الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بنادق ثقافية

حاتم عبد الواحد

2009 / 3 / 24
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق



في عام 1990 وقف فاتسلاف هافل رئيس جيكوسلوفاكيا أمام الكونغرس الأمريكي ، وكان قبل ستة أشهر من ذلك سجينا سياسيا فقال " بصفتي كاتبا مسرحيا فقد اعتدت على الأشياء الخيالية ، فيراودني الحلم بالعديد من الأشياء غير المعقولة ، فأضعها في مسرحياتي ، لهذا استطيع التكيف مع تجربة خروجي من السجن لكي أقف أمامكم اليوم ، ولكنني أرثي لكل السياسيين المساكين الذين يحاولون التعامل مع كل ما هو محتمل ".
وإذا كانت الثقافة هي ما يبقى بعد زوال كل شيء ، فان السياسة هي ما يزول بعد ثبات كل شيء ،على الأقل في المجتمعات التي لم يعد لها خيار ثالث بين ثياب الثيوقراطيين أو المثول عارية أمام التاريخ ، وعندما تتأرجح ميولنا بين بياض زائف كبياض الأكفان ، وسواد حقيقي كبؤبؤ لحدقة عمياء ، يكون الخيار للسياسي ، لأنه هو الذي يحمل البندقية ، وتاريخ الضحايا يكتبه الجلادون.
أما الذين رأوا المشهد من وراء دمعة كبيرة فإنهم سيوصمون بالغباء ، لان تعرجات المتاهة لا تحتمل التأمل .
لقد رأيت في ما رأيت وجوديين قبل الوجودية يبيعهم سماسرة الكتب بثمن رغيف بائت ، وسورياليين يطلبون من حبيباتهم أن يغمسن أصابعهن في شايهم المر ، وملوكا تيجانهم أعشاش من القمل وصولجاناتهم عكازات توزعها مستشفيات مبتوري الحروب ، وعاشقين يرفعون أصابعهم منتصبة نحو السماء وينفخونها محتفلين بميلاد لم يدم طويلا ، ووطنا يوزع نياشينه دقيقا تفوح منه رائحة العلف الحيواني ، وزيتا يتجمد في فم من لا يمجدونه .
ثلاثين عاما وأنا اتمترس خلف دمعة ، حتى شككت بكروية الأرض فرط التسطح الذي اعتدت على رؤيته ، في النجف القديمة كان احد أفراد أسرة " الفاضلي " يصدر جريدة أسبوعية اسمها " العدل " ، انتظر ساعة صدورها فأقف أمام المطبعة التي تطبعها لأمارس مازوشيتي من خلال التمعن في حلمي الجريح المنشور على صفحاتها ، كان الشعراء الرسميون يقرأون قصائدهم تحت الأضواء الكاشفة وكاميرات التلفزيون ، وأنا اقرأ قصائدي في زقاق خلفي من منطقة الميدان ، على مرأى ومسمع حشد من العاهرات والسكارى والمحطمين ، كانت القسمة عادلة ، لي المواطنة وللرسميين الوطن .
ولأن من سبقونا لم يقدموا تفسيرا مقنعا لأهمية وجدوى ما كتبوه خلف مكاتب المؤسسات الثقافية ، فان دوامات الرغبة السياسية كانت تجرف مبدعي القرى والأرياف نحو سماء المدينة ، وبين رؤيتهم في قمة الزوبعة ومهملين كقمامة على الرصيف ، رغبة طارئة في تقمص السلطة لدور المثقف ، ووحدهم أولئك الذين لم يقتلعوا من تحت أظافر القرى من استطاعوا أن يديموا إحساسنا بالألم .
وعندما تمددت الحرب – تلك الأنثى الضارية – فوق سريرها ، لم يرق لها ديكة الصالونات ، أولئك المدجنيين الذين لا يترددون أن يبيضوا كل يوم في قن السلطان بيضة من ذهب اذا دعت الحاجة لذلك ، فأخذتنا – نحن الدونكيشوتيين – بلا استئذان من أحضان أمهاتنا وكنا لم نزل يافعين لم يبلل الحب حقولنا ، وفي ذروة الرعشة الأخيرة لهذه الانثى لم ينهض من سريرها سوى بضعة أجداد منا دفنوا أحفادهم في خنادق الحرب البعيدة .
ما الذي تغير ؟
كانت الكلمة في خدمة الإقطاع الحزبي ، فأصبحت في خدمة الإقطاع الديني ، وكانت الكلمة تمجد القائد الأوحد فصارت تمجد المرجع الأوحد ، كانت الكلمة تلمع أحذية الجنرالات ، فأصبحت تلمع صنادل آيات الله ، كانت الكلمة عاهرا تنام مع من يدفع أكثر ، وصارت سبية يملك سيدها لحمها ودمها وبكارتها وحياتها ومماتها .
ومع كل هذا السوء والانحطاط ، لم تتوقف الصحف ووسائل الإعلام بكل أشكالها عن الكذب الفاضح والخديعة التي يسوقها المأجورون من ذوي الأغراض السياسية ، أولئك الحرباويون الذين يستطيعون تبديل وجوههم وأشكالهم حسب الحاجة الظرفية ، يتفاخرون بقدرتهم على التكيف مع بوصلة الموت ، وينسون المئات من زملائهم الذين تقطعت أوصالهم ورميت في مجاري المياه الثقيلة أو في المزابل .
ما الذي تغير ؟
كانت الثقافة خادما مطيعا ، فأصبحت قاتلا محترفا ، ويكفي سطر واحد ينشره كاتب أو صحفي صاحب سطوة طائفية أو عرقية بدافع الحسد أو الغيرة عن زميل له كي يفقد الأخير حياته ، كان يراد للثقافة أن تصبح مفردة تافهة يتم تصنيعها داخليا ، فصارت الثقافة اتفه سلعة يتم ضخها من الخارج تماشيا مع العولمة الثقافية والمنهج النيوليبرالي الذي لا يجيد أدباؤنا السويسريون والألمان والهولنديون سوى الرطن به .
أحقا نحن قادرون على التسامح والتصالح كي نقنع العالم المتحضر بمنتوجنا الإبداعي المتصدع كصورة في مرآة مهشمة ؟
إن ضعف الإحساس بالجماعة يؤدي إلى ثقافة الغيتوهات ، فإضافة إلى جدران الفصل التي أصبحت واقعا جغرافيا يفرض قوانينه على أحياء المدن العراقية ، فان جدران الفصل الثقافي التي يعليها الوعاظ السياسيون أصبحت واضحة المعالم في النتاج الفكري العراقي ، فحملات تسفيه الآراء المتبادلة لا تظهر في الصحف والدوريات العراقية إلا عندما يتعلق الأمر بمكسب شخصي لا يراد له أن يضيع ،أما الهوية الثقافية العراقية فليشتمها من يشاء وضياعها غير مأسوف عليه ، وليس أدل على هذه الحالة من الحملة التي قادها رئيس اتحاد أدباء العراق فاضل ثامر ضد الشاعر سعدي يوسف ، فعندما استنكر سعدي على الشيوعيين العراقيين أن يمدوا يدهم للاحتلال الأمريكي ، هدد فاضل ثامر بإقامة دعوى قضائية ضد سعدي يوسف في لندن حيث يقيم الأخير ، وطالب بتعويض مادي ومعنوي عن الأضرار التي لحقت بسمعته المؤسسية وليس سمعته الشخصية التي يعرف أنها لا تساوي شيئا، بعد أن جعلها في خدمة من يدفع أكثر ، ولا ادري سبب سكوت حميد سعيد عن مثل وقاحة هؤلاء الذين صدعوا رؤوسنا ببطولاتهم وإبداعاتهم ومواقفهم التي لا وجود لها إلا في مخيلتهم لأننا نعرفهم على ارض الواقع انتهازيين يضعون يدا بيد القاتل ويدهم الأخرى على عيونهم الباكية على الضحية .
ناهيك عن المهارشات الفكرية ، والملاسنات المخجلة التي تنشب كل يوم بين المتسلطين على الواجهة الثقافية من أميين ورجال دين ، بسبب الكسب المادي وليس الكسب الإبداعي ، أولأجل تاريخ الثقافة العراقية التي سجلت أول حروفها في سجل الإنسانية منذ اريدو وأوروك وما تلاهما من حضارات .
أحقا نحن جديرون باحترام العقل المتحضر ؟
اشك بهذه الجدارة ، ما دمنا موغلين في تزوير الحقيقة وكارهين لها ، فلكي يعرفك الآخر عليك أن تعرف من أنت أولا ، والعراق المتعدد الأعراق والأديان لم يقدم خلال الأربعين عاما الماضية إلا من يقوي ثقافة السلطة وليس من يقوي سلطة الثقافة ، ولم يشذ عن هذا الوصف تمثيلنا الثقافي في مؤتمر داكار الذي وافقت خلاله منظمة القلم الدولية على عضوية العراق في هذا المنبر الحر النابذ للكراهية والعنف الفكري وثقافة الإقصاء ، والعراق يستحق هذه العضوية بجدارة مؤكدة .
فإضافة إلى غياب المبدعين العراقيين من الكرد والتركمان والمسيحيين والصابئة عن المنصة المخصصة للوفد العراقي ، كان الأشخاص الثلاثة الذين تناقلت شبكات الانترنيت صورهم وأحاديثهم غير مؤهلين تاريخيا وإبداعيا وشخصيا لتمثيل الثقافة العراقية ، والثلاثة حسب تجارب شخصية مريرة معهم ليسوا سوى خيوط متواضعة في شبكة المافيا الثقافية العراقية التي تمتد من ديترويت إلى سدني مرورا بمالمو وبيرن وجنيفا .










التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. صحة وقمر - قمر الطائي تجهز لنا أكلة أوزبكية المنتو الكذاب مع


.. غزة : هل تتوفر ضمانات الهدنة • فرانس 24 / FRANCE 24




.. انهيار جبلي في منطقة رامبان في إقليم كشمير بالهند #سوشال_سكا


.. الصين تصعّد.. ميزانية عسكرية خيالية بوجه أميركا| #التاسعة




.. نشرة إيجاز بلغة الإشارة - الدفاع المدني بغزة: أكثر من 10 آلا