الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


في عدم جواز رد الانتحار و/ أو الشهادة إلي صراع الحضارات

حازم صاغيّة

2002 / 6 / 10
اخر الاخبار, المقالات والبيانات


(العنوان: في عدم جواز رد الانتحار و/ أو الشهادة إلي صراع الحضارات )
(الكاتب: حازم صاغية )
(ت.م: 09 -06-2002 )
(ت.هـ: 28-03-1423 )
(جهة المصدر: )
(العدد: 14325 )
(الصفحة: 17 - تيارات )

في* 1972 قام ثلاثة من أفراد الجيش الأحمر الياباني بعملية انتحارية شهيرة كان ضحاياها أولئك المتجمّعين في احدي قاعات الانتظار في مطار تل ابيب، فقتلوا عشرين شخصاً وجرحوا ثمانين. وبعد أيام قليلة علي 11 ايلول (سبتمبر) قتل مواطن سويسري أعضاء في البرلمان الاقليمي لمنطقة زوغ ثم قتل نفسه.
سيق هذان المثلان للرد علي التفسيرات الضيقة لظاهرات العنف والموت والشهادة والانتحار التي أرادت ان تراها من ثقب صراع الحضارات ، علماً ان فترات قصيرة جداً هي التي تفصلنا عن يوني بومبر الأميركي و فرقة أوم اليابانية وتيموثي ماكفاي، ممن دفعهم هوسهم، تباعاً، ضد التقنية، واستعجالاً للألفية، وكرهاً للحكومة الفيديرالية، الي تقريب المسافة التي تفصل الحياة عن الموت.
فمنذ 11/9/2001 راح كثيرون من المحللين والمعلقين يتساءلون عن سر الاستعداد للموت لدي المسلمين. وما لبث السؤال ان وجد مصداقه في العمليات الانتحارية الفلسطينية. وهناك من حاول البحث عن الجواب في الحضارة طبعاً، ومن حاول البحث عنه في الدين. وما من شك في ان كثيرين قالوا في سرّهم ان ثمة جنساً مسلماً يهوي الموت ويحن للقاء حوريات السماء.
لكن السؤال الذي لم يُطرح الا قليلاً: أي كره للأرض، أي سوء تفاهم معها، هو الذي يخلق ذاك الحب للسماء؟
والحال ان الأرض حين يسكنها ظلم بلغ حداً لا طاقة علي احتماله، أو حين تثقل بأوضاع يصعب الرضا عنها أو التكيّف معها، تفعل ما تفعله المطالبات المعتقدية للناس بأن يذوبوا في مُطلقاتٍ تقع خارج ذواتهم، ويلبّون النداء. مثل هذه الأرض لا سيما إذا عُززت بمثل تلك القناعات، قد تدفع الي طلب السماء حتي لو خلت من الحوريات.
والأديان كلها، لا الاسلام وحده، أعلت راية هذه الشهادة التي أقدم عليها مؤمنون اجتمع فيهم الاستياء مما يجري مع الانكار الكامل لفرديتهم (وبالطبع لم يكن للفردية بمعناها الحديث ان تظهر اصلاً في تلك الأزمنة).
فالمسيحية هي التي طورّت اللاهوت الأبرز في الشهادة. وثمة أساطير لا تُحصي تنقل لنا أخبار المواجهات بين ممثلي الامبراطورية الرومانية وبين مؤمنين شجعان كانوا يتحملون ضاحكين آلام تعذيبهم. وخلال القرون الوسطي غدت طقوس التائبين في أوروبا الجنوبية والغربية ظاهرة واسعة الانتشار، وبقي الجَـلْد الي وقت قصير واحدة من الممارسات المعروفة للورع الكاثوليكي، كما درج فيليبيون، وما زالوا، علي استعادات حيّة لصلب المسيح.
والحال ان كلمة شهيد (Martyr)، وأصلها في التعبير اليوناني martys الذي يعني الشاهد علي أمر أو حدث، دلّت أساساً علي تلامذة المسيح بوصفهم شهوداً عليه وعلي حياته. ثم باتت تعني أولئك الذين قتلهم الاضطهاد الروماني علي ما كانت حال القديسين بطرس وبولس.
وقبل المسيحية، شمل الشهداء الأوائل لليهودية بعض كبار رموز العهد القديم، كإسحق واليهود الذين قضوا علي أيدي الرومان. ويذكر المدارش عشرة شهداء هم عكيفا بن يوسف والحاخامات الآخرين الذين عُذبوا في ظل هادريان، عقاباً علي تأسيسهم مدارس تعلّم القانون. وبدورهم ذهب البوذيون الي ان غاوتاما بوذا كان في حيواته السابقة شهيداً. ويقدّس بوذيو ماهايانا، مثلاً، ما يسمّونه البوديساتفا ، اي القديسين، بوصفهم الشهداء المتّقدي الحماسة والعاطفة. فهؤلاء، وعلي مدي حيوات عدة، لم يكتفوا بأن ضحّوا بالحياة نفسها طلباً للحقيقة، بل ايضاً أجّـلوا بلوغهم النعيم كي يساعدوا الناس المعذبين.
اما الربط الحصري بين الاسلام وبين الشهادة والانتحار (والأخير يحرّمه الاسلام)، فيقع أسير تبسيط لا حدود له. ذاك ان انتحاريي القاعدة وفلـــسطين مسـلمون سـنــة، فيما التضحية بالنفس طلباً لهدف بعينه ارتبطت تقليدياً بالاسلام الشيعي، علي ما لاحظ نافيد كرماني. ولم يتردد بعض غلاة السنّة في طالبان والقــــاعدة في تكفير الشيعة، حتي انهم انزلوا، في 1999، مجزرة شهيرة بإثنية الهزارا الشيعية في افغانستان.
لكن التفسير الحصري بالأديان والمذاهب لا يقف عند هذا التبسيط. فالشيعة، هي الأخري، ليست كلاً واحداً، لا في هذا الموضوع ولا في غيره. وقد سبق لإسحق النقاش أن أخبرنا كيف ان رواية الشيعة العراقيين عن كربلاء تختلف نوعياً عن رواية الشيعة الايرانيين. ففيما يري الأخيرون أن طلب الشهادة رافق التوجه الي المعركة، يذهب الأوّلون الي أنه نجم عن القتال نفسه. وعلي صعيد آخر، إذا صح ان الحشّاشين الذين قاتلوا الصليبيين بضراوة ارهابية في القرن الحادي عشر، هم أوثق فرق التاريخ الشيعي صلةً بأعمال الشهادة والانتحار والاغتيال، الا ان أثرهم علي الشيعة وتجاربهم وثقافتهم يكاد لا يُذكر. اما الخوارج في القرن السابع، ممن وقفوا ضد جميع القوي المسلمة المتنازعة حينذاك واغتالوا علي بن أبي طالب، فتندرج تجربتهم العنفية في أي تراث فوضوي اكثر بكثير من إمكان تنسيبها الي أي تقليد اسلامي.
وفي أزمتنا هذه لم تلجأ الثورة الشيعية الايرانية عام 1979 الي الانتحار، ولو أنها هددت مراراً بالأكفان في نوع من الفولكلورية الطقسية والثورية العدمية. صحيح انها اعتمدت، إبان الحرب مع العراق في الثمانينات، حقول الألغام التي تخترقها الموجات البشرية ومعظمها من الاطفال، الا ان هذه النزعة الجريمية كانت من صناعة الاستخدام السلطوي للايديولوجيا، وهي وظيفة حديثة بما لا يرقي اليه الشك (لنتذكر تجنيد هتلر للاطفال في سنته الأخيرة، أو استخدام الثورة الأريترية للصغار). ولئن انخرط ناشطون راديكاليون شيعة من حزب الله في عمليات انتحارية ضد الاسرائيليين في جنوب لبنان، ففي مثل هذه العمليات انخرط علمانيون كالقوميين السوريين و ملاحدة كالشيوعيين.
وعلي العموم تزخر الثقافات الدينية والزمنية بهذا الربط بين الموت من جهة، ومن جهة اخري الاعتراض علي الحياة و/أو الامحاء الفردي في ذاتٍ اكبر، شبه واقعية شبه وهمية. فهذا ما رأيناه عند بعض تاميليي سريلانكا، أو خـــصوصـاً في تـجربة الكـامـيـكاز (= الريح المقدسة) اليابانيين - ذاك التنظيم الانتحاري التابع للبحرية اليابانية خلال الحرب العالمية الثانية، والذي كان أول متطلبات العضوية فيه الاستعداد للموت فديً للامبراطور.
والعلاقة بين الاعتراض علي الحياة وبين ضعف الفردية لا تخطئ. فالرد علي الحياة السيئة والكريهة في ظل فردية قوية لن يتخذ ابداً شكل الانتحار أو النحر. وبالمعني نفسه فإن فرديةً ضعيفة قد تعجز عن الافادة من حياة لا غبار عليها. فهي إما ان تخرّبها بعمل شللي تآمري، أو بنشاط نضالي جماعي مسكون بديماغوجية قد يستفيد منها الزعماء وراكبو الموجات، أو ان تنعزل عنها وتقبع علي هامشها مع احتمال ظهور حالات فردية ابداعية تجد ملاذها في الشعر أو الموسيقي والفن.
