الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


التنوع في الكتابة ( جاسم عاصي انموذجا )

أحمد الجنديل

2009 / 3 / 22
الادب والفن



( انّ الناس أماكن والأماكن ناس ) . بهذه الكلمات اختصر الروائي الانكليزي ( جون برين ) ما كتبه الكثير عن أهمية المكان في القصة أو الرواية ، فعندما نكتب عن المكان فهذا يعني بالضرورة أن نتحدث عن الناس الذين يمارسون حياتهم في هذا المكان ، والكشف عن بنية الشخصيات لوحدها لا يمكنها أن تقدم عملا ناجحا ما لم ترتبط بالأماكن التي تعيشها ، وما زال المكان والشخصية كمعادلة ثنائية تفرز الكثير من الغموض كنتيجة أولية من نتائج الحياة البشرية . وليس مهمة الكاتب فك طلاسم هذا الغموض ودراسة مسبباته وآثاره ، وإنما مهمته أن يكتب عنه ويسجل ما يراه ، ويقتنص ما يراه مفيدا لعمله ، ويلاحق خيوطه ، دون أن يجهد نفسه في البحث عن الدوافع والمسببات والنتائج ، ولعل من الفائدة أن أستحضر ما نصح به ( فورد مادوكس فورد ) حيث قال : ( أكتب دوما وكأنّ أحداث روايتك تجري أمام عينيك على خشبة مسرح باهر الإنارة ) . والأحداث والإنارة مرتبطان بخشبة المسرح الذي يشكّل المكان قاعدتها العريضة في بناء وهيكلية العمل المبدع الناجح .
وعندما نتمعن في قلم الروائي والناقد جاسم عاصي نجد أنه مسكون بالمكان الذي لم يستخدمه كوعاء لشخصياته فحسب ، وإنما جاء ضمن تركيبة بنائية تداخلت فيها خصائص أبطاله وحركاتهم بخصائص وطبيعة المكان الذي مارسوا حياتهم فيه ، وكما أنّ السرد والحوار لا ينفصلان في الرواية فان الشخصيات التي كتبها جاسم عاصي لا تنفصل عن المكان الذي وجدت فيه بطريقة ابتعد فيها عن تقديم ملامح شخصياته دفعة واحدة ، مجتهدا في رسم الخلفية بمهارة فائقة إلى المكان التي تتحرك فيه شخصياته ، واضعا في حساباته رسم الأحداث في الدقائق الصغيرة ، متأنيا في ضخ المعلومات التي من شأنها دفع العمل الدرامي إلى الصعود . وإذا كان المقهى قد شكلت حضورا للمكان الذي انطلق منه الروائي غائب طعمة فرمان في بعض ما كتب ، والسجن الذي تعامل معه يوسف الصائغ في رواية ( المسافة ) والقاص والروائي عبد الرحمن مجيد الربيعي في رواية ( الوشم ) ، والصالات الأنيقة والغرف الحاضنة على الكثير من الأسرار عند الروائي جبرا إبراهيم جبرا في رواية ( البحث عن وليد مسعود ) ، والخان الذي يتسع لمجموعة من المشردين تأكل أحلامهم امرأة كما في رواية ( رجل الأسوار الستة ) لعبد الإله عبد الرزاق ، والبحر بكلّ أسراره وتقلباته كما في ( الياطر ) و ( حكاية بحّار ) للروائي الكبير حنّه مينا ، وكتّاب لا يسع المجال هنا للحديث عنهم اتخذوا من خشبة العرض كلّ ما خلقوه من إبداع ، وعندما نستعرض ما كتبه الروائي جاسم عاصي يبرز عالم الاهوار في عمله بوضوح في رواية ( مستعمرة المياه ) . ويبدو تأثير هذا العالم المتشح بكل رموز الخوف والفرح والمفاجأة ، المتسربل بكل ألوان المتناقضات ، المكتنز بأسراره الكثيرة ، هو العالم الذي جعل الأديب يستمد خيوطه ونسيجه منه ، فكان يرينا شخصياته من خلال عالم الاهوار ، وكنّا نرى هذا العالم المليء بالسحر من خلال المعمارية الروائية . إنّ عالم الاهوار عند الأديب عاصي كان الحاضنة الأولى التي تعلم منها حروفه الأولى ، وهي المدرسة التي تعلم فيها كيف ولماذا ولمن يكتب ؟ فكان وفيا لها عندما غادرها وهو يتنقل من محطة إلى أخرى وما كتبه خلال الأربعة عقود يرى ذلك بوضوح ، حيث ظلت ملازمة له في جميع مجاميعه القصصية ورواياته رغم اختلاف وضوحها من عمل إلى آخر ، فمنها تعلم فن الإيحاء والإبحار في الخيال ورؤية الحدث من خارطته التفصيلية النابعة من هذا العالم المليء بشتى صنوف المتناقضات خالقا وحدة عضوية بين هذا العالم وشخوص الرواية في سياق متعدد الإيقاعات متنوع التصاميم .
إنّ أهم ما يميز كتابات الأديب جاسم عاصي هو الاحتراف والواقعية ، ورغم انه احترف فن النقد وقدّم نماذج نقدية ناضجة من خلال ( المعنى المضمر ) و ( جوّاب الآفاق ) و ( دلالة النهر في النص ) إلا أن ما قدمه من روايات وقصص كانت بعيدة عن لغته النقدية ، فخرجت من بين يدي روائي لا ناقد ، مثلما خرجت كتاباته النقدية من بين ناقد لا روائي أو قاص ، وهذا المؤشر يدل بوضوح على أنه يتمتع بتجربة واسعة على خلق المناخات المختلفة للكتابة حاملا تاريخه الثقيل بتجاربه التي يشكل عالم الاهوار سماتها الرئيسية والقادرة على حمل المفاجأة وإسقاطها بشكل سريع على ذهن المتلقي وقدرته الفائقة على اقتناص اللحظة الساخنة في المكان الساخن لتقديم العمل الساخن إلى القارئ .









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. دياب في ندوة اليوم السابع :دوري في فيلم السرب من أكثر الشخص


.. مليون و600 ألف جنيه يحققها فيلم السرب فى اول يوم عرض




.. أفقد السقا السمع 3 أيام.. أخطر مشهد فى فيلم السرب


.. في ذكرى رحيله.. أهم أعمال الفنان الراحل وائل نور رحمة الله ع




.. كل الزوايا - الفنان يحيى الفخراني يقترح تدريس القانون كمادة