الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بالتوس .. مئة عام وعام بين الاغتراب والزمن

يوسف ليمود

2009 / 3 / 16
الادب والفن


في شباط الماضي، احتفل العالم بمئة عام على ميلاد الرسام الفرنسي من أصل بولوني بالتازار كلوسوفسكي دو رولا الشهير ببالتوس، المولود والراحل في الشهر نفسه، فبراير - شباط، من 1908 إلى 2001.
"اكتبوا: بالتوس فنان لا نعرف عنه شيئا، ولكن لنتأمل الآن لوحاته". هذا ما قاله الفنان لمدير جاليري "تايت" حين سأله الأخير عن كلمة عن حياته لكتالوج المعرض. اليوم، وبمرور العام الأول بعد قرن من ولادته، هل يعرف أحد عنه شيئا؟ طبعا نعرف الكثير من المعلومات ولكن هذه المعلومات لن تخبرنا أبدا من كان الرجل! لا شك كان حكيما في نصيحته لمدير الجاليري، فالفن هو ما يعنينا منه وليس الشخص. فقط في الفن نلمس الشخص الذي حجب نفسه عن المنظر المرسوم ولم يفرضها، فظهرت وفرضت حضورها رغما عنه، وإن ظلت غامضة!
بعيدا من لوحاته التي أثارت كثيرا من جدال المتشدقين بالأخلاق، لتصويره مراهقات عاريات لا تزال نهودهن في طور البزوغ الملائكي والخجل، كرمز لطاقة التفتح والغموض في الحياة، نتناول هنا بالتحليل واحدة من لوحاته التي تجعلنا نتعرف إلى حساباته الفنية، التي هي في الأخير، نظرة الفنان الوجودية للحياة وعناصرها:

انظر الصورة على الرابط التالي:
http://www.artchive.com/artchive/b/balthus/balthus_saint-andre.jpg

ما بين الاغتراب والزمن

وكأن لوحا زجاجيا كاتما للصوت بيننا وبين اللوحة الصامتة في أعماقها لأن هرماً غير مرئي قد ضرب خيامه الزجاجية علي الشخوص المرسومة وعزل أحدهم عن الآخر ليؤكد الوحدة المطلقة لعوالمهم التي تشبه وحدة ذلك الكلب الصغير الواقف في مكان من العمل لا يعلم هو نفسه أنه حيوي.
ليس هناك صخب من أي نوع كان، والمنظر هو من ذلك المألوف الذي يتكرر بابتذال سرمدي وقت قيلولة أيّ حارة جانبية في أيّ مدينة في أيّ بلد وفي أي زمان، وهو حتما لا يحيل على أيّ دلالة سياسية أو اجتماعية كانت. هناك فقط إمساك رؤيوي للحظةٍ ولحقيقة وجوديتين وسحبٌ قاهر للمشاهد للغرق فيهما، وهما يمثلان في الأخير، لحظته هو وحقيقته هو، بعد فض الاشتباك مع زيف الواقع المخادع والوقوف العاري أمام ريشة الزمن القاطعة . كما لم يسمح المصور لشعاع شمس أو ظل ما بالتسلل كي يضفي إبهارا أكثر أو سحرا على لوحته. لا، سيكون هذا صخبا بصريا يُعمي عن المعنى وينال من زهدية العمل وبلاغته، فالنور هادئ وكأنه ينبعث من الأشكال نفسها وليس من السماء.
فتاتان في سن متقاربة، وطفلتان كذلك، وعجوزان أيضا، وامرأة ورجل. أي ثمانية وتاسعهم كلب، من صاحبه يا ترى؟ لدينا إذن كل الأعمار من الطفولة تدرّجا إلي الشيخوخة وحتى الضياع النهائي الذي يترنم به مخبول انقرض في تجواله الحافي في ملكوت النسيان الذي وسِع كل شيء.
تقف البنت التي يرتكز المنظر كله علي سيقانها غارقة في دوائر افكارها البريئة، بينما يتعامد علي كيانها الجسدي مستطيل المدخل المعتم والذي يحتاج فقط لخيانة اللحظة كي يدهمها بالسقوط المفاجئ أو بالهبوط التدريجي غير المحسوس في الزمن كالساعة الرملية ليبتلعها مع فكرتها التي ما كان لأحد القدرة على اختراق غموضها.
مستطيل آخر بالحلكة نفسها في أقصى اليسار لا يبدو أقل تهديدا لابتلاع الأم (؟) وهي هابطة سلم المدخل كتمثال روماني أدى دوره في ساحة العرض الهزلية وينطوي الآن على كينونة باهتة بلا رابط يبدو بينها وبين الدمى التي ولدتها سوي تلك المسافة الواهية في المكان مع انغلاق كلٍ علي زمنه الذاتي في لعبة التكرار التي يتقنها الزمن ولا يعرف سرها غيره. فوجه الطفل (؟) المطل من النافذة هو نسخة مكرورة في الملمح والمنظور الهندسي من وجه تلك المرأة التي هي بدورها تكرار لأطياف هللينية عبرت خطفا ذلك السفح بأحلامها وعذاباتها التي نسيتها الأرض تماما.
أما الرجل الذي أدار لنا ظهره والذي لن نرى وجهه أبدا (أهو عامل ؟)، بالأحرى هو الرسام نفسه، يمضي بتحدٍّ داخل هرمه الزجاجي المتصاعد من زاويتي الصورة السفليتين ساحبا العين المتأملة نحو المجهول، إذ لا نستطيع أن نحدس أي وجهة يولي نحوها خطوته التالية: هل سيختفي في مدخل البناية المعتم أمامه أم سينحرف فجأة إلى اليمين؟ إن مربعا كبيرا مغلقا على ذاته يواجه طريقه وهو لا يحمل من أتربة الأرض إلا إصبع خبز، أهو الخبز الأخير، حصيلة الرحلة ؟
كل خطوط اللوحة من أسفل ومن أعلى تتجمع عند جمجمة الرجل الماضي بعناد سارقا انتباهنا حتى عن وقفة البنت التي ما يزال جسدها يتبرعم رغم تصدرها الصورة بجمال ساقيها وغموض براءتها. والعين تمر متنقلة علي الشخوص لتعود إلى ذلك الغريب المتوحد الذي يبدو وكأنه يصارع الزمن الكبير بزمنه البشري الضائع، ويظل الهرم الخفي الذي يتحرك فيه هو الأكبر في الحجم والأهمية قياسا بكل الأهرامات التي تقبع فيها باقي الشخوص، فهو دوّارة الريح فوق ذلك البرج التصويري المهيب.