وهذه العوارض كثيراً ما تنمو في ظل مآزق الحداثة وانسداداتها: إما لأسباب سياسية كالعجز عن نيل الاستقلال وانشاء الدولة - الأمة، كما في حالة فلسطين اليوم والجزائر بالأمس، و/أو لأسباب مجتمعية وثقافية عدة تتصل بمراحل الانتقال. وفي الأحوال جميعاً، تترجم هذه العلاقة نفسها بقدر ملحوظ من العنف ضد الذات أو ضد الآخر. وقد بات معروفاً أن نقص الفردية معطوفاً علي آثار التحديث والتمديُن يمكن ان ينتج فرداً متذرراً، أي صاحب فردية مشوّهة من دون مدي اجتماعي. والتذرر Anomie، كما برهن إميل دوركهايم، هو المتسبب الأول في نسب الانتحار المتصاعدة. والحال أن ربط الانتحار بالتمديُن والعزلة غدا من مسلمات الانتاج السوسيولوجي ما بعد الدوركهيمي، ولو ان الكثير من النتائج التي توصل اليها عالم الاجتماع الفرنسي قد طواه النسيان.
ومثلما يشكل التذرر ضداً لفردية الفرد، فإن شيخوخة السكان إعلان عن عطالة هذه الفردية ودخولها طوراً يصعب فيه التصالح مع مجريات الحياة. وفي هذه الحدود نري الانتحار ينبعث مجدداً في المجتمعات الغنية ما بعد الصناعية، كما لو أنه مسؤولية اجتماعية أو واجب يؤديهما أولئك الذين ما عادوا يُحتسبون أفراداً ناشطين.
لكن الأهم طبعاً يبقي الخوف من مرآة المجتمع في طور الانتقال المديد الي الفردية. فقد لوحظ، مثلاً، ان معظم الانتحارات في اليابان الحديثة ناجم عن شعور الفرد بـ العار لفشله في الارتقاء الي السويّة التي تتطلبها منه الجماعة.
وكان الانتحار الطقسي الشهير الذي اقدم عليه الأديب الياباني، والقومي، ميشيما يوكيو في 1970 إشهاراً لدرامية التوتر الذي يشوب الانتقال الي حداثة مؤسسة علي الفردية. فصاحب اعترافات قناع الذي آثر أن يموت بالسيف ميتة استعراضية يتخللها أداء التحية العسكرية للامبراطور، ترك لنا بعمله هذا عالماً دلالياً غنياً برموزه ومعانيه.
وسنةً بعد أخري راح يبرز في العالم أفراد غاضبون ومستاؤون لهذا السبب او ذاك، لكنهم ايضاً مكبوتو الفردية وفّرت لهم ثورة الإعلام فُرصاً باهرة كي يجعلوا العالم كله يتفرّج علي موتهم، او علي إماتتهم غيرهم. وفي هذه التجارب المتكاثرة راحت تتحقق الفردية وينـتصر الحق في الموت بعدما استحال ذلك في الحياة.
واذا كان الفارق كبيراً، علي صعيد محاكمتنا الأخلاقية، بين الشهادة كمجرد قتل مازوشي للنفس، وبين العنف والارهاب الموجهين ساديّاً وبقدر من الصناعة التنظيمية الي الآخرين، فإنه يبقي فارقاً كمياً في ما خص الحوافز الأصلية. وهذه الحوافز، لدي قياسها علي العالم العربي الذي تُسلّط عليه الأضواء اليوم، هي انسحاق الفردية تحت وطأة ما لا يُحصي من عوامل.
فالاحتلال والامتهان اللذان تُنزلهما اسرائيل بفلسطين يتكاملان مع ما تعرفه بلدان مجاورة لهما من شيوع أنظمة سياسية لا تعترف بالحريات الفردية، وأنظمة اقتصادية تعمّم الفقر الكابح لنشأة طبقة وسطي، من دون ان ننسي إخفاقات التحديث التي تدلّ عليها أزمات الشبيبة والديموغرافيا علي أنواعها. وفي عالم راكد كهذا ومسدود الآفاق، يتثاءب التقدم فيما تنتعش الايديولوجيات الجماعية الداعية الي ذوبان الواحد في كلٍ أكبر، كالأمة والدين والطبقة الاجتماعية، فضلاً عن الروابط الأهلية والدموية الموروثة، وهي نفسها كثيراً ما تجدد نفسها في واحدة أو أخري من تلك الايديولوجيات الجماعية. وتتساند هذه العناصر كلها لا لتعيق تقدم الحداثة فقط، بل لتجعل العربي يري حياته مادةً هزيلةً لا تستحق الحرص عليها. ومَن يري حياته هكذا لن يري في حيوات غيره ما هو أثمن.
وفي الحالات جميعاً، يصير الموت قابلاً للإقامة علي قاب قوسين أو أدني.

ہ يُنشر هذا النص مع مجلة ISIM الصادرة عن جامعة لايدن بهولندا.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. لحظة إسقاط مسيرة إسرائيلية بعد استهدافها في أجواء جنوبي لبنا


.. كيف ستتعامل أمريكا مع إسرائيل حال رفضها مقترح وقف إطلاق النا




.. الشرطة تجر داعمات فلسطين من شعرهن وملابسهن باحتجاجات في ا?مر


.. مظاهرة في العاصمة الفرنسية باريس تطالب بوقف فوري لإطلاق النا




.. مظاهرات في أكثر من 20 مدينة بريطانية تطالب بوقف الحرب الإسرا