الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أمر توقيف البشير- لم يحن أوان التنفيذ بعد!

أحمد عثمان

2009 / 3 / 26
دراسات وابحاث قانونية



يراهن البعض بشدة على تصريحات مدعي محكمة الجنايات الدولية حول تنفيذ مذكرة توقيف البشير ويتوقعون أن تقوم دولة ما بتنفيذ القرار حال مغادرة البشير الأراضي السودانية. وهذا الرهان مبني في الغالب على حسن الظن بالمحكمة الجنائية الدولية وجديتها في تطبيق العدالة – وهو حسن ظن في محله، ولكنه يتناسى أمراً جوهرياً يتمثل في أن المحكمة لاتمتلك الوسائل اللازمة لتنفيذ مذكرة التوقيف بنفسها. فمذكرات التوقيف أو أوامر القبض حتى في النظم القانونية الداخلية لاتنفذ بواسطة المحاكم بل بواسطة السلطة التنفيذية (الشرطة)، أما على المستوى الدولي فلامناص من تنفيذها بواسطة الدول. وفي الحالتين من الممكن أن يخضع التنفيذ للإرادة السياسية الحاكمة لجهة التنفيذ، إذ من السهل أن تحجم الجهة المعنية عن التنفيذ حتى وإن كان إحجامها مخالفاً للقوانين ومقتضى العدالة.

ومذكرة توقيف البشير، لاتشكل إستثناءاً لهذه القاعدة، ولهذا سوف تخضع للإرادة السياسية- أكرر السياسية، للدول المعنية بتنفيذها. وإذا بدأنا بالدول الثلاث التي كانت وراء إحالة جرائم دارفور إلى محكمة الجنايات الدولية (الولايات المتحدة الأمريكية و بريطانيا و فرنسا)، فإننا نرى أنها غير معنية بتنفيذ هذه المذكرة في الوقت الراهن. ورؤيتنا هذه تنطلق من أن هذه الدول الثلاث ومنذ البدء، ليست حريصة على تطبيق العدالة بقدرما هي حريصة على توظيف النشاط القضائي بصورة سياسية. وهذا بالطبع لايقدح في صحة الإجراءات القضائية التي صدرت المذكرة بموجبها، أخذاً في الإعتبار أن صدور المذكرة وفقاً لإجراءات قانونية صحيحة، لايمنع من إستغلالها سياسياً في مرحلة تنفيذ مذكرة التوقيف. فالواضح من نشاط هذه الدول، أنها راغبة في الوصول لتسوية سياسية يتم عبرها تعليق إجراءات المحكمة الجنائية الدولية وفقاً لنص المادة (16) من نظامها الأساسي، بشرط أن تنصاع الحكومة السودانية لتصور هذه الدول وهندستها للشأن السوداني. وهذه الرغبة أعلنت أكثر من مرة وانتقدتها جماعات حقوق الإنسان. ولسنا في شك من أن الدول المذكورة وعبر علاقاتها الدبلوماسية غير المعلنة (crypto diplomacy) ، ناشطة بشكل مباشر وغير مباشر مع الحكومة السودانية للتحقق من مدى إستعدادها لتقديم تنازلات موجعة لها سوف تظهر تباعاً حين التمكن من إيجاد صيغ ملائمة لإخراجها للعلن. إذ أن إستخدام أمر التوقيف للتخويف والضغط، لابد من أن يسفر عن نتائج مرضية لها حسب تقديرها وقراءتها لمواقف الحكومة السودانية وتجاربها معها. فالتجربة تقول أن حكومة السودان دائماً ماترفع سقوف رهاناتها وتجأر بالصياح والتحدي، ولكنها تقدم التنازلات المطلوبة عند إشتداد الضغوط مع إبداء شئ من الممانعة المقبولة لدى هذه الدول.

وبالنظر إلى مذكرة التوقيف بإعتبارها أهم أدوات الضغط المتوفرة لدى الدول الإمبريالية المعنية، يتضح أنه ليس هنالك منطق يدعو هذه الدول لفقدانها عبر تنفيذها قبل أن تستنفذ أغراضها السياسية. فتنفيذ المذكرة الآن يفقدها طابعها كأداة ضغط وتخويف، ويسلب هذه الدول أهم أدوات المساومة دون أن تحصل على أي مقابل. وهذا الأمر يمكن حدوثه أيضاً في حال تسليم البشير نفسه طوعاً للمحكمة الجنائية الدولية، أو في حال قررت الحكومة السودانية تسليمه. فسقوط تهديد مذكرة التوقيف ، يضعف المركز التفاوضي للدول المعنية، ولكنه لايهزمها تماماً بإعتبار أن قائمة المشتبه بهم لدى المحكمة الجنائية الدولية طويلة ومن الممكن أن تسفر تداعيات محاكمة البشير عن وقائع جديدة تدفع بقيادات نافذة في السلطة إلى الواجهة كمتهمين مطلوب القبض عليهم. وهذا بالضبط هو مناط رفض الحكومة السودانية التعاطي القانوني مع نشاط المحكمة القضائي وإسرافها في تسييسه في مقابل التوظيف السياسي المضاد.

فالدول الثلاث المعنية ليست من الغباء بحيث تفرط في أهم أدوات الضغط التي لديها، وتقوم بالقبض على البشير وإيداعه السجن بلاهاي لتنتظر تحقيق عدالة هي غير معنية بها لعدة سنوات، في حين أنها من الممكن أن تستخدم مذكرة التوقيف لدفعه لتقديم مزيداً من التنازلات الممكنة حسب تجربتها معه. المنطق يقول أن هذه الدول الآن سوف تتريث لترى إلى أي مدى يمكنها إستغلال مذكرة التوقيف، وأي مستوى من التنازلات يمكن أن تصل إليه الحكومة السودانية، قبل أن تقرر أن مصلحتها تكمن في تنفيذ مذكرة التوقيف. فهي الآن قد حشرت النظام السوداني حيث أرادت تماماً، تركت المحكمة الجنائية الدولية تقوم بعملها القضائي بشكل مهني لأنها واثقة من تقارير الأمم المتحدة التي لديها وكم المعلومات الإستخبارية، أن المحكمة لن تجد مناصاً من إصدار مذكرة التوقيف، ولأنها كذلك واثقة من أن الحكومة السودانية لن تستطيع إتخاذ الطريق القضائي لعلمها أن الإدانة بالجرائم موضوع المذكرة راجحة. إذاً المرحلة الآن هي مرحلة ممارسة الضغوط لتحديد سقوف التنازلات وليست مرحلة تنفيذ المذكرة بأية حال، ومن ثم بدأت في توظيف هذه المذكرة سياسياً. وبالطبع هذا الوضع هو الأسوأ بالنسبة للنظام السوداني الذي يحاول جاهداَ مع المنظمات الإقليمية ودول الجوار رفع قدراته التفاوضية رغم الضجيج الإعلامي وطرد منظمات العون الإنساني. فالملاحظ للحراك السياسي والدبلوماسي النشط لقيادات النظام، يستطيع أن يستنتج أن هذا الحراك ليس الهدف منه شتم المحكمة الجنائية الدولية وتحديها المعلن من الخرطوم (يلاحظ أن الهجوم مركز على المحكمة الجنائية مع إشارات خجولة للدول التي ترغب في توظيف نشاطها سياسياً، مع إنعدام تام للهجوم على مجلس الأمن وهو الجهة التي تسيس النشاط القضائي إن أرادت!).

يضاف إلى ماتقدم أن الدول الثلاث المذكورة أعلاه، صاحبة نفوذ كوني وعلاقات وثيقة مع كل دول العالم، وهي قادرة على توظيف نفوذها و علاقاتها لمنع توقيف البشير حتى تصل إلى إستنفاذ كافة صور الإستغلال السياسي لمذكرة التوقيف. ولعلنا نصيب إذا قلنا أنها لن تسمح بتوقيف البشير، حتى تتأكد تماماً من أنه جاد في عدم تقديم تنازلات كافية تسمح بتمرير هندستها لواقع السودان كما تشاء.
والأرجح هو أن يتم تقديم التنازلات المطلوبة، وألا يتم تنفيذ مذكرة التوقيف، بل تتجه الدول الثلاث لاحقاً لتعليق الإجراءات عبر مجلس الأمن وفقاً للمادة (16) من معاهدة روما تحت دعاوى تغليب إعتبارات السلام على العدالة. وهذا يعني أن مذكرة توقيف البشير ستنفذ بالقوة- وهو أمر ميسور للدول الثلاث- في حال لم يقدم التنازلات المطلوبة منه دون مساومات أو تلاعب. ولهذا طالما أن المفاوضات السرية المباشرة وغير المباشرة مستمرة، يستطيع البشير أن يسافر خارج بلاده كماشاء فقط عليه أن يراع عدم إحراج الدول المعنية بزياراته، وأن يتفادى الدول الأعضاء في نظام روما. فسفر البشير للخارج الآن لدول الجوار أو حتى لأماكن أبعد، لن يعرضه لخطر التوقيف طالما أن المفاوضات غير المعلنة مستمرة وتليين المواقف على حساب شعب السودان وحقوقه ومستقبله مستمر، إلا إذا إقتنعت الدول الثلاث بأن التنازلات ستستمر حتى في حال القبض عليه.

بإختصار مذكرة توقيف البشير لن تنفذ الآن لأن التنفيذ تقوم به دول راغبة في تسييسها والإستفادة منها قدر الإمكان، وهذا بالطبع لايقدح في مهنية وجدية المحكمة الجنائية الدولية التي فعلت ماعليها وأصدرت المذكرة، ولكنه يقدح في مدى جدية الدول المعنية ورغبتها في تحقيق العدالة. فالأمر مشابه لإصدار أمر قبض أو مذكرة توقيف داخل أي نظام قانوني، ترفض الشرطة التابعة لوزارة الداخلية تنفيذه. فهذا لايعني أن المذكرة أو أمر القبض قد صدرا بصورة غير صحيحة، ولكنه يؤكد عدم إحترام الجهة المعنية للقضاء وإزدرائها له.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ??مراسلة الجزيرة: آلاف الإسرائيليين يتظاهرون أمام وزارة الدف


.. -لتضامنهم مع غزة-.. كتابة عبارات شكر لطلاب الجامعات الأميركي




.. برنامج الأغذية العالمي: الشاحنات التي تدخل غزة ليست كافية


.. كاميرا العربية ترصد نقل قوارب المهاجرين غير الشرعيين عبر الق




.. هل يمكن أن يتراجع نتنياهو عن أسلوب الضغط العسكري من أجل تحري