الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عن السياب والشيوعيين مرة أخرى

عدنان عاكف

2009 / 3 / 27
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق


( كل مذهبين مختلفين إما ان يكون أحدهما صادقا والآخر كاذبا، وإما ان يكونا جميعا كاذبين، والحق غيرهما جميعا، وإما ان يكونا جميعا يؤديان الى معنى واحد هو الحقيقة ويكون كل واحد من الفريقين القائلين بذينك المذهبين قد قصر في البحث، فلم يقدر على الوصول الى الغاية فوقف دون الغاية، أو وصل أحدهما الى الغاية وقصر الآخر عنها، ففرض الخلاف في ظاهر المذهبين، وتكون غايتهما عند استقصاء البحث واحدة. وقد يعرض الخلاف أيضا في معنى المبحوث عنه من جهة اختلاف طرق البحث ) !!!
الحسن ابن الهيثم
لولا خوفي من ان اتهم بأني مفكر إسلامي ومنظر في تنظيم القاعدة لقلت ان ما ورد في عبارة العالم المعروف الحسن ابن الهيثم ، الواردة أعلاه، هي أبلغ صيغة التعبير عن تعددية الفكر وحق الاختلاف وحرية الرأي. يقينا لو استطعنا نحن الذين نتواجه كل يوم عبر الكلمة ان نتمسك ولو بمقدار 10% فقط بما ورد فيها لأرحنا القراء واستطعنا ان نقطع خطوات مهمة في مسيرتنا الطويلة نحو تأسيس قاعدة صلبة حقيقية للمجتمع الديمقراطي الحقيقي المنشود.
مع اني أختلف مع الكثير من ما ورد في مقالة السيد منير العبيدي " السياب المرتد بين عاكف و القاعود "، المنشورة على موقع الحوار المتمدن، العدد 2595، 24/3/2009، لكني لم أحس بنشوة القراءة عن بدر ( أقصد السياسي وليس الشاعر المبدع ) كما أحسست بها وأنا أقرأ تلك المقالة. ومع ان الكاتب شطح في أكثر من موقع عن الموضوعية في تناول القضية التي يعرضها، لكنها المرة الأولى ، التي تكون فيها مثل هذه الشطحات ليست ناتجة عن موقف متعمد، ولأول مرة ( بعد ناجي علوش ود. إحسان عباس ) يتناول فيها كاتب قضية السياب وعلاقته بالشيوعيين بأسلوب هادئ ورصين بعيدا عن التعصب وتوجيه الاتهامات، كما اعتدنا عليها دائما. هذا بمجمله يمنح القارئ الفرصة لأن يتأمل المادة المعروضة أمامه بعمق وروية.
قبل ان أشرع في مناقشة ما ورد في مقالة الكاتب المصري د. محمد القاعود المعنونة " المومس العمياء ...وخيانة الشيوعيين " أشرت في مقالتي " القاعود يكتب واقفا فلا تصدقوه " الى ما يلي : " ما يميز مقالات القاعود هو دفاعها المستميت عن التعاليم الإسلامية والتقاليد العربية الإسلامية. لذلك سنحاول حصر دفاعنا، قدر المستطاع، بالاحتكام الى تلك التعاليم والتقاليد ، التي كرس القاعود حياته وقلمه للدفاع عنها ".. وقد حاولت بالفعل ان التزم بهذا الوعد، و اعتمدت الكثير من المقولات والحكم المستقاة من التراث العربي الإسلامي ومن القرآن والأحاديث النبوية. وحاولت اللجوء الى استخدام تعابير ومفاهيم تتردد عند الإسلاميين. وكان هدفي من ذلك ان أكشف عن مدى بعد هذا المفكر " الإسلامي " المعروف عن التعاليم الإسلامية الحقيقية. وبكلمة أخرى اني حاججت المفكر الإسلامي من خلال فكره ومفاهيمه ومواقفه، وليس من خلال فكري ومفاهيمي ومواقفي.
الحقيقة الثانية التي ينبغي ان لا تغيب عن القارئ هي ان مقالتي ليست مكرسة لتقييم تجربة السياب مع الحزب الشيوعي ولا علاقة لها من قريب أو بعيد بتقييم شعر السياب من الناحية الفنية. المقالة بحلقاتها الثلاثة كانت مكرسة لمناقشة آراء الناقد المصري المعروف د. القاعود، محاولا من خلالها ان أبين للقارئ كيف يمكن لبعض الأسماء اللامعة في الساحة الثقافية العربية ان تستخف في تناول مواضيع مهمة تتعلق بتاريخنا وثقافتنا ومبدعينا. وكيف ان البعض منهم على استعداد ان يتخلى عن المبادئ التي يروج لها من أجل ان يثبت فكرة ما في رأسه أو ان ينال من هذا الموقف أو ذاك. ان التغافل عن هذه الحقيقتين قد يقود الى سوء فهم واستنتاجات خاطئة. وهذا بالضبط ما حصل مع مقالة السيد منير العبيدي. ومقالتي عن القاعود هي واحدة من سلسلة من المقالات التي بدأتها منذ بضعة سنوات، والتي بدأت الإعداد لمادتها منذ أواسط الثمانينات ، وجميعها مكرسة للبحث في المنهج الذي اعتمده عدد من الكتاب والشعراء في التعامل مع موضوع العلاقة بين الشاعر والحزب الشيوعي. وقد نحيت جانبا كل ما يخص علاقة الشاعر التنظيمية بالحزب، جرى التركيز في هذه المقالات على جانب واحد ، وهو إشكالية العلاقة بين الشاعر والحزب السياسي.
يبدأ السيد العبيدي بالفقرة التالية :
" في سياق رده على القاعود أشاد السيد عدنان عاكف بقصائد السياب و أشار إلى أن الكثير من الشعراء العرب المعاصرين يلهثون للحاق به ، ولكنه على الضد من ذلك وجد أن بدر شاكر السياب قد ارتد عن رفاقه في إشارة الى تغيير قناعته السياسية . و الارتداد هو استعارة لمفردة دينية مارسها الأدب السياسي بفعل زحاف فكري أو اختيار مقصود لأهداف معلومة . و هي دائبة التكرار في الأدب السياسي الشمولي لوصف شخصيات معينة كان عليها أن تسير على الصراط المستقيم . بهذا يكون السيد عاكف قد أخذ باليسرى ما أعطاه باليمنى ".
سنؤجل الحديث عن كلمة ( ارتداد ) لما بعد. لنفرض ان السيد العبيدي محق في ما ذهب اليه بشأن معنى الكلمة وبكوني تعمدت استخدامها، للإساءة الى مواقف السياب، فأين هي المشكلة؟ وماذا يعني بعبارته " على الضد من ذلك "؟ المسألة ليست مسألة مقايضة، بحيث ان ما قدمته باليمنى قد أخذته باليسرى. من الواضح ان حديثي كان يدور عن شخصيتين مختلفتين لا يجمع بينهما سوى الاسم. لقد كانت إشادتي موجهة الى الشاعر السياب وشعره، في حين ان الحديث عن الارتداد كان يدور عن السياسي والحزبي بدر شاكر السياب. ان إعجابي بشعر الشاعر لا يمنع من توجيه النقد الى مواقفه السياسية اذا ما وجدت ان هذه المواقف تستحق النقد من وجهة نظري ( وقد تكون وجهة نظري هذه ضالة )، مهما كان موقع هذا الشاعر في الساحة الثقافية.. سبق ان نوهت عن مواقف بعض الكتاب المشابهة لموقف السيد العبيدي. لاحظت كيف ان البعض يدين موقف الحزب من شعر السياب لأنه يستخدم المعيار الفكري والإيديولوجي ( واتفق مع مثل هذه الإدانة ان كانت في موضعها ) في تقييم إبداع الشاعر. لكنه يرتكب نفس الخطأ حين يقيم مواقف السياب السياسية والحزبية انطلاقا من مواهبه الإبداعية. لماذا يحق للسياب ان يشتم الشيوعيين وينعتهم بأبشع النعوت ولم يكن من حق الشيوعيين ان يصفوه بالمرتد، حتى بالمفهوم الذي طرحه السيد العبيدي ؟ وأرجو ان لا يفهم من كلامي اني أتفق بالفعل مع من يهاجم السياب لكونه هو الذي بادر بالهجوم على الحزب.
نعود الآن الى تعبير " ارتد عن رفاقه ". بصراحة لقد أصبت بذهول وانا أتابع المعاني والمفاهيم التي حملها الكاتب لكلمة ارتداد، والتي ما كان أي من هذه المعاني قد خطر على بالي على الإطلاق. ورد في المعجم الوسيط ( الجزء الأول، ص 350 ) ان " ارْتَدً : رجع. يقال ارتَدً على أَثره، وارتد اليه وارتد عن طريقه، وارتد عن دينه، اذا كفر بعد إسلام. و- الشيء : استرجعه. يقال: ارتد هبته ونحوها. و- الى حاله : عاد. وفي التنزيل ( فارتد بصيرا ) ". المعنى الوحيد الذي قد يثير الاحتجاج هو " اذا كفر بعد إسلام ". لا أعتقد ان هناك من يمكن ان يتصور اني كنت أقصد بتلك الكلمة هذا المعنى بالذات. ولم يخطر على بالي ان أصفه بالمرتد لأنه ترك صفوف الحزب الشيوعي، وإلا سيكون أقرب المقربين من الأصدقاء من المثقفين، بينهم شعراء وكتاب ومهندسين وأطباء، من المرتدين. ولو حاول السيد العبيدي ان يبحث على الانترنيت فبوسعه خلال أقل من دقيقتين ان يعثر على الكثير من المقالات التي تتحدث عن ردة في الفكر العربي وردة في المفاهيم في المجتمع العراقي، وارتداد المثقف الفلاني عن مواقفه السابقة من قصيدة النثر، وارتداد الحزب الفلاني عن مواقفه بشأن القضية الفلانية، وهكذا. وجدير بالذكر انها ليست المرة الأولى التي أتطرق فيها الى انفصال السياب عن الحزب الشيوعي. وقد استخدمت أكثر من مرة تعبير " التحول الدراماتيكي ". ما هي الكلمة التي كان علي استخدامها؟ العبيدي يقول " غَيَرَ قناعته السياسية "، ان هذه الصيغة لا تعبر عن حقيقة ما حدث. لقد تراجع السياب عن كل شيء كان يؤمن به أو يعمل من أجله. لقد تخلى عن الالتزام في الأدب بعد ان كان من منظريه ليس في العراق فحسب، بل وعلى المستوى العربي. وتخلى عن شعر بعض الشعراء العالميين المعروفين بعد ان ترجم لهم واعتبر شعرهم من الشعر السخيف، لمجرد كونهم شيوعيين. وتراجع عن مواقفه السياسية السابقة ليرفع شعار " يا أعداء الشيوعية اتحدوا " مع انه كان يدرك جيدا الى أين يمكن ان يقوده مثل هذا الموقف. وشهر بسمعة الشيوعيين وبشرفهم واعترف بانه كان على استعداد لأن يفعل أكثر من ذلك لولا ممانعة القائمين على اصدار الجريدة التي ينشر فيها مقالاته !!
لقد أقدم السيد العبيدي على اقتلاع كلمة " ارتد " من سياقها الذي وردت فيه، ليفسرها بالصيغة التي يرتأيها. وردت هذه الكلمة في معرض نقاشي مع القاعود بشأن موقفه الغريب، والذي يدعو الى الدهشة، من قصيدة المومس العمياء والتعليق الذي ارفقه السياب في الهامش المرفق مع القصيدة والذي فضل فيه الدم العربي على دم من هو من غير العرب. ومن أجل ان لا أتهم بالتزييف ليسمح لي القارئ ان أعيد تلك الفقرة التي وردت فيها كلمة " ارتد " :
" وليسمح لنا الدكتور أن نسأل : تُرى من هو الأقرب الى " عالم الجذور العربية الإسلامية " الشيوعيون العراقيون الذين يؤمنون بالمساواة بين البشر، أو السياب، الذي كان لسنوات ثمان قضاها في صفوف الحزب يؤمن بما كان يؤمن به رفاقه ثم ارتد عنهم وتحول الى موقف عنصري قبلي ففضل دم العربي ( وقد يكون غير مسلم ) على دم المسلم الآخر لكونه ليس من العرب ؟؟ "
هذه الفقرة وردت كرد على رأي القاعود في ان بدر في قصيدة المومس العمياء وبالتعليق المرفق بها قد قطع صلته " بخونة الأوطان والدين " وعاد الى عالم الجذور العربية الإسلامية. ولذلك خاطبته باسمي كمسلم، وباسم التعاليم الإسلامية كيف يمكن ان يكون قد عاد الى عالم التعاليم الإسلامية اذا كان قد هاجم بعض المسلمين لكونهم ليسوا من العرب؟ ومن الواضح ان كلمة ارتداد مرتبطة هنا بموقف محدد ويتعلق بالموقف ألأممي الذي كان رفاق السياب يؤمنون به والذي لا يميز بين الناس حسب القومية واللون والجنس والدين، وهو الموقف الذي كان السياب يلتزم به قبل ان يبتعد عن الشيوعيين. لقد كتبتُ عن العلاقة بين السياب والحزب الكثير من المقالات، ولم ترد كلمة ارتداد إلا في هذه المقالة، لأني كما أشرت في البداية كان علي ان أجاري المفكر الإسلامي الذي أحاوره حتى باللغة التي يستخدمها.
الموقف من المومس العمياء :
ورد في مقالتي وانا اتحدث عن السبب الذي أغضب الشيوعيين من قصيدة " المومس العمياء " ما يلي:
" كنت أتمنى لو ان الكاتب ( أقصد القاعود ) أخبرنا لماذا غضب الشيوعيون من قصيدة " المومس العمياء "، تلك الملحمة الشعرية الطويلة الرائعة، التي شغلت 31 صفحة من الديوان، اختزلها استاذ النقد في الأدب العربي بمقطع واحد ليركز عليه تعليقه ". هذا هو موقفي من تلك القصيدة. وكل ما ورد على لساني بشأن الموقف القومي العنصري أو القبلي يتعلق بمحتوى ما ورد في الهامش المرفق مع القصيدة.
وجدير بالذكر ان الكتاب الذين أشادوا بالروح " القومية الأصيلة " التي عبرت عنها قصيدة المومس العمياء قد فعلوا ما فعله القاعود واختزلوا القصيدة بمقطع واحد مع التعليق الذي ورد في الهامش الذي تركه السياب. أو بالأحرى اكتفوا بما ورد في مقدمة " ناجي علوش ". والدليل على ذلك انهم يستشهدون بنفس المقطع من القصيدة، ويكررون كلمات علوش ذاتها. لماذا لم يقرأ السيد العبيدي هذه الفقرة التي وردت في مقالتي، والتي كان بامكانها – لو توفر حسن النية – ان تغنيه وتغني القراء عن كل ما كتبه عن موقفي من القصيدة ، واتهامه لي باني اعتمدت المعيار الايديولوجي في الحكم عليها وعلى الشاعر.
وليسمح لي السيد العبيدي ان انقل هذه الفقرة الطويلة نوعا ما، التي بدأت بها مقالة لم تنشر بعد، بعنوان " المومس التي قصمت ظهر البعير الشيوعي " :
( كتب الأستاذ ناجي علوش في مقدمته لديوان بدر شاكر السياب ما يلي:
" ولقد كانت قصيدته " المومس العمياء " الشعرة التي قصمت ظهر البعير. ففي هذه القصيدة كان بدر " قوميا عربيا " بالمعنى السلفي فهو يقول :
من ضاجع العربية السمراء لا يلقى خسارا / كالقمح لونك يا ابنة العرب.. والى آخر المقطع الذي نهايته :
عربية أنا: أمتي دمها
خير الدماء كما يقول أبي "
هل كان علوش يدرك بأن تعقيبه القصير هذا سوف لن يكتفي بكسر ظهر البعير فحسب ، بل سوف يتعداه الى قصم ظهر تلك القصيدة الرائعة، التي شدتني اليها قبل أن أنتهي من قراءتها، بالرغم من كوني آنذاك لم أكن قد تعلمت قواعد قراءة الشعر العربي الحديث. ومن حسن حظي اني قرأتها لأول مرة وهي عارية كما أبدعها الشاعر، وبدون أي تعليقات أو تفسيرات من النقاد والمتطفلين. كانت القصيدة منسوخة على الآلة الكاتبة )...
لاحظ عزيزي القارئ تعبير الناقد والشاعر الفلسطيني ذو التوجه القومي السيد ناجي علوش الذي يصف به السياب في قصيدته بكونه كان " قوميا عربيا " بالمعنى السلفي ". هذه العبارة كتبت قبل 38 سنة، ولا أظن ان التعبير الذي استخدمته " موقف عنصري قبلي " الذي أثار غضب السيد العبيدي يختلف كثيرا عن تعبير علوش الذي لم يعقب عليه أحد. أما د. إحسان عباس، وهو ناقد وكاتب قومي أيضا فقد كتب عن السياب وتشوش فكره بين القومية والدين بعد ابتعاده عن الحزب فقد كتب : " " لقد اتخذ بدر من الحزب ومبادئه قوة تسند اليها. وحين ابتعد عن السند الأول ليعانق ركنا جماعيا ثانيا تمثل بالقومية المغلفة – حسب مفهومه – بنوع من الدين القومي استند الى هذا الركن لفترة قصيرة. وسرعان ما وجد نفسه في جوقة مجلة شعر يبشر بقيم دينية في الفن...واذا كان هذا هو الجانب المعنوي في تلك العودة فان وجهها الإرادي يتمثل في محاولة الإمعان في البعد عن اليساريين وبعد اقداما على التطرف الى النقيض، لكي يثبت لنفسه انه قد بلغ الى حيث لا يرجو عودة إليهم، والى حيث لا يستطيعون ان يمدوا اليه حبالهم وعصيهم، ومن جراء هذا التحول أخذ الشك يساوره في جدوى الالتزام "...
مفارقة غريبة! أليست كذلك ؟ في الوقت الذي يتهمني السيد الربيعي في محاولة تأسيس تقارب ما بين الفكر الماركسي والفكري الديني، وهو في معرض دفاعه عن السياب نكتشف ان السياب قد سبقني في تأسيس قيم دينية في الفن والتمسك بالقومية المغلفة بنوع من الدين القومي.
وتنتهي مقالة " المومس التي قصمت ظهر البعير الشيوعي " على النحو التالي:
" أنا لست بناقد ولكن من حقي كقارئ ان يكون لي رأيي وموقفي الخاص من القصيدة. لم يتغير اعجابي بها حتى بعد ان حشر النقاد أنوفهم في تفاصيلها. والأهم من ذلك لم أجد فيها ما يثير الغضب والاحتجاج، ولم أشعر برائحة التعصب القومي. ولو جردناها من الهامش المرفق فهي واحدة من روائع السياب الشعرية التي تتناول هموم الانسان العراقي ( رجلا كان أو امرأة ) الجائع المريض المسحوق ، بالرغم من كل ما تتمتع به بلاده من خيرات!! وخلال بحثي تعرفت على آراء مجموعة من المثقفين العراقيين المعروفين، والذين كانوا ( أو ما يزالوا ) من الشيوعيين أو من القريبين منهم فكريا وثقافيا. لم أجد من لم يبدي إعجابه بتلك القصيدة. ويبدو لي ان أفضل ما يمكن أن أنهي مقالتي بهذه الفقرة من مقالة للناقد الصديق ياسين النصير، والتي يمكن ان تساعد القارئ ان بلورة فكرة موضوعية عن تلك القصيدة التي شغلت الناس على مدى نصف قرن :
" بين المومس العمياء وحفار القبور اكثر من وشيجة فكرية وفنية فهي القصيدة التي تطورت عنها وعمقت مجرى الحياة للكائن المفرد المعزول وجعلتها حياة مليئة بالحس التراجيدي العام، وبالموقف السياسي المشبع بالعراقية اذا فهي قصيدة عن العراق وعن العالم، عن الكائن المفرد وعن الكيان الاجتماعي.
فى المومس العمياء يصبح الاغتراب مشكلة جماعية فالمومس العمياء ليست فردا امتهنت البغاء رغبة بل هي كيان اجتماعي مستلب اختلطت في ابعاده المأساة الفردية بالمأساة الاجتماعية وتحول جسدها الى جسد من طين ومياه ونفط يطؤه المحتلون باحذيتهم كما يطؤها عابروا الليل وطالبو المتعة ، لعلها صورة الام وقد خرجت عمياه تنشد ابناءها، ولعلها الارض وقد منحت منها لكل الواطئين عليها ولعلها الصورة المغبشة لمرأة السياب الاجتماعية. "
أعتقد الآن ان ما ورد في مقالة السيد العبيدي بشأن موقفي من قصيدة " المومس " والمقارنة التي أوردها بين الموقف من " المومس " والموقف من قصيدة محمود درويش كان عبارة عن شطحة أخرى عن الموضوعية، ولم يعدد ما يبرر الأخذ به.
تبقى هناك ملاحظة تتعلق بتصور القوميين العرب بشأن موقف الشيوعيين العراقيين من القضايا القومية، وهو التصور الذي اعتمدوه في بلورة رأيهم بشأن موقف الحزب من قصيدة السياب. والعجيب انهم وبالرغم من كل ما حدث في العالم العربي خلال العقود الستة الماضية ما زالوا يعيشون في وهم العداء الشيوعي للقضايا القومية. القوميون المعاصرون مازالوا يصرون على ان الشيوعيين رفضوا القصيدة بسبب نفسها القومي. يقول احدهم ان " سبب ترك السياب للحزب الشيوعي العراقي هو قصيدته " المومس العمياء " التي لاقت انتقادا شديدا من قياديي الحزب ورفاقه .. واتـُهم السياب بان قصيدته تروج للقومية العربية...".. أعتقد ان مثل هذا التصريح لا يمكن ان يصدر إلا عن مثقف يجهل كليا ما يتحدث عنه. قد نبتعد قليلا عن السياب و " المومس العمياء "، ولكن تعالوا نتعرف على موقف الحزب الشيوعي من القضايا القومية الملحة في تلك السنوات التي نشر فيها السياب قصيدته:
في ايلول 1956 تداعت مجموعة من الشبان لتدارس الأوضاع التي تشهدها البلاد وما يحدث في المنطقة والعالم. وبعد جدل طويل ونقاشات ومشادات توصلوا الى ان المهمة الأساسية التي تجابه جميع العراقيين هو النضال من أجل تشكيل حكومة وطنية تناط بها مهام واضحة. وجاء في التقرير : " ان في مقدمة مهامها واكثرها الحاحا وضع حدا لعزلة العراق من شقيقاته الدول العربية , والسير على سياسة عربية وطنية تضمن للعراق شرف المساهمة في المحالفات العربية وفي المساعي النبيلة لتحقيق الوحدة العربية المنشودة ". ليس بين المهمات الملحة الراهنة لهذه الحكومة مهمة وطنية عراقية خاصة واحدة، بل جميعها مهام قومية تشمل العالم العربي.
والآن عزيزي القارئ حاول ان تقارن بين الفكر والموقف القومي الوارد في هذه الفقرة وبين الفكر والموقف القومي الذي ورد في التعليق الذي تركه السياب في الهامش المرفق مع " المومس العمياء "، ومعه جميع التعقيبات التي أشادت به. ان أية مقارنة موضوعية جادة ستبين ان تعليق السياب لم يكن أكثر من جعجعة في فنجان، أراد من خلاله أن يستفز مجموعة من الأدباء الشيوعيين ، الذين كان قد دخل معهم في خلافات شخصية بعد عودته من الكويت في 1953. وقد سبق للناقد د. احسان عباس قبل أكثر من أربعة عقود ان أشار الى حقيقة تجاهلها الجميع متعمدين، وهي ان التعليق لا علاقة له بنص القصيدة، بل أضافه السياب متعمدا نكاية ببعض الأدباء الشيوعيين الذين كانوا على خلاف معه.
ما من شك ان عدد غير قليل ( وخاصة الذين على أعينهم غشاوة مزمنة بسبب الجهل أو التعصب الأعمى ) سيصابون بالدهشة لو عرفوا ان تلك المجموعة من الشبان كانت تمثل مندوبي الشيوعيين الى الكونفرنس الوطني الثاني للحزب الشيوعي العراقي!!!.
تفضيل الفكر الاسلامي على الفكر القومي:
يفول العبيدي : " أسوق للقارئ هذه الفقرة المستلة من مقالة السيد عاكف التي يخاطب بها القاعود يقول فيها : " وليسمح لنا الدكتور ( يقصد القاعود ) أن نسأل. " والى آخر الفقرة التي أوردناها في البداية. ويحاول العبيدي بعد ذلك ان يستنتج من هذا الموقف الخاص الذي يتعلق بموقف المفكر الإسلامي المؤيد لتفضيل انسان على انسان آخر بسبب النسب أو القومية أو الدين ( وهو موقف يتعارض كليا مع التعاليم الإسلامية )، أقول يحاول من هذا الموقف الخاص ان يبني عليه استنتاج نظري عام يتعلق بالمحاولات التي تقوم بها بعض القوى اليساري العربية للتقرب من القوى الإسلامية، فيقول :
" يحاول المقال أن يؤسس لمقاربة بين الخطابين الماركسي و الإسلامي على اعتبار أن كلاهما خطابان أمميان يتخطيان القومية إلى ما هو ابعد من حدودها . و هذه الفقرة أعلاه تمثل نموذجا كليّ الوضوح للصيرورة التي آل اليها الفكر اليساري العربي المعاصر لدى بعض أوساط اليسار الساعين الى تخطي القومية ( العربية فقط طبعا ) إلى الإسلاموية بواسطة القول أن الخطاب القومي العربي إنما يتناقض مع الاسلام لأن العربي من الممكن ان يكون غير مسلم ".
هل هناك محاولات من هذا النوع بالفعل ؟ بصراحة لست أدري، وأعتقد ان هذا الأمر يهم السياسيين والمفكرين من قوى اليسار. ولكن بمقدار ما يتعلق الأمر بما ورد في مقالتي فأقولها صادقا باني بريء من هذه التهمة أيضا.
لو تذكرنا الملاحظة التي أكدت من خلالها اني سأحاجج القاعود باسلوبه واستند الى التعاليم الإسلامية التي يدعونا للتمسك بها ستتهافت كل الاستنتاجات التي استخلصها السيد العبيدي من الفقرة التي اعتمدها. ولكن علي ان أعترف بان استنتاجه النظري، المبني على مواقفي " الإسلامية "، المتعلق بمسعى الماركسيين لمزاوجة الماركسية مع الفكر الديني يكشف عن خيال بارع يحسد عليه ! لو حاول الكاتب ان ينسى للحظة ان من كتب تلك الفقرة التي بنى عليها استنتاجه ( وجدير بالذكر واستنتاجات في غاية الأهمية وردت في القسم الثاني من المقالة ) هو شخص آخر وليس الشخص الذي اسمه السيد عاكف، شخص ينتمي الى التيار الإسلامي ويتمسك بعالم " الجذور العربية الإسلامية "، ووقف أمام الشيخ الإسلامي الذي اسمه الإمام القاعود يحاججه بنفس المنطق وبنفس اللغة وبنفس التعاليم والجذور التي يروج لها. لو حاول القيام بذلك ربما سيجد ان ما ذكره عن محاولاتي لتأسيس " مقاربة بين الخطابين الماركسي و الإسلامي ". لا يوجد ما يبرره.












التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - ملاحظتان
عبد العظيم ( 2009 / 3 / 27 - 05:02 )
الأولى، كان على السيد عاكف أن يتمتع بجرأة أكثر ليشير إلى أن العبيدي بنى مقالة مصطنعة دفاعاً عن الإرتداد لأنه هو نفسه قد ارتد تحت حجج ليبرالية ولكل مرتدٍ حجه
الثانية، في تعليقي على مقالته تلك وصف إشارتي إلى تعاون السياب مع إحدى أذرع المخابرات الأميركية وهي مؤسسة راند (الثقافية) متخصصة في نشر كل ما يسيء للفكر الشيوعي، وصفها بالقسوة . أنا أعلم جيداً بأن مؤسسة راند هي من تكفل بتسديد حساب آخر فاتورتين في آخر مشفى للسياب قبل وفاته


2 - الارتداد
منير العبيدي ( 2009 / 3 / 27 - 07:44 )
بوسع السيد الفاضل عدنان عاكف أن لا يشغل باله بتعريف الإرتداد منذ الآن وصاعدا . لقد قدم لنا السيد المحترم عبد العظيم تعريفا وافيا للارتداد ضمنا : الارتداد إلى اللبرالية ، هذا التعريف للارتداد لم اكن اطمح الى ما هو اكثر دقة منه . فالمرء إذن يرتد من فكر الحزب الواحد إلى التعددية .
ليس الامر مصادفة فهناك من كتب انه لا يمؤمن باللبرالية . هذا صحيح تماما فعلى طريقة الاحزاب الاسلامية التي تقول: نؤمن باللبرالية كآلية و لا نؤمن بها كفلسفة أي : ندخل في الانتخابات فنفوز بها فنلغي الانتخابات او نجعلها مقتصرة فقط على الاسلاميين .
بالمناسبة سمعت من اناس يعيشون في برلين منذ اكثر من ربع قرن و ينعمون بنعمة الديمقراطية التي اسسها المرتدون من نعت الدكتور مهدي الحافظ بالارتداد .
لا اعتقد ان ماركس ، هذا الانساني الكبير ، قد طالب بأن لا نتطور و ان لا نتعامل مع كل ايجابيات الفكر الانساني بغض النظر عن مصدره و اعتقد انه سيصاب بخيبة امل مريرة لمن يعتبرون انفسهم اتباعه . التعليقات الداعمة هي افضل دلالة على محتوى الموضوع المكتوب .


3 - العبيدي المرتد
عبد العظيم ( 2009 / 3 / 27 - 10:30 )
يفاخر العبيدي بارتداده إلى الليبرالية . لسوء حظ العبيدي أنه ارتد إلى اليبرالية بعد أن ارتد الليبراليون عن الليبرالية ممثلين بزعيمهم فرانسيس فوكوياما . العبيدي يطالب الشيوعيين أثناء عبورهم الإشتراكي إلى الشيوعية أن يعملوا على تشكيل حزب آخر يعمل على الحؤول دون العبور إلى الشيوعية !! ما شاء الله !! ينصح العبيدي : ليقتدِ الشيوعيون بالرأسماليين الذين يسمحون بإقامة حزب شيوعي يعمل على تهديم النظام الرأسمالي . لما لا يصغي الشيوعيون للعبيدي، فهذا الرجل على علم بالماركسية ويأتي لهم بقدوة حسنة وهي الرأسماليون !!؟

اخر الافلام

.. دعوات دولية لحماس لإطلاق سراح الرهائن والحركة تشترط وقف الحر


.. بيان مشترك يدعو إلى الإفراج الفوري عن المحتجزين في قطاع غزة.




.. غزيون يبحثون عن الأمان والراحة على شاطئ دير البلح وسط الحرب


.. صحيفة إسرائيلية: اقتراح وقف إطلاق النار يستجيب لمطالب حماس ب




.. البنتاغون: بدأنا بناء رصيف بحري في غزة لتوفير المساعدات