الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رسالة إلى عرفات

أوري أفنيري

2004 / 4 / 6
القضية الفلسطينية


حضرة الرئيس ياسر عرفات،
تحية وبعد

أكتب إليك هذه الأسطر للتعبير عن احتجاجي على التصريحات التي لا يمكنني عدم الرد عليها.

لقد نشر في الصحيفة الفلسطينية "جيروزاليم تايمز"، الصادرة في القدس الشرقية مقالا صغيرا بتاريخ 26 آذار، ورد فيه أنك شاهدت فيلم ميل جيبسون، "آلام يسوع" الذي أثار ضجة وخلافا. في أعقاب ذلك أدلى مستشارك ومساعدك، نبيل أبو ردينه، بتصريح بأن الفيلم "تاريخي ومثير للمشاعر". وقد أضاف أبو ردينه بأن "الفلسطينيين يتعرضون يوميا لأنواع التعذيب التي عانى منها يسوع عند صلبه".

لولا نشر هذه الأقوال في صحيفة فلسطينية لكنت سأشك بأنها اختراع من قبل آلية الدعاية التابعة لأرئيل شارون. لأنه لا يمكن أن تخطر ببالنا أي أقوال أخرى تلحق الضرر بالمسألة الفلسطينية أكثر من هذه الأقوال.

إني أكن لنبيل أبو ردينه احتراما كبيرا وأقدر ولاءه الكبير للمسألة الفلسطينية ولك شخصيا. لقد ظل إلى جانبك أيام الحصار المتواصل على المقاطعة أيضا، وهو مثلك يعرض حياته إلى الخطر يوميا هناك. غير أن هذه الأقوال كان يجر ألا تقال.

لم أشاهد الفيلم، ولن أشاهده. فأنا أمقت كل مشاهد العنف حتى وإن كانت من الأفلام، وهذا الفيلم مليء بالمشاهد العنيفة والقاسية، في حلة من عرض قصة العهد الجديد على الشاشة الكبيرة. من المؤكد أن هناك فرقا كبيرا بين قراءة الأحداث المكتوبة وبين رؤيتها على الشاشة، حين يتم تمثيل العنف والقسوة بتفاصيلها الدقيقة ويجري الدم كالمياه.

ولكن هذا ليس صُلب الموضوع.

كعربي مسلم لست ملزما بمعرفة النتائج الوخيمة التي نتجت عن وصف الصلب على حياة اليهود في أوروبا، خلال حوالي ألفي سنة من الملاحقة، المجازر والتعذيب، التعذيب الذي انتهجته محاكم التفتيش في إسبانيا، الطرد الجماعي، أعمال القتل الجماعية والفردية، وصولا إلى الكارثة التي راح ضحيتها ستة ملايين يهودي. كل هذه الأمور كان سببها، بشكل مباشر أو غير مباشر، هذا الوصف.

العهد الجديد مقدس لمن يؤمن به. غير أنه مثله مثل التوراة لدينا ليس كتاب تاريخ. فالحقيقة الدينية والحقيقة التاريخية لا تتشابهان. إن وصف الصلب في الأناجيل الأربعة كتب بعد عشرات السنين من الأحداث الواردة فيه، وقد كتب كتابها ما كتبوه متأثرين بالظروف التي سادت آن ذاك.

لنأخذ على سبيل المثال شخصية الحاكم الروماني بيلاطوس البنطي. فحسب التاريخ الروماني كان يظهر كحاكم بلا ضمير، مفسد وقاس. أما في العهد الجديد فهو يظهر كرجل إنساني، يكاد يكون فيلسوفا، وأنه لم يشأ صلب يسوع، غير أنه انصاع إلى اليهود. أما في فيلم ميل جيبسون، حسب ما قرأت، هو شخصية محبوبة جدا حيث أرغمه اليهود القبيحون – قبيحون من الناحية الجسدية أيضا – على التصرف بخلاف ما يملي عليه ضميره.

لماذا هذا الوصف؟ الأمر غاية في البساطة: منذ كتابة هذه الأحداث حاول المسيحيون إدخال الرومان في المسيحية. لذلك كان من المناسب لهم اتهام اليهود بصلب يسوع وتبرئة الرومان. خلافا للمنطق الذي كان سائدا في تلك الفترة. لقد كان اليهود آنذاك شعبا يقبع تحت الاحتلال كما هو الحال لدى الفلسطينيين اليوم والرومان كانوا هم المحتلون. كان الصلب عقابا رومانيا معمولا به، وهو نوع من "التصفية الموجهة" في تلك الأيام (ولكن بعد إجراء محاكمة).

لقد كانت كراهية اليهود تملأ قلوب كاتبي الأناجيل. ولم يكن هذا أيضا مفاجئا، فقد كانوا يهودا بأنفسهم كما كان يسوع، وكل من يحيط به. غير أنهم كانوا ينتمون إلى فئة منشقة رأت فيها المؤسسات اليهودية في أورشليم بالأساس مجموعة من الكفار. لقد تمت ملاحقة اليهود-المسيحيين حتى النهاية. وكما يحدث في أي نزاع بين الأخوة، فقد غمس ذلك الكراهية في قلوب الطرف الملاحَق. هذه هي الكراهية التي تعلو من وصف الصلب.

حسب إنجيل متى (الإصحاح 27): "فعاد يسأل: "فماذا أفعل بيسوع الذي يدعى المسيح؟" أجابوا جميعا: "ليصلب!" فسأل الحاكم: "وأي شر فعل؟" فازدادوا صراخا: "ليصلب!" فلما رأى بيلاطوس أنه لا فائدة وأن فئة تكاد تنشب بالأخرى، أخذ ماء وغسل يديه أمام الجمع وقال: "أنا بريء من دم هذا البار فانظروا أنتم بالأمر!" فأجاب الشعب بأجمعه: "ليكن دمه علينا وعلى أولادنا!"."

من الواضح أن هذا الوصف ليس وصفا تاريخيا. شعب بأكمله أو جمع غفير لا يتكلم وكأنه شخص واحد. عبارة "دمه على أولادنا" هو نص غير معقول يأتي لتبرير الانتقام بالأولاد وبأولاد الأولاد. وبالفعل فقد ارتكز العديد من المحرضين اللا ساميين على هذه الكلمات لتبرير الأعمال البشعة التي نفذت تجاه "قتلة الله".

أدولف هتلر لم يكن مسيحيا متطرفا. بل على العكس، فقد حاول بعض مقربيه إرجاع ألمانيا إلى عبادة الأوثان. غير أن هتلر ومنفذي الكارثة كانوا قد تعلموا الإنجيل في المدارس ولا يمكن أن نعرف إلى أي مدى تم غرس وصف الصلب في عقلهم الباطني. مما أتاح لأبسط المتطرفين تقبل الكارثة أو المشاركة فيها.

لا أحاول هنا إلقاء التهمة الجماعية على العالم المسيحي على اختلاف أجياله، لا سمح الله، فكثيرون من كبار محبي الإنسانية كانوا مسيحيين على اختلاف الأجيال وكان من بينهم مسيحيون متعصبون جدا. لم يكن منفذو الكارثة وحدهم من المسيحيين بل إن المحسنين من أمم العالم، من مختلف الشعوب هم مسيحيون أيضا. لقد أوت العديد من الأديرة اليهود الملاحقون ونجتهم من الموت.

لقد بشر يسوع بالمحبة ويصفه الإنجيل كإنسان محبوب جدا، بار، متسامح ورحوم. من المروِّع أن يتم تنفيذ أعمال بشعة كثيرة على مر التاريخ باسم هذا الرجل.

أنت، سيدي الرئيس، كعربي وكمسلم فخور بأنه خلال ألف سنة وأكثر، كان العالم الإسلامي مثالا للتسامح، تجاه اليهود وتجاه المسيحيين. لم يشهد العالم الإسلامي أعمال طرد ومجازر من النوع الذي كان بمثابة ظاهرة دائمة في العالم المسيحي، عاداك عن الكارثة.

إن روابط الدم بين المسلمين واليهود تمتد كخيط دقيق عبر التاريخ. أحد أكثر الفصول سوادا في تاريخ هذه البلاد، المحببة على قلبينا، هو قصة الحروب الصليبية. فقد نفذ الصليبيون في طريقهم إلى البلاد مجازر جماعية ضد يهود ألمانيا. حين اقتحموا أسوار القدس قتلوا كل سكان المدينة، نساء ورجالا، شيوخا وأطفالا. وقد روى أحدهم متفاخرا بأن الدم قد وصل إلى الركبتين. كان هذا دم المسلمين واليهود، الذين ذبحوا معا واختلطت صلواتهم الأخيرة في طريقها نحو السماء.

بعد احتلال الصليبيين للقدس كانت حيفا ما زالت صامدة. أغلبية سكانها كانوا من اليهود الذين حاربوا إلى جانب الجيش المصري. لقد زودهم المسلمون بالسلاح، وحسب ما كتبه مؤرخ مسيحي، فقد حاربوا بضراوة. بعد سقوط المدينة ذبح الصليبيون اليهود والمسلمين الذي بقيوا في المدينة، حتى آخر شخص منهم.

بعد أربعة مائة سنة، حين أنهى المسيحيون الاحتلال الإسلامي لإسبانيا، طرد اليهود والمسلمين معا. بعد "العصر الذهبي"، والتكافل الثقافي المثير بين المسلمين واليهود، تقاسم مئات آلاف المطرودين، من الديانتين، معاناتهم أيضا. أغلبية اليهود المطرودين استوعبوا، بمحض إرادتهم، في بلاد إسلامية وفي بلاد يحكمها الإسