الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المصالحة الحقيقية وأشباح الموتى!

ميثم الجنابي
(Maythem Al-janabi)

2009 / 3 / 24
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق


لم تكن هزيمة حزب البعث في العراق نتاجا للغزو الأمريكي والإطاحة بالسلطة الصدامية، بقدر ما ترتبت على ما في زمن سيادته المطلقة من تخريب تام للروح والجسد الفردي والاجتماعي والدولتي. فقد كانت هذه النتيجة جلية للعيان بعد الانتفاضة الشعبية (الشعبانية) بأثر حرب الخليج الأولى (عاصفة الصحراء). حينذاك أصبح "حزب البعث" مجرد أداة تابعة بصورة تامة لسلطة عائلية قبلية جهوية فئوية طائفية علنية ومستترة. وليس مصادفة أن يندثر ويتلاشى كما لو انه "لا شيء" من حيث الإمكانية الفكرية والروحية والأخلاقية، أي من حيث المكونات الضرورية للحزب السياسي الاجتماعي.
بعبارة أخرى، إن حزب البعث ليس أكثر من أشباح موتى! لكنها قادرة على التأثير شأن خرافات الوعي والذاكرة الخربة! وبالتالي ليس ظهور مشكلة "المصالحة مع حزب البعث" في الفترة الأخيرة، سوى التعبير المشوه عن طبيعة وحجم الخلل الفعلي في إعادة بناء الدولة والمجتمع بعد سقوط التوتاليتارية البعثية والدكتاتورية الصدامية. وليس هذا الخلل معزولا عن مستوى وحجم وطبيعة الخراب الذي تركه حزب البعث في كل مسام الوجود العراقي، بحيث جعل عرقه دما!
غير أن المسئولية الكبرى في نهاية المطاف تتحملها النخب السياسية العراقية الحالية. مما يفترض بدوره إعادة تحديد المواقف العملية من "المصالحة مع حزب البعث" على أسس جديدة تتجاوز الصيغة المباشر والفجة لفكرة وممارسة "اجتثاث البعث"، دون إلغاء مضمونها الضروري بالنسبة لإعادة بناء الدولة والمجتمع والثقافة السياسية على أسس جديدة.
وليس المقصود من ضرورة الإبقاء على فكرة "اجتثاث البعث"، سوى مهمة تحويلها إلى ميدانها الحقيقي عبر بناء الدولة الشرعية والنظام الديمقراطي والمجتمع المدني. فهو الأسلوب الوحيد الفعلي القادر على تذليل تقاليد الراديكالية السياسية والحثالة الاجتماعية التي كان البعث الصدامي احد نماذجها "التامة".
فمن بديهيات الحياة والتاريخ والوعي السياسي الواقعي القول، بأن المصالحة الوطنية وقت الشدائد ترتقي إلى مصاف المرجعية الضرورية بالنسبة للرؤية والأفعال. لكنها شأن كل حقيقة تتصف بطابع ملموس. بمعنى أن إنزال البديهيات المجردة إلى الواقع يفترض التعامل الملموس معها. وفي حالة النقاش والجدل الدائر حول معنى وجدوى "المصالحة مع حزب البعث" فمن الضروري وضعها أيضا ضمن الفكرة القائلة، بأن "المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين". بمعنى أن الفكرة المتسامية للمصالحة ينبغي التعامل معها أيضا بعيون الحكمة العملية والرؤية النقدية التي تفرق بين الغباء السياسي والعفو عند المقدرة، بوصفه التعبير الأخلاقي للرؤية الواقعية.
كل ذلك يستلزم النظر إلى قضية "المصالحة مع حزب البعث" بمعايير المصالحة الوطنية الحقيقية، أي النظر إليها بمعايير المصالحة مع النفس. وذلك لأن حقيقة المصالحة الوطنية تعني المصالحة مع النفس. وإذا أخذنا بنظر الاعتبار أن جذر المصالحة من الصلاح والأصلح، فإن هذا يعني اشتراط "المصالحة مع حزب البعث" بتفكيك فكرة البعث وحزب البعث. بعبارة أخرى، من الضروري التفريق بين فكرة البعث وحزب البعث من جهة، والنظر إليهما بمعايير الواقع والمستقبل.
فعندما نضع السؤال حول طبيعة العلاقة بين البعث كفكرة وأيديولوجية وحزب وأشخاص، وعما إذا كانت هذه العلاقة مكافئة لعلاقة أجزاء أو مظاهر، فان الرؤية الواقعية والتاريخية تكشف عن أنها كانت في ظروف العراق والنتائج التي توصل إليها في ظل السيطرة المطلقة لحزب البعث وفكرته وأيديولوجيته وأشخاصه إلى أنها علاقة أجزاء وليست مظاهرا. أو أنها في أسهل المواقف مكونات لا يمكن الفصل بينها. وهذه بدورها كانت النتيجة المترتبة على جوهر الراديكالية السياسية والعقائدية الأيديولوجية والهامشية الاجتماعية والثقافية التي كان حزب البعث والصدامية أنموذجها "التام".
من هنا فان المصالحة مع حزب البعث تفترض وضع فكرة المصالحة نفسها ومبادئها وقيمها وغايتها ضمن سياق الفكرة السابقة. مما يتطلب بدوره ضرورة المحاكمة الفكرية والتاريخية والسياسية والحقوقية والأخلاقية لحزب البعث بوصفه الأداة السياسية للجرائم التي جرى اقترافها بحق الوطن والدولة والمجتمع والمستقبل. بمعنى التعامل مع حزب البعث بمعايير الرؤية السياسية المستندة إلى مبادئ وقواعد الحقوق. مما يفترض بدوره إخراج فكرة البعث والأيديولوجية البعثية من سياق المحاكمة القانونية ووضعها ضمن سياق المحاكمة الفكرية وتاريخ الأفكار والعقائد. أما الأفراد (البعثيون) فينبغي النظر إليهم بمعايير المواطنة والحقوق المدنية فقط.
بعبارة أخرى، إن "المصالحة مع حزب البعث" من الناحية الفعلية لا يمكنها أن تتعدى حدود ومستوى الرؤية النقدية والإصلاح المحتمل في الأشخاص (البعثيين) لتجاربهم. وبالتالي إعادة توظيفها بطريقة تسهم في بناء شخصية اجتماعية وطنية وقومية عربية متحررة من العبودية لأصنام وجهلة وتخلف وجريمة مهلكة.
فحزب البعث بتراثه السياسي في العراق يتسم بقدر هائل من الإجرام بحق الدولة والمجتمع والوطن والقومية! وبالتالي، فإن الدولة الشرعية ينبغي أن تفرّق دوما بين الجريمة ومصادرها. من هنا، فإن المهمة تقوم في وضع أسس جديدة للدولة والمجتمع والثقافة تذلل بصورة نهائية إمكانية ظهور مختلف مظاهر الراديكالية السياسية الأيديولوجية التوتاليتارية والمتحزبة!
طبعا أن ذلك لا ينفي إمكانية انتقال حزب البعث إلى ميدان الحياة السياسية الاجتماعية والمدنية والشرعية. غير أن ذلك يفترض منه أولا وقبل كل شيء إعادة النظر النقدية الشاملة بتراثه السابق ككل. بما في ذلك فكرة المصالحة الوطنية باعتبارها مصالحة مع المجتمع. وهذا بدوره يستلزم القيام بإصلاح شامل للنفس. ويستحيل بلوغ ذلك دون محاكمة النفس على طبيعة ومستوى الجريمة التاريخية التي جرى اقترفها بحق العراق من تخريب مروع للدولة والمجتمع والاقتصاد والثقافة، وهدم للفكرة الوطنية والقومية، وإثارة مختلف أشكال البنية التقليدية واللاعقلانية من جهوية وفئوية وحزبية ضيقة وطائفية ومذهبية. إضافة إلى المسئولية التامة عن حجم وطبيعة المهانة التاريخية التي تعرض لها العراق بأثر الاحتلال.
كل ذلك يجعل من أولويات المصالحة مع "حزب البعث" بالنسبة للدولة العمل على تحويلها صوب المصالحة مع الأفراد من اجل إدراجهم في صيرورة المجتمع. وضمن هذا السياق فقط يمكن إعادة بناء أنفسهم بالطريقة الاجتماعية المقيدة بحكم القانون والشرعية.
ذلك يعني أن حقيقة المصالحة ينبغي أن تقوم في رجوع البعثيين بمعايير الوطنية والشرعية والمدنية، أي كأفراد عاديين والعمل من اجل الاندماج الطبيعي والعقلاني بالمجتمع والدولة، أي شرعنة رجوعهم بمعايير المواطنة والشرعية وليس بمقاييس الحزبية السياسية.
فالبعثي الحزبي والسياسي أما مجرم أو مخطئ أو يتحمل بأقدار مختلفة وزر ما حدث بما في ذلك الاحتلال. من هنا مهمة المحاكمة لمن يستحقها، والعفو بمعايير الدولة والمستقبل لمن يستحقه، والمساهمة في إعادة تطهير النفس لمن يشارك فكرة البعث ويرفض أسلوب تجسدها السياسي بالصورة التي جرت على امتداد كل عقود الاستبداد السابقة.
فالغاية من المحاكمة هنا ليست المعاقبة، بل إعادة بناء الشخصية بمعايير الحقوق والنزعة الإنسانية من اجل طي صفحة الراديكالية السياسية وزمن الخراب التي دفعت العراق إلى الهاوية في مجرى خمسة عقود من الزمن، بدأت بانقلاب الرابع عشر من تموز عام 1958 وتوجت بالهيمنة المطلقة للتوتاليتارية البعثية والدكتاتورية الصدامية وسقوطها المريع بأثر الغزو الأجنبي (الأمريكي) عام 2003!
إن مستقبل المصالحة الوطنية العراقية الحقيقية لا تقوم في "المصالحة مع حزب البعث" بل في إرساء أسس المستقبل، أي في إرساء أسس تاريخ العراق العقلاني والإنساني المحكوم بالشرعية وفكرة المواطنة والحقوق المدنية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - اشباح لموتى
عدنان عباس سكراني ( 2009 / 3 / 24 - 06:43 )
هذا ما تبقى من حزب البعث افراد لا هويه او حياة لهم انهم حقا اشباح لا تخيف احدا ولكن اية فكره او مقوله للمصالحه قد تغويهم بالعوده للحياة خاصه انهم متلونين كالحرباء السامه فلنرفع من قاموسنا كلمة مصالحه ونستبدلها بكلمة تاهيل فالبعثيين مرضى محتاجين للتاهيل السوي لا غير


2 - البعث الحقيقي مصدر للجريمة
المتابع ( 2009 / 3 / 24 - 16:46 )
سيدي العزيز البعث كما عرفناه حزب عنصري شوفيني لا يمكن له الا ان يكون مصدرا للجريمة تخرج من بين معسكراته اعتى المجرمون المشكلة سيدي العزيز ليس الخوف من عودة فكر هذا الحزب في عراق نامل ان يبنى على اسس المواطنة الحقة والانسانية المتحضرة الا اننا بحاجة ان ندعوا من اخطا من البعثيين اخطاءا لاترقى الى معنى الجريمة الى التصالح مع الاخرين والاعتذار عن اخطائهم وبالتالي استعدادهم لتاهيل انفسهم مع واقع اجتماعي جديد ليس فيه لفكر البعث اثر وهذه الدعوة لايضطرنا اليها الا الاعتبار الانساتي


3 - كفى ارهابا
فيصل آورفــاي ( 2009 / 3 / 24 - 18:19 )
اقتباسات:
1. -حزب البعث- مجرد أداة تابعة بصورة تامة لسلطة عائلية قبلية جهوية فئوية طائفية علنية ومستترة.
2. إن حزب البعث ليس أكثر من أشباح موتى! لكنها قادرة على التأثير.
3. فالبعثي الحزبي والسياسي أما مجرم أو مخطئ أو يتحمل بأقدار مختلفة وزر ما حدث بما في ذلك الاحتلال.

تكفي الاقتباسات اعلاه لتشير الى مقدار الحقد الذي يحيط بنفسية الكاتب اعلاه . فنجد ان المقال يخلو من اية موضوعية يمكن ان تخفف من غلواء الكاتب و تحامله الذاتي .
نأتي الى الاقتباس الاول فهو يعني بكل بساطة ان الكاتب يعترف بأن حزب البعث كان خاضعا لديكتاتور معين هو صدام حسين ،و نحن نشهد على صحة الكلام . اذا فالبعث لا يتحمل نتائج ديكتاتورية زعيم نهب البعث و هيمن على السلطة و رمى بالحزب في العربة الخلفية للدولة .
الاقتباس الثاني، يعني بان حزب البعث قادر فعلا على التأثير ، و بالتاكيد اكثر من مجرد -اشباح- كما يقول الكاتب . فالاشباح لا تفجر الناس، ولا تغتالهم، ولا تفجر خطوط النفط ولا المؤسسات و لا الحسينيات ولا الجسور التي تتراص عليها الناس ...الخ . اذا فحزب البعث قوة جديرة بالاهتمام ،و يجب ان يحسب لها الحساب المناسب ،و ليس عبثا ان فكرة اجتثاث البعث فشلت فشلا ذريعا . و لهذا فالمصالحة هي ضرورة تاريخية بين السل

اخر الافلام

.. حزب الله يعلن تنفيذ هجوم جوي على قاعدة إسرائيلية جنوب حيفا


.. من واشنطن | صدى حرب لبنان في الانتخابات الأمريكية




.. شبكات | هل قتلت إسرائيل هاشم صفي الدين في غارة الضاحية الجنو


.. شبكات | هل تقصف إسرائيل منشآت إيران النووية أم النفطية؟




.. شبكات | لماذا قصفت إسرائيل معبر المصنع الحدودي بين لبنان وسو