الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سيكولوجية القطيع

رمضان متولي

2009 / 3 / 27
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان


مشاعر الخوف والطمع هي الحكم في سلوك الإنسان المغترب، فالإنسان الذي لا يستطيع فهم العالم ولا يملك القدرة على تغييره تختزل ذاته إلى تلك المشاعر البسيطة التي يشترك فيها مع كافة الحيوانات الأخرى حتى تحركه قدراته الخاصة فيما بعد لابتكار وسائل جديدة لمعالجة أزماته. يظهر هذا الاختزال للإنسان أكثر ما يظهر عند مواجهة الأزمات الكبرى، مثلما حدث مؤخرا في أسواق المال العالمية عندما انهارت مؤسسات مالية كبيرة فتحرك المستثمرون في هذه الأسواق بما يطلق عليه السماسرة "سيكولوجية القطيع"، ولعل هذه التسمية وحدها كفيلة بالبرهنة على هذا الاختزال المهين للإنسان عندما يجهل ما يدور حوله من أحداث أو يعجز عن السيطرة عليه وتغييره.

الإنسان البدائي واجه هذا المأزق أمام قوى الطبيعة عندما لم يستطع فهم ظواهرها المختلفة من زلازل وبراكين وعواصف وغيرها التي لم يكن يفهمها ولم يكن يستطيع السيطرة عليها أو تغييرها، وكانت استجابته مثل استجابة أي قطيع سيطرت عليه مشاعر الخوف والطمع، فابتكر آلهة عاقلة أو رحيمة – وأحيانا قاسية ومستبدة – من أجل التعايش مع هذه الظواهر المرعبة. البدائي لم يكن قادرا على اكتشاف "عقل" للطبيعة يخاطبه أو قانون تتحرك ظواهرها وفقا له، فلجأ إلى ابتكار الآلهة التي أنشأها على صورته ولكن بقدرات يحلم بها لنفسه – فكانت آلهة الزلازل والبراكين والعواصف، بل والحرب والحب والخير والشر وغيرها بالنسبة لهذا الإنسان ملاذا يتقرب إليها تجنبا لغضبها وأملا في رضاها وعطاياها.

الإنسان الحديث لم يتجاوز كثيرا هذه الحالة الحيوانية البسيطة رغم التقدم العلمي الكبير والإنجازات التقنية الهائلة. تراجع دور الآلهة فعلا في كثير من المجالات، وانحسر دور الأرواح الخيرة والشريرة التي كانت تستخدم في تفسير العديد من الظواهر، بعد أن فهم الإنسان أسباب البراكين والعواصف والزلازل، وبعد أن اكتشف الطب والتكنولوجيا العلاجية، وبعد أن أدرك بتجربة طويلة امتدت عدة قرون الأساليب العلمية والمادية التي يستطيع من خلالها تفسير العديد من الظواهر والسيطرة على بعضها. لكن هذا الدور لم ينته تماما حيث أننا مازلنا نجد بيننا من يفسر العواصف والأعاصير والزلازل والكوارث الأخرى بأنها انتقام إلهي لسبب أو آخر.

وكلما ازدادت أزمة المجتمع وازداد اغتراب الإنسان فيه، كلما انتشرت هذه التفسيرات التي تعكس هيمنة أكثر المشاعر بدائية وبعدا عن العقل والتفكير العلمي السليم. تستطيع أن تكتشف ذلك بسهولة إذا قرأت تعليقات القراء على الموضوعات المنشورة على المواقع الإلكترونية لمختلف الصحف. كثير من هذه التعليقات يعبر عن غضب شديد مثلا إزاء انتشار الفساد في مصر، لكن التعليق ينتهي – بعد وصلة التعبير عن الغضب وأن السيل قد بلغ الزبى – إلى دعوة الله للتدخل وإنقاذنا من الفساد والفاسدين والمفسدين. استدعاء الله من أجل حل مشكلة اجتماعية بشرية، يعكس شعورا طاغيا بالعجز عن تغيير الواقع المرفوض أو الخوف الشديد من خوض تجربة المواجهة، والطمع في أن تتدخل القوة الخارقة للطبيعة لمصلحة هذا الإنسان العاجز، أو الإنسان المختزل في "سيكلوجية القطيع".

نفس الأمر يتضح عند مناقشة القراء والكتاب لقضية مستقبل الرئاسة في مصر، العديد منهم يبحث ويفتش ويجتهد من أجل أن يجد شخصية ملائمة تخلف الرئيس مبارك في الحكم، ويراهن على هذه الشخصية في أن تحل جميع الأزمات وأن تواجه جميع المخاطر نيابة عنه، وبالتالي يضع شروطا وصفات لهذه الشخصية، أو هذه الشخصيات، يعتقد أنها لا تتوافر إلا فيها من ناحية، ويعتقد أن هذه الصفات والخصائص كفيلة بأن تجعل هذه الشخصيات قادرة على القيام بما لا يستطيع هو أو غيره من الناس القيام به.

اغتراب الإنسان المصري في هذه الفوضى الاجتماعية والسياسية والاقتصادية هو السبب وراء عدم الثقة في قدرته على مواجهة هذه الفوضى والبحث عن "مخلص". لكن النظرة البسيطة إلى واقع الأمور تكشف عن زيف الأسباب التي تساق عادة لتبرير هذا الشعور بالعجز وعدم الثقة – مثل أن الشعب المصري "جبان"، أو أنه شعب اعتاد على الاستبداد "كحتمية جغرافية" خاصة بالمجتمعات النهرية، إلى آخر هذه الخزعبلات التي تحاول أن تزعم استنادها إلى منهج علمي أو تارخي سليم. ففي عدد كبير من المواجهات الأخيرة التي خاضها العمال والموظفون احتجاجا على أوضاعهم المعيشية المزرية، استطاعوا أن يحققوا مكاسب عديدة قسرا دون أن يلجأوا أو يستندوا أو يحتموا بشخصية لها قدرات خاصة ودون أن يلتمسوا المساندة والدعم من كائنات خارقة. اكتشف هؤلاء أن القوة كامنة فيهم، وأنهم قادرون على تغيير الأوضاع التي يرفضونها في حدود ما طرحوا على أنفسهم مواجهته واستعدوا له بمنهج عقلاني سليم وإدارة ناجزة. هذا هو سبيلنا لتغيير أوضاعنا إلى الأفضل، وكل ما نحتاجه أن يكون الاستعداد على قدر المهمة.










التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. جامعة برشلونة تقطع علاقتها مع المؤسسات الإسرائيلية


.. البنتاغون: لا يوجد قرار نهائي بشأن شحنة الأسلحة الأمريكية ال




.. مستوطنون يهتفون فرحا بحريق محيط مبنى الأنروا بالقدس المحتلة


.. بايدن وإسرائيل.. خلاف ينعكس على الداخل الأميركي| #أميركا_الي




.. قصف إسرائيلي عنيف شرقي رفح واستمرار توغل الاحتلال في حي الزي