الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الحلف الأطلسي الجديد: هل يشفي غليل الجوارح؟

صبحي حديدي

2004 / 4 / 4
الارهاب, الحرب والسلام


"الإرهابيون يكرهون كلّ ما يمثّله هذا الحلف" قال الرئيس الأمريكي جورج بوش في حديقة البيت الأبيض، مفتتحاً حفل تسليم وثائق عضوية الحلف الأطلسي إلى سبع دول جديدة. وأكمل، لكي لا يغترب ـ ولا نغترب نحن بدورنا ـ عن خطابه المكرور المعاد: "إنهم يحتقرون حرّيتنا. إنهم يخشون وحدتنا. إنهم يسعون إلى تقسيمنا. إنهم سيفشلون. سوف لن ننقسم. سوف لن ننحني لعنف فئة قليلة"...
ما الذي يخيف قائد القوّة الكونية الأعظم، لكي يعود مجدداً إلى هذه "البلاغة الاستباقية" و"اللغة الوقائية"؟ هل يهدد أسامة بن لادن أمن هذه الدول المنضمة حديثاً إلى "الحلف الأكبر والأكثر نجاحاً في التاريخ"، حسب وزير الخارجية الأمريكي كولن باول؟ أم أنّ بوش يستخدم الفزّاعة الكلاسيكية ذاتها، الإرهاب، لكي يقول مواربة: إياك أعني، فاسمعي أيتها الجارة الروسية؟ أم تراه يغمز من قناة أعضاء أصلاء في الحلف، مثل فرنسا وألمانيا، حين يذكّر بأنّ هذه الدول حديثة العهد بالحلف تساعد أمريكا في العراق، لا كما تفعل دول أخرى قديمة العضوية وسبق للولايات المتحدة أن شاركت في تحريرها؟
أم... لعلّ السبب لا هذا ولا ذاك! جورج بوش بات مثل اسطوانة مبرمجة تكرّر وتعيد حفنة عبارات حول محاربة الإرهاب، وكراهية الإرهاب للحرية الأمريكية، وقرب اندحار الإرهاب، وعدم خشية أمريكا من الإرهاب، الخ... الأرجح أنّ هياج، أو بالأحرى اهتياج، مشاعر الرئيس الكوني وقائد الحملات الصليبية ضدّ الإرهاب، هو السبب الأوّل والأخير والوحيد! هذه، من باب أولى، مناسبة غير عادية: الأطلسي يتوسع من 19 إلى 26 دولة، بينها ثلاث جمهوريات سوفييتية سابقة (إستونيا، لاتفيا، ليتوانيا)، وثلاث دول أعضــــاء سابقة في حلف وارسو طيّب الله ذكره (بلغاريا، رومانيا، سلوفاكيا)، وأمّا الدولة السابعة فقد كانت أصلاً جزءاً من يوغوسلافيا، وهي استطراداً بمثابة عضو سابق في الحلف الأحمر المنحلّ. ماذا يريد العــمّ سام أكثر؟
ثمة أيضاً أسباب أخرى للبهجة، ذات صلة بالتبشير الإيديولوجي، السياسي والعسكري والثقافي الذي تعتنقه هذه الإدارة، منقولاً بالحذافير عن رهط المحافظين الجدد وصقور الحرب الباردة التي وضعت أوزارها دون أن تشفي غليل الجوارح. ذلك لأنّ حلف شمال الأطلسي ليس الحلف العسكري الوحيد في عالمنا المعاصر فحسب؛ وليس التذكرة الوحيدة، تقريباً، بأنّ البشرية عاشت الحرب الباردة طيلة حقبة كاملة متكاملة، فحسب أيضاً؛ بل هو، أساساً ربما، حلف جغرافي ـ حضاري ـ ثقافي! هذا ما كانت الإنسانية قد فهمته من كلام الرئيس التشيكي فاكلاف هافيل، الذي احتضنت بلاده قمّة للحلف الأطلسي لا تشبه سواها من القمم، لأنها ببساطة كانت "قمّة التحوّل".
التحوّل العسكري؟ نعم، ولكن ليس تماماً... ليس حصراً!
