الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رحلة في السياسة والأدب (3)

سهر العامري

2009 / 3 / 24
الادب والفن


أعادنا مفوض الشرطة ، حياوي ، ثانية الى سجن الجبايش بعد أن تم ضبط جميع إفاداتنا ، وفي يوم ما طل علينا شرطي من شرطة الجبايش فرحا ، وكأنه يحمل بشرى يريد أن يزفها إلينا نحن الذين أنهكت أجسادنا قطعان لا تعد ولا تحصى من القمل والبرغوث ، وما أحد منا يستطيع النوم مع هذا العذاب الذي استمر طوال مكوثنا في ذلك السجن .
قال الشرطي : لقد تم تعين ثلاثة حكام عسكريين لعموم العراق ، وصارت صلاحية المنطقة الجنوبية من نصيب الحاكم العسكري ،عبد الجبار محيسن !
لم يكترث جل السجناء لهذه البشرى التي لا تعني لهم الشيء الكثير حتى أن أحد المعلمين المشهورين بالظرف من السجناء رد على ذلك الشرطي ساخرا : و( القلاص ) ! أي كأس الماء ، فصلاحيّة بتشديد اللام والياء تعني في لغة العامة من أهل العراق هي إناء ماء زجاجي يتبعه عدد من الكؤوس الأصغر حجما.
ويبدو أن انقلابيي شباط سنة 1963م وللعدد الهائل من السجناء عينوا ثلاثة حكام كان المعروف منهم هو رشيد مصلح صاحب بيان رقم 13 المشهور الذي أباح فيه قتل الشيوعيين العراقيين في الشوارع ، ولهذا صارت المنطقة الجنوبية التي تشمل محافظات البصرة والناصرية والعمارة تنتظر مجيء الحاكم الجديد ، وذلك من أجل البت بمصير الألوف من السجناء الذين ضاقت عنهم السجون .
لم يكن أمامنا نحن سجناء سجن الجبايش إلا الانتظار في سجن لا تتوفر فيه أبسط الشروط الصحية ، ولكن بعد أسابيع من تلك البشرى نقلنا سراي مدينة الناصرية الواقع في قلب المدينة ، وقد أجريت لجميعنا محاكمات عاجلة استمرت منذ الصباح وحتى ساعة متأخرة من مساء اليوم الذي وصلنا به الى ذلك السراي ، وكانت مجموعة من الحرس القومي ، ومن أبناء المدينة ، تدور بين السجناء وتطلب من بعضهم تبديل إفاداتهم الأولى والشهادة ضد نفر معين من بين أولئك السجناء ، وقد كنت أنا واحدا من بين ذاك النفر.
كان مفوض الشرطة حياوي جالسا الى جانب الحاكم ، عبد الجبار محيسن عند دخولي الى قفص الالتهام وما هي إلا لحظات حتى نادى شرطي كان واقفا في باب المحكمة على الشاهد جليل ياسين وهو واحد من الطلاب الذين درسوا معي في المرحلة الابتدائية لكننا افترقنا في المرحلة المتوسطة ، وكان هو يكبرني بالسن ، وقبل أن يدلي الشاهد بشهادته دخلت أنا في جدل مع الحاكم ، فقد كان هو مصرا على تقدير عمري بثماني عشرة سنة ، بينما كان عمري الحقيقي هو خمس عشرة سنة وأشهر ، مثلما هو مدون في الجنسية العراقية التي سميت فيما بعد بهوية الأحوال المدنية ، والتي رفعتها بيدي عاليا ليراها الحاكم ، لكنه أصر على رأيه قائلا لي : أما ترى أن شعر شاربك قد ظهر!؟ فأجبته : ما كان ظهور الشعر أو عدم ظهوره دليلا في يوم ما على تحديد عمر الناس وشهادتي التي تثبت عمري هي جنسيتي هذه ! فرد هو قائلا: جنسيتك لا يمكن أن تثبت عدد سنوات عمرك التي دونت على خطأ ، وإنني أستطيع أن أحيلك الى طبيب يقدر سنوات عمرك . قلت : أنا موافق على ذلك ، وأطلب احالتي الى ذلك الطبيب .
انتهى الجدل بيننا باقتراح سره المفوض حياوي بأذن الحاكم ، وهو أن يكون عمري ست عشرة سنة ، بدلا من ثماني عشرة سنة التي يصر عليها الحاكم ، والذي وافق على اقتراح مفوض الشرطة حياوي في نهاية المطاف ، وكان هدف الحاكم من جعل عمري ثماني عشرة سنة هو أن ينفذ بي حكم الإعدام الذي يخطط له هو ، وربما غيره من جماعة الحرس القومي ، فبعد هذه المحاكمة حكمت بمادة منطوقها يقول : إن ما قمت به من عمل أنا ضد انقلاب شباط الأمريكي في العراق عام 1963 هو تآمر على حياة الجمهورية، ولهذه الغاية فقد أقسم جليل ياسين ، الشاهد الوحيد ، بالقرآن زورا وكذبا ، وذلك حين أدعى من أنني أخطر الشيوعيين على الإطلاق في مدينتي ، وأنني أقود مجموعة من الخلايا الشيوعية في تلك المدينة ، ولكن الحاكم سألني قبله : هل أنت عضو في الحزب الشيوعي ؟ قلت : لا . أنا ليس عضوا في الحزب الشيوعي العراقي ، وذلك لأن النظام الداخلي للحزب يشترط أن يكون العضو فيه قد بلغ ثماني عشرة سنة من العمر. عاد الحاكم ليسألني ثانية : هل أنت عضو في منظمة الشبيبة الديمقراطية ؟ قلت : لا . أيضا ، فالنظام الداخلي لتلك المنظمة يشترط نفس العمر الذي يشترطه النظام الداخلي للحزب الشيوعي .
بعد أن فرغ الشاهد من شهادته طلبت من الحاكم مناقشته إلا أن الحاكم رفض ذلك ، وأشار على الشاهد بالخروج ، ثم نودي على المتهمين معي بنفس القضية ، ولم يتعرضوا الى أسئلة مثل تلك الأسئلة التي تعرضت أنا لها ، كما أنهم لم يتعرضوا الى شهادات ضدهم ، وكان هدف الحاكم وأفراد من الحرس القومي هو أن أتحمل أنا بمفردي مسؤولية توزيع المنشورات المناهضة لذلك الانقلاب المشؤوم الذي سماه الرئيس أحمد حسن البكر بعروس الثورات ، بينما كان هو في حقيقة الأمر عرسا أمريكا قام على جماجم ودماء العراقيين ، تماما مثل العرس الأمريكي التي تجري فصوله اليوم على أرض العراق ، وتحت سرادق ديمقراطية رأس المال المزيفة .
كانت اللغة التي كتبت أنا بها ذلك المنشور متينة ، وكان الأسلوب حصيف ، ثم أنني وقعت المنشور بما يشبه اسم منظمة وهو : الوعي الوطني الديمقراطي ، وكان هذا التوقيع ، ومتانة اللغة تلك هما السبب في جعل الحاكم ونفر من الحرس القومي يشكون من أنني أنا الذي كتبت المنشور المذكور ، وذلك لأنني كنت صغير السن ، وفي السنة الثانية من متوسطة الجمهورية في الناصرية ، لكنني كنت قد عشت مع قصص وروايات نجيب محفوظ ، وكنت أحفظ بعض النصوص منها عن ظهر قلب ، ولا زلت أذكر للآن أن أستاذ اللغة العربية كريم توفيق الذي درسني العربية فيما بعد في إعدادية الناصرية كان يقرأ ما أكتبه في دروس الإنشاء على صفوف تلك الإعدادية ، وذلك حين بلغت أنا السنة الخامسة منها.
لقد قال لي واحد من أتباع الحرس القومي بعد خروجي مباشرة من قاعة المحاكمة : إن الوعي الوطني الديمقراطي هو تشكيل جديد للحزب الشيوعي العراقي ، فالأفضل لك أن تعترف على هذا التشكيل ، ولكنني قلت له : لا يوجد للحزب تشكيل بهذا الاسم ، وأنت تسعى للإيقاع بي على أية حال . فرد علي بأنك لا تستطيع أن تكتب مثل هذا المنشور ، فاللغة والأسلوب فيه ليس لطالب مثل سنك ، وفي مرحلة دراسية غير متقدمة .
لقد فات هذا الشخص الذي رحل الى رحمة الله الآن من أنني كنت أحفظ وقتها العبارة التالية عن ظهر قلب:( نظرت ُ الى الوجود فإذا هو قمة ثلج قد أشرقت عليه شمس الصباح من خلال قوس قزح ملون بألوان البنفسج والبرتقال .) العبارة هذه كانت لونستون تشرشل ، رئيس الوزراء البريطاني زمن الحرب العالمية الثانية أخذتها أنا عن روايته : ( سافرولا ) التي أهدتها لي صديقتي ، وهي طالبة في ذات سني ، وفي نفس مرحلتي الدراسية ، ولكنها كانت تدرس بمدرسة خاصة بالبنات ، و قد أهدتني هي هذه الرواية لعلمها في أنني كنت مولعا بقراءة الشعر والرواية ، فأنا لا زلت أتذكر كيف كنا نتطلع الى وصول جريدة : كل شيء من بغداد الى مدينة الناصرية ، تلك الجريدة التي كانت تخصص أغلب صفحاتها للشعر الشعبي العراقي الذي كنت أقوله أنا في هذه المرحلة ، وكانت بعض من قصائدي قد أذيعت في ركن الشعر الشعبي من إذاعة بغداد
والقصيدة تلك كانت بعنوان : كسرة ضلع ، وقد نقل لي خبر إذاعتها الصديق العزيز صالح البدري الممثل والمسرحي العراقي المعروف ، كما أنني لا زلت للآن أحفظ أبياتا من قصيدة الشاعر كاظم الرويعي التي رثى بها الشاعر بدر شاكر السياب بعد موته مباشرة ، وكانت قد نشرت على صفحات الجريدة المشار إليها من قبل ، وهي قصية نائحة باكية ، تبوح عن ألم ، وتفيض حزنا أثر فينا نحن الجيل اليافع وقتها ، والأبيات التي لا زالت عالقة في الذهن هي :
النخل حزنان واطراف السعف تنعي
وألف حسنه تدك وتنتحب تدعي
تودي للغروب اعتابْ
دوّرْ وين غرقتْ نجمة السيابْ








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفلسطينيين بيستعملوا المياه خمس مرات ! فيلم حقيقي -إعادة تد


.. تفتح الشباك ترجع 100 سنة لورا?? فيلم قرابين من مشروع رشيد مش




.. 22 فيلم من داخل غزة?? بالفن رشيد مشهراوي وصل الصوت??


.. فيلم كارتون لأطفال غزة معجزة صنعت تحت القصف??




.. فنانة تشكيلية فلسطينية قصفولها المرسم??