير داخلية الملك فاروق ، عن الساعات التي سبقت ثورة عام 1952م في مصر.
- أيهما أفضل لديك حديث ابن بطوطة أم حديث المراغي ؟
- زي بعضه !
- لم تقل لي رأيك الحق !؟
- بودي لو رحلت أنا مثلما رحل ابن بطوطة !
- الآن أجبت أنت بصدق .
- ولكنك لم تقل لي لماذا رحل الشيخ محمود الصعيدي ؟
- ثاني ! قالها أحمد المصري بلهجته وبمرارة .
- وما الضير في أن تخبرني عن عمل المعمم هذا ، فأنا مطلع على أمر الكثير منهم .
- أنت تعرف أن بعض المذاهب الإسلامية توجب وقوع الطلاق اللفظي ، ومن دون مراعاة الموقف الذي يدفع الزوج في أن يقول لزوجته أنت طالق بالثلاث ! ولكن الرجل هذا بعد أن يهدأ يندم على ما قاله بصدق ، ويرغب بالعودة الى زوجته ثانية ، ولكن الشرع ، والحال هذه ، يقف حائلا دون ذلك ، إذ لا بد للزوجة أن تتزوج برجل غيره يطلقها فيما بعد لتحل عليه ، وكان الشيخ محمود الصعيدي هو من ينتدب لهذه المهمة في هذه المدينة ، فهو بعد أن يعقد على هذه المرأة كزوجة له يعود في صباح اليوم التالي ليطلقها كي يعقد عليها زوجها الأول.
- وأنت ماذا تقول في هذا ؟
صمت أستاذ أحمد المصري على عادته ، وأراد أن يحتفظ بالجواب لنفسه ، فهو واحد من الذين يؤمون الناس بالصلاة كل جمعة لقاء عشرة دنانير عن إمامة كل صلاة ، وهي تلك العشرة التي ما سكت عنها الأستاذ سامي العراقي ذات مساء حين ألقى سؤالا عليه :
- هل كان بلال الحبشي أو غيره من المسلمين الأوائل يأخذون أجرا على أن يصدح أحدهم بأذان أو يؤم قوما بصلاة ؟
ورغم أن أحمد عبد العال المصري كان على نزع معرفي متقدم لكنه إمتنع عن الإجابة ، فهو يعلم أن الحق والحقيقة مع الأستاذ سامي العراقي.
= = = = = = = = = = = =
* قصة قصيرة








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفنانة غادة عبد الرازق العيدية وكحك العيد وحشونى وبحن لذكري


.. خلال مشهد من -نيللى وشريهان-.. ظهور خاص للفنانة هند صبرى واب




.. حزن على مواقع التواصل بعد رحيل الأمير الشاعر بدر بن عبدالمحس


.. بحضور شيوخ الأزهر والفنانين.. احتفال الكنيسة الإنجيليّة بعيد




.. مهندس الكلمة.. محطات في حياة الأمير الشاعر الراحل بدر بن عبد