قال هافيل، في نبرة تحذير لا تخفي، إنّ "على الحلف أن لا يتوسّع خارج مضمار محدّد للغاية من الحضارات التي عُرفت عموماً باسم الحضارات الأورو ـ أطلسية أو الأورو ـ أمريكية، أو الغرب ببساطة". هل كانت تركيا هي المقصودة بهذا التعريف المضماري الذي لا يفلح تماماً في تنقية كلّ الروائح العنصرية؟ أم هي الدول التي ما تزال تعيش فيها جاليات مسلمة؟ وما الدافع إلى إطلاق هذا التحذير والقمّة تناقش توسيع الحلف شرق وجنوب أوروبا، وضمّ سبع دول جديدة إلى النادي؟ أيّ من هذه الدول (نفسها التي تسلمّت وثائق عضويتها في الحلف من جورج بوش قبل أيام: إستونيا وبلغاريا وسلوفينيا وسلوفاكيا ورومانيا ولاتفيا وليتوانيا)، لا تنطبق عليها معايير المضمار الحضاري الأورو ـ أطلسي؟
البعض يقول، بحقّ، إنّ أسئلة كهذه تظلّ نافلة كائناً من كان طارحها، ما دام جوهر الحلف عسكرياً ـ سياسياً، وما دامت الولايات المتحدة هي الدولة الأهمّ في بقائه على قيد الحياة، وفي تعزيز شوكته العسكرية - التكنولوجية. صحيح أنّ الفرنسيين والألمان لا يكفّون عن مضايقة البنتاغون، واليمين في إسبانيا خسر معركة الحلف المقدّس مع واشنطن، والعراق يغلي ويتفجّر ويحترق... ولكن من الصحيح أيضاً أنّ الولايات المتحدة لم تتسوّل قرار الحرب من الحليفات الأطلسيات، ناهيك عن طلب المساعدة العسكرية. ألا يعرف جميع الحاضرين، من مدنيين وعسكريين على حدّ سواء، أنّ هزّة 11/9 منحت الولايات المتحدة أكثر من ترخيص عسكري واحد، وجنّبت واشنطن حرج التشاور مع الحليفات الأطلسيات كلما رنّ ناقوس في كنيسة؟ وإذا كان لقاء براغ قد استحقّ بالفعل تسمية قمّة التحوّل ، فليس ذلك لأسباب عسكرية أبداً، وإنما بسبب اختراق الحلف الأطلسي جميع مواقع حلف وارسو السابقة، وبلوغه ظهر وبطن وخاصرة روسيا، شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً!
من الصحيح، كذلك، أنّ التوازن داخل الحلف ليس مختلاً لصالح الولايات المتحدة فقط، بل هو يفتقر بالفعل إلى جملة العناصر التي تتيح استخدام مفردة "التوازن" وفق أيّ معني ملموس. مراسل صحيفة الـ "إندبندنت" البريطانية اختار وجهة طريفة للتعبير عن هذا الإختلال، فسجّل حقيقة أنّ الوفد الأمريكي إلى قمّة التحوّل تلك شغل سبع طبقات من فندق الهلتون الذي يحتضن الوفود، مقابل طبقة واحدة للوفد الهولندي مثلاً! وأمّا في مصطلحات أخرى أكثر دلالة، فإنّ الولايات المتحدة تنفق، وحدها، مليار دولار أمريكي يومياً على شؤون الدفاع، في حين أنّ مجموع الدول الأوروبية الـ 15 الأعضاء في الحلف تنفق قرابة 500 مليون دولار.
ومن الصحيح، ثالثاً وبناء على الفقرتَين أعلاه، أنّ وزير الدفاع الأمريكي دونالد رمسفيلد لم يوفّر فرصة واحدة للتذكير بأنّ قوّة التدخّل السريع (قوامها 21 ألف مقاتل) سوف تكون "جاهزة للتدخّل الفوري ضدّ الدول المارقة وضدّ الإرهاب"، أي ستكون مجرّد وحدة أخرى إضافية تابعة للجيش الأمريكي. الأمين العام السابق للحلف، اللورد روبرتسون، تغنّى بمشروع هذه القوّة الجديدة، واعتبر أنّ الحماس الأمريكي لتشكيلها هو ردّ حاسم على القائلين بأنّ الولايات المتحدة لن تشارك فيها. وأمّا الأمين العام الجديد، ياب دي هوب شيفر، فإنه يضمر ـ ولكن لا يعلن ـ الإعتقاد بأنّ الأمريكي سوف يقاتل من قاذفته في السماء، والأوروبي هو وحده الذي سيخوض في أوحال الأرض!
ومن الصحيح، أخيراً، أنّ الرئيس الأمريكي جورج بوش يصرف معظم الوقت في تعداد أخطار الإرهاب على السلام والأمن العالميين (تماماً كما كانت حاله مع عراق صدّام حسين)، ويخصّص القليل فقط من أوقات لقائاته الرسمية للحديث عن مستقبل الحلف الأطلسي، وعن طبيعة مهامّه القادمة، وما إذا كان هذا التوسّع كفيلاً بتطوير عمل الحلف أم تحميله المزيد من الأثقال والأعباء. لا شيء اليوم سوى الارهاب، ثمّ ضرورات الوقوف إلى جانب الولايات المتحدة في العراق وأفغانستان، ولا أخطار نوعية و عاجلة إلا في بغداد وكابول. إذا شاءت أوروبا، كلّها أو بعضها، السير في ركاب أمريكا وبريطانيا الذاهبتَين إلى الحرب، فأهلاً وسهلاً. وإذا لم تشأ، الأمر سيّان!
نحن، في عبارة أخرى، أبعد ما نكون عن يوم الخامس من حزيران (يونيو) 1947، حين ألقى وزير الخارجية الأمريكي جورج مارشال خطبة قصيرة في حفل تخريج دفعة جديدة من طلاب جامعة هارفارد، فأطلق المبادرة الدبلوماسية الأضخم والأكثر كلفة في تاريخ الولايات المتحدة، أي ما سيُعرف فيما بعد باسم خطة مارشال لانتشال أوروبا من أوزار الحرب العالمية الثانية. آنذاك لم تكترث الصحافة الأمريكية بخطبة من سبع دقائق، ألقاها رجل جافّ الروح وصارم الملامح، لا تنفرج شفتاه عن ابتسامة مجاملة حتي عندما يطلق فرانكلين روزفلت واحدة من النكات الرئاسية المأثورة. ولأن أحداً لم ينتبه، فإن أحداً لم يناقش خطورة مشروع فريد عكفت على هندسته أكبر أدمغة الإدارة آنذاك (جورج مارشال نفسه، بمعونة من دين أشيسن، جورج كينان، شارلز بوهلن، وليم كلايتون)، وسوف يقلب العالم رأساً على عقب، وسيتكلف 13 مليار دولار (88.5 مليار بحسابات هذه الأيام)، ولن يتردد ونستون تشرشل في اللجوء إلى البلاغة ليصفه على النحو الدراماتيكي التالي: "العمل اللا ـ أناني الأوحد في تاريخ الأمم".
تلك كانت عملية كبرى في التطويق والاختراق والتحصين، ولكنها أيضاً كانت سلسلة عمليات استراتيجية في التجارة والأعمال (إعادة تشغيل مصانع كبرى مثل "رينو" و"بيشينيه" و"داسو" في فرنسا، و"فولكسفاكن" و"ديملر ـ بينز" في ألمانيا، و"فيات" في إيطاليا...)، وفي التسويق الفلسفي للقِيَم الرأسمالية، والتصدير الثقافي لنمط الحياة الأمريكي، وما إلى ذلك. ولم يكن هذا التوجّه جديداً، فمنذ مطلع القرن الماضي اعترف الرئيس الأمريكي وودرو ولسون بالدور الداعم الذي يلعبه جهاز الدولة الرأسمالية الكونية، بالنيابة عن الرأسمالية الكونية: "لأنّ التجارة تضرب صفحاً عن الحدود، والصناعي يلحّ على امتلاك العالم بأسره سوقاً له، فإن من الواجب على عَلَم بلاده أن يرفرف خلف ظهره. ويجب على جيش الأمة أن يقاتل لكي تنفتح الأبواب الموصدة أمام التجارة والصناعة. وينبغي على أجهزة الدولة حماية التنازلات التي يتوصل إليها التاجر والصانع، حتي إذا اقتضى الأمر انتهاك سيادة الأمم في هذه السيرورة. ويجب الحصول على المستعمرات أو إقامتها إذا لم تكن موجودة، بهدف استثمار وتوظيف كل زاوية من جهات الكون".
وبهذا المعنى فإن قادة أوروبا، الذين توافدوا قبل سبع سنوات إلى العاصمة الهولندية لاهاي، للإحتفال بالذكرى الخمسين لخطة مارشال، والتنافس في التعبير عن عرفانهم بجميل الولايات المتحدة، أصاخوا السمع إلى رسالة الردع المبطنة في دعوة الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون إلى خطة مارشال من أجل إنقاذ أوروبا الشرقية. وما لم يقله كلينتون صراحة، قالته وزيرة الخارجية السابقة مادلين أولبرايت في أعمدة الصحف: "ما لم تنتسب الديمقراطيات الجديدة في أوروبا الشرقية إلى النظام، فإن الشراكة الأطلسية في التجارة والأمن لا يمكن أن تتمّ".
و الشيفرة المبطّنة في رسالة أولبرايت كانت تقول ببساطة إن أمريكا أنقذت أوروبا من غائلة الجوع عبر خطة مارشال، وحفظت أمنها طيلة الحرب الباردة من خلال الحلف الأطلسي. وعلى أوروبا، هذه القارّة العجوز المثقلة أصلاً بتاريخها السابق للحرب واللاحق لها، أن تتحمّل أعباء التركة الثقيلة لانهيار المعسكر الإشتراكي وتَخَبُّط هذه الديمقراطيات الجديدة بين اقتصاد السوق وأغلال الماضي. وليس مسموحاً لأوروبا الغربية (الرأسمالية، الحرّة، المعافاة نسبياً بسبب من جميل الولايات المتحدة في حماية العالم الحر والرأسمالية) أن تزدهر أكثر من ازدهار الولايات المتحدة نفسها، وأن توحّد صفوفها بالإنتقاص من مبدأ الهيمنة الأمريكية على النظام الدولي.
خطة مارشال لإنقاذ أوروبا الغربية نهضت على المبدأ الذرائعي القائل بعدم جواز وقوف الولايات المتحدة مكتوفة الأيدي أمام انقلاب الخراب الاقتصادي إلى خراب إيديولوجي. وأما خطة "مارشال ـ 2" لإنقاذ أوروبا الشرقية فإنها تنهض على مبدأ قيام الولايات المتحدة بالتحريض على تخريب وحدة أوروبا الغربية بقصد تشييد الديمقراطيات في أوروبا الشرقية، ولعلّ هذا بعض السبب في أنّ فاكلاف هافيل قرع ناقوس الخطر.
وهكذا فإنّ توسيع الحلف الأطلسي من 19 دولة إلى 26 لا يتمّ لأسباب دفاعية كما هو واضح لكلّ ذي بصيرة، بل لأسباب ترتدّ بجذورها إلى المال والأعمال والتجارة والصناعة، ويعود بالحلف القهقرى إلى ما قبل سنة التأسيس 1949. وأمّا توزيع فزّاعة الإرهاب، وقبلها الفزّاعة العراقية، على الوفود فهو من قبيل ذرّ الرماد في العيون، المستعدّة أصلاً للانخراط في إغماض طويل... طويل.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. شاهد| اعتراض قذائف أطلقت من جنوب لبنان على مستوطنة كريات شمو


.. حصانة جزئية.. ماذا يعني قرار المحكمة العليا بالنسبة لترمب؟




.. المتحدثة باسم البيت الأبيض تتجاهل سؤال صحفية حول تلقي بايدن


.. اليابان تصدر أوراقا نقدية جديدة تحمل صورا ثلاثية الأبعاد




.. تزايد الطلب على الشوكولا في روسيا رغم ارتفاع سعرها لعدة أضعا