يقسِم الخط الأفقي اللامرئي فوق رأس الرجل السائر اللوحةَ إلى نصفين متساويين تقريبا، وحياة اللوحة كلها تدور في النصف الأرضي منها ولا نكاد نلمس أثرا لحياة في النصف الأعلى إلا ملاءة متدلية من نافذة أعلى اليمين، ولا نرى حتى فرجة من السماء، وكأن الوجود لا يرتعش إلا علي هذه الأرض وداخل ذلك الدماغ الآدمي المقذوف به في متاهة التراب. لولا تلك اللمسة الرهيفة للملاءة في أعلي الصورة لسقط ميزان اللوحة كله ناحية كفته اليمنى بسبب الثقل المبذول في كيان البنت الواقفة. إنها حتمية الكمال الفني التي تفرض قوانينها فالتة من أسر عالم الأفكار حتى ولو كانت أفكار الفنان نفسه، فالعمل باكتماله وامتلائه يصبح طموحا ومثلا لبلوغ الاكتمال والامتلاء في الواقع الشريد.

هل الرياضة جوهر الزمن، وهل هي جوهر الفن؟ الشيء الأكيد أن الرياضة المبذولة في حسابات العمل الفني تستطيع، لا أن تتحكم في زمن اللوحة فقط، بل في الزمن المعيشي للفنان نفسه، أن تُشظّي اللحظة بدلا من أن يتشظي الفنان فيها ويتفتت، ورياضة العمل هي الوحيدة القادرة علي استنقاذ العناصر والأشياء من عدميتها وإعطائها المعني. هناك خط أو خيط وهمي، مستقيم، من رأس مجنون الحي إلى رأس الطفلة التي تلهو بدميتها مارا بظهر الكلب، وخط يتوازى مع ذاك من قدمه الحافية إلى قدم نفس الطفلة، لامسا في مروره حافة (الجيبة) السفلى للفتاة الواقفة، وخط من أعلى رأس فتاتنا هذه يلتقي بأعلى رأس المراهقة الأخرى على اليسار، وخط من اليد التي تمسك بإصبع الخبز إلى يد المرأة العجوز القابضة بوهن علي عصاها (هل نسمي الموت خبزا أم نسمي الخبز عصا التوكؤ؟).
المجنون في مثلث والطفلة مع الدمية في مثلث والوجه الصغير في النافذة في مثلث والأم الهلليينية في مثلث وللمرأة العجوز مستطيل من فراغ.
ليس للوحة أن تحكي حدوته، لكن التعامل اللغوي مع عالم الشكل يولد أسطورة من نوع آخر، وما نستطيع قراءته علي قماشة الوهم هذه من اغتراب وسكونية هو في الواقع ما يتموج في أعماقنا نحن، وليس العمل في النهاية إلا مجرد وسيط يتمتع باستقلالية وجوده.
بالتوس المغترب في باريس والميت في سويسرا، حقق زمنه الداخلي المختلف دون أن يهز فيه لهاث العصر وترا، ففي الوقت الذي كان يمارس فيه صداقته مع عتاة الفن الحديث الذين أخذوا أماكنهم البارقة علي سلم الشهرة بحق أو بدون، كان يتهادى بمناعة كيانه الفني، وبتحدي صاحب الخبز في صورته، سابحا ببطء شديد ضد تيار السرعة والبهلوانية التي اتسمت بها معظم انجازات القرن المجنون الحافي القدمين المنصرم. فبعض الصور احتاجت من عمله وتأمله فيها ثلاث سنوات وأكثر (بالتزامن مع انجازات أخري دون شك).
كان بالتوس صامتا ومدخنا كبيرا، اكتشف موهبته الشاعر ريلكه الذي كان صديقا لأمه المطلقة وقدّمه للمجتمع المثقف وهو بعد فتى. عاش معظم حياته في باريس صديقا لجاكوميتي واندريه جيد وكثير من الآخرين المعروفين ومبجّلا سلفه سيزان. قضى أخريات حياته في سويسرا في قصر خشبي قديم مع زوجته اليابانية الرسامة بدورها. قالت وهي تحكي عنه: كان يجلس ساعاتٍ طويلة أمام اللوحة يدخّن في صمت قبل أن يضع لمسة واحدة.

يوسف ليمود
النهار اللبنانية








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مت فى 10 أيام.. قصة زواج الفنان أحمد عبد الوهاب من ابنة صبحى


.. الفنانة ميار الببلاوي تنهار خلال بث مباشر بعد اتهامات داعية




.. كلمة -وقفة-.. زلة لسان جديدة لبايدن على المسرح


.. شارك فى فيلم عن الفروسية فى مصر حكايات الفارس أحمد السقا 1




.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا