الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الحلقة الثانية / حقيقة المنثور الشعري وإشكالية الغموض في التعبير والأسلوب

فائق الربيعي

2009 / 3 / 24
الادب والفن


قبل الإجابة عن التساؤل الذي طرحناه في الحلقة الأولى , ينبغي أن نحاول إيجاد صيغة تعريفية للتعبير والأسلوب أولا , لكي نقف أمام الغموض كظاهرة تأويلية جديدة في النص والكشف عنها أسلوبا وتعبيرا لنستريح عند ضفاف شطآن الحقيقة للمنثور الشعري .
ويتبين لنا من خلال البحوث السابقة والمطروحة من قبل أصحاب الاختصاص والشأن الأدبي , ليس هناك ثمة تعريف ثابتة وشامل ودقيق ومحدد عن التعبير والأسلوب , إنما الأغلب الشائع من هذه التعاريف هي شروح لهذه المفردات ,التي لا تزال تحمل في طياتها الكثير من التساؤلات الغريبة عنها والإجابات الأغرب منها , لذلك سوف نبتعد مؤقت عن طيات وتلافيف الشروح لنركز عما نريد بحثه , أو عن ماذا نعبّر ؟ ..وبأي أسلوب ؟... ولماذا الغموض في التعبير والأسلوب ؟
وهذه الصيغ من التساؤلات ستفتح لنا مجالات متعددة ومتنوعة لفهم ظاهرة الغموض في سُـلمْ الإشكالية للواقع الأدبي المعاصر.
ولو ابتدأنا مع كلمة أو مصطلح التعبير لوجدنا إن التعبير هو الأداة الشاملة للتحفيز عن الخيال والفكر والعاطفة والانفعال إلى أقصى طاقة وأبعد مدى ممكن , وهذا ليس دافعا باتجاه واحد لفهم النص وانما هذا الفهم وهذا الدافع متوفر لكل ذي لغة , ولو دققنا بمستويات الفهم الأوسع والأعمق لمهمة التعبير وغاياته وأهدافه لوجدناها تتلخص بإثارة الانفعالات الحية والكامنة في كل كلمة أو جملة من معاني النص الجميلة منها أو القبيحة , السلبية منها أو الإيجابية على حد سوى .

ثم نأتي إلى مصطلح أو مفردة الأسلوب الذي بقي هو الآخر غامضا أيضا وتجتاحه غمامة من الضبابية لكثرت الأساليب المتبعة في الإبداع حتى تحير النقاد في إيجاد قاعدة مشتركة ليحددوا من خلالها المعنى العام لهذا المفهوم , ولأبن خلدون كلام مسهب طويل في تعريف الأسلوب مفاده إن الأسلوب صورة لفظية لمعنى ذهني , أي أن الأديب يتصور في ذهنه المعنى ثم يترجمه إلى أسلوب بطريقة لفظية دون النظر إلى علم البلاغة أو الأعراب أو الوزن ,
وبكلمة أدق نقول إن الأسلوب هو الآلية الجمالية التي تحكم النص , أو بكلمة أخرى إن الأسلوب هو العلامة الفارقة والبصمة المميزة للمبدع .
من خلال هذا التوضيح المضغوط لهذين المصطلحين يتكشف لنا أن هناك رابطة قوية وعلاقة متزامنة بين الأسلوب والتعبير جوهرها الخلق والإبداع , وظاهرها الترابط الحيوي والجمالي الذي نتلمسه من مفردات النصوص الأدبية , وهذا الاستنتاج يعطينا دالة كبيرة بأنه ليس هناك من فواصل بين إيحاءات المفردتين وانما هناك تمازج وتكامل بينهما يصل إلى درجة القمة الجمالية والعطاء الفكري الموجه إلى العقل وتلافيف الروح . وبهذا اللحاظ ستكون أية فكرة مهما كانت درجة نضوجها مكبوتة إذا لم يُعبر عنها بطريقة ما , ولا قيمة للتعبير عن الفكرة إذا كانت خاوية من الرؤيا الفنية والإبداعية , لان كل إنسان هو مفكر بطبيعته الإنسانية ولكن التعبير هو الأداة المهمة لوصول هذه الأفكار إلى أذن المتلقي كي نضمن تواصل التجارب الإبداعية الحية من خلال تلك النغمات التعبيرية
الداخلية والخارجية وفي تداخل وتمازج موسيقي مع الروح والعقل .

إذن أين تكمن إشكالية ظاهرة الغموض, وهل هناك ضعف في إمكانية وقدرة المبدع للنفوذ إلى المعاني الخفية للكلمات, أم تكمن الإشكالية بما وراء هذا الغموض من فلسفة تنقلب على النص بطريقة فنية وإبداعية مثلما يقول بول فرلين (Paul Verlaine) أحد رواد الرمزية حيث يقول: ( المعاني الخفية كالعينين الجميلتين تلمعان من وراء النقاب ) .
فالغموض في التعبير والأسلوب ليس إشكالية جديدة مطلقا ,لان طبيعة أي عمل فني هو إيجاد معاني متعددة ومتضاربة وفي ذلك ما أشار إليه الجرجاني قديما ( ليس في الأرض بيت من أبيات المعاني لقديم أو محدث إلا ومعناه غامض ومستتر، ولولا ذلك لم تكن إلا كغيرها من الشعر، ولم تفرد فيها الكتب المصنفة ) 1.
من هنا نقول إن للشاعر الحق في أن يحلق في سماء المعاني الخفية ويطلُّ بها على فضاءات مبتكرة برؤيا خيالية , ويجدد ما شاء من التعابير والألفاظ شريطة أن لا يقع في أسر الابتذال والتقريرية , وأن يكون الشعر في حركة خيالية تفاعلية مدعاة للاستغراب والتعجب والدهشة , فالغموض أذن ظاهرة تلازم اللغة الشعرية القائمة على المجاز والمفارقة والتي يتلاقى فيها العقل والمنطق والسهولة، في اختيار الطريق الأنسب والأيسر في التعبير عن الداخل الذاتي للنفس، لأن جوهر الشعر هو الإبحار في عمق وكوامن التجربة الإنسانية, لذلك نقول بأن هذه الظاهرة من أعقد الظواهر التي يجابه بها القارئ في أثناء قراءته لقصيدة أو خاطرة شعرية أو أي جنس آخر من أجناس الأدب المتعارف على تصنيفه في أيامنا هذه , ويمكن أن نقول أيضا عن الغموض باعتبار ظاهرة معبرة عن الحداثة وتصدر من أعماق التجربة الجديدة القديمة شريطة أن تحافظ على عمق الرؤية الفنية , لان إكتشاف العلائق الجمالية بين مفردات اللغة التي يستهدفها النص, يعني الوصول إلى طبيعة الصورة وملامحها المستقرة وراء الألفاظ في عملية كشف جديد عن المعاني التي لم نجد لها مقابل في معاجم اللغة وقواميسها , أي إلغاء للروابط المنطقية الكلاسيكية التي تحكم نظام المفردة في معجم اللغة , ولو حاولنا أن نفهم العلاقة في قوله تعالى : في سورة الطور الآية 6 والبحر المَسْجُور , جاء في التفسير أن البحر يُسْجَر فيكون نار جهنم . وسَجَرَ التَّنُّورَ يَسْجُرُه سَجْراً: أَوقده وأَحماه، وقيل: أَشبع وَقُودَه 2
إذن في هذه الحالة لدينا متضادان هما الماء والنار, في صورة البحر المتقد , وضمن العلاقة للفهم القاموسي المنطقي الجامد تسير هذه العلاقة في اتجاه واحد لان الماء يطفي النار أو النار لها القدرة والإمكانية في تسخين وتبخير الماء وليس من علاقة ثالثة لأنها ستبدو غير طبيعية , ولو انصرف الذهن إلى أن البحر كائنٌ من طين وماء وما بينهما من حياة ستكون النتيجة عدم احتراق لعلاقتهما الضدية , ولكن بما أن الاحتراق أمر أخروي سيكون الفهم ممكناً لغويا ومقبولاً للتعبير عن هول وكثافة النيران يوم القيامة , في هذا الجو من الكتابة الخارجة عن ضوابط المعنى المعجمي والمنطق الوصفي ينبغي أن لا تؤدي إلى اللامعنى , وكما قال علماء البلاغة أن اكبر مساحة للتعبير تتأتى من خلال إيجاد علاقة جديدة لحركة ووضع المفردة القديمة , لان مفردات اللغة العربية غزيرة وتعطى مجال واسع في علاقتها المتحركة حسب رؤية وإمكانية المبدع ويبقى النص الجيد كما ذكر اودنيس *النص الذي يصدر من أعماق التجربة التي تحافظ على عمق الرؤية الفنية، وترفض السقوط في براثن النثرية والاستدلال الذي يحول الخطاب الشعري إلى الكلام العادي أو النثر الذي قوامه العقل والمنطق والوضوح , وللبحث تتمة إنشاء الله .

المصادر
1- الجرجاني، الوساطة بين المتنبي وخصومه |بيروت، 1966| ص 417.
2- لسان العرب








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أحمد حلمى من مهرجان روتردام للفيلم العربي: سعيد جدا بتكريمي


.. مقابلة فنية | الممثل والمخرج عصام بوخالد: غزة ستقلب العالم |




.. احمد حلمي على العجلة في شوارع روتردام بهولندا قبل تكريمه بمه


.. مراسل الجزيرة هاني الشاعر يرصد التطورات الميدانية في قطاع غز




.. -أنا مع تعدد الزوجات... والقصة مش قصة شرع-... هذا ما قاله ال