الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


-الرجل المريض- عربيا

منير شحود

2004 / 4 / 4
مواضيع وابحاث سياسية


مر قرن من الزمان على محنة "الرجل المريض" التركي, انتقلت فيه تركيا, عبر الرافعة الأتاتوركية, إلى مرحلة متقدمة لهذه الدرجة أو تلك, وترسخ فيها نظام ديمقراطي انتقالي, يعيش مشاكله الخاصة وتناقضاته, وصارت الإمبراطورية العثمانية, التي يقف الطامعون الأوروبيون على تخومها لتقاسم الغنيمة, مجرد ذكرى.
وفي بداية القرن الحالي, صار "الرجل المريض" عربيا بامتياز, وبدأت معالم الانهيار والتفكك العربيين بالتجلي, كاشفة عن عمق حالة العجز. فقد دخلت الأنظمة العربية في الآونة الأخيرة مرحلة من المناورة البائسة, التي هي أشبه بمراوغة مكشوفة, لا يمكن أن تسعفها فيها الشعارات الخالدة, ولا مقولات الثوابت الأبدية, وذلك بعد أن حاصرتها الضغوط الخارجية, وبدأت عوراتها بالتكشف واحدة تلو الأخرى, للداخل والخارج.
آخر مناورات المراوغة كانت مقولة الإصلاح من الداخل.. كلمة الحق الذي يراد بها باطل؛ وكأن هذه الأنظمة (ما شاء الله!) تسابق الريح الخارجية في مساعيها الإصلاحية, وتعيد نسج خيوط العلاقة مع شعوبها على نحو مؤسساتي متحضر, بدل سوقها كالنعاج بالأجهزة الأمنية والمطوِّعة إلى خرابها المحتوم والمضمون. وما فعلته هذه الأنظمة, لحد الآن, لا يتعدى وضع بعض مساحيق التجميل الشكلية, ليراها أهل الخارج, قبل أهل الداخل.
وتتكرر اللوحة التركية هذه المرة في البلدان العربية بصورة أكثر تعقيدا وقتامة, حيث تقف القوى الخارجية, وعلى رأسها الولايات المتحدة, على أهبة الاستعداد للتدخل, أو لمتابعة تغلغلها في المنطقة بعد احتلالها العراق. وتراقب الدول الغربية حالة الركود والتحلل البطيء, مخافة أن تنفجر الأوضاع بصورة دراماتيكية, وهي لن تتردد في رش المنطقة العربية بالمبيدات, إذا لم تستطع شفاءها من داء الإرهاب: الموضوعي منه, والمعرف أمريكيا.
سيجتاحنا الخارج بالطريقة التي يراها مناسبة, دون أن نستطيع حراكا, بعد أن تبلَّدت أحاسيسنا واستمرأنا الذل والهوان؛ بسبب ممارسات الجهلة وحراس الفساد, الذين أوصلونا إلى ما نحن عليه, أو كرسوا كل ما هو غث في ثقافتنا القمعية المتوارثة, فأعادونا إلى عهود الاستعباد الغابرة, واحتلونا من الداخل, بحيث صرنا نحلم, ولو بمجرد تغيير الجلاد, لا أكثر!.
وما لم يحدث ما لا يحدث حتى الآن؛ أي إصلاح من الداخل يتناول, فيما يتناوله, تغييرات جوهرية في أساليب الحكم, لجهة شرعنته انتخابيا, وليس ثوريا, فإن مسيرة الانهيار والتحلل ستتسارع جارفة في طريقها كل الآمال. فالإصلاح لا بد أن يرتبط بإضفاء مزيد من الشفافية على آليات إنتاج السياسة وأهدافها. ولا يكفي انتظار مساعي الأنظمة في إجراء الإصلاحات, بل العمل على "مساعدتها", بمزيد من الضغوط الداخلية والخارجية, لا أن ننتظر المكارم؛ كما يفعل بعض المثقفين الذين يريدون التوقيع على بياض, تأييدا لإصلاحات ضبابية, هكذا, لوجه الله تعالى!.
ومقولة الإصلاح من الداخل لم تعد تنطلي على أحد؛ كمحاولة من الأنظمة العربية للتكيف وتأجيل الإصلاحات المزعومة إلى عام 2005 أو 2010 أو إلى أبد الآبدين. وبالتوازي مع ذلك, لا يقولون لنا شيئا عن الحجم الذي ستصل إليه متوالية الفساد في هذه التواريخ, أو عدد العاطلين عن العمل, أو الذين سيعيشون تحت خط الفقر, أو الذين سيقضون نحبهم في الهجرة اللاشرعية إلى الضفة الأخرى من المتوسط, أو امتداد طوابير متسولي الهجرة على أبواب سفارات أعدائنا وأصدقائنا, بحثا عن لقمة العيش, أو توقا لنسائم الحرية... وقس على ذلك.
إن تأجيل الإصلاحات, بحجة الصراع العربي الصهيوني, أو التآمر الخارجي, لن ينطلي على أحد بعد اليوم. وذلك لأن الصراع نفسه يعدُّ من أهم محركات التطور ومحفزاته, وهو من الأسباب التي دفعت أعداءنا لتطوير قدراتهم ومضاعفتها. فهل يمكن أن نحقق شيئا يذكر في هذا الصراع, دون إجراء تغيير جوهري في مختلف نواحي حياتنا, وأنساق تفكيرنا؟.
وتوحي مقولة التحديث, مثلا, أن ثمة تقدما يحتاج إلى التحديث دوريا, وقد جاء المصطلح من النظم المعلوماتية, دون شك. ولكن هل ما يحدث في مجتمعاتنا هو تقدم حقيقي يحتاج إلى التحديث, أم ركود ومستنقعات تحتاج إلى التجفيف والتصريف؟ فتكنس معها المياه الآسنة, لتتكشَّف من ورائها ينابيع الحياة الحقيقية.
أن غياب أو تغييب طاقات خيرة أبناء المجتمعات العربية, ونشر المفسدين وحراس الفساد ليعيثوا فسادا ونهبا, ودفع خيرة الوطنيين للهجرة أو الانكفاء, اتقاء لمحاولات الإفساد المنظمة, والتضييق على الناشطين, أو الزج بهم في السجون والمعتقلات, إن لم يتم إغراقهم في مستنقعات الفساد....إن ذلك كله هو الذي أفضى إلى الحال التي نعيشها, وليس التآمر الخارجي, الذي قد يؤدي دورا إيجابيا, من حيث تعزيزه الوحدة الوطنية المؤسسة على حقوق المواطنة, في سياق عملية مواجهته.
فهل يمكن للأنظمة العربية أن تُصلح ما أفسدته؟ وهل يستيقظ ضمير من لا ضمير له؟. إن "الرجل المريض" عربي بامتياز في هذه المرة, بيد أن أتاتوركييه المحدثين لم يظهروا بعد.









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الجزائر: نظام ري قديم للمحافظة على مياه الواحات


.. مراسل أوكراني يتسبب في فضيحة مدوية على الهواء #سوشال_سكاي




.. مفوضية الانتخابات العراقية توقف الإجراءات المتعلقة بانتخابات


.. الصواريخ «الطائشة».. الفاشر على طريق «الأرض المحروقة» | #الت




.. إسرائيل.. انقسام علني في مجلس الحرب بسبب -اليوم التالي- | #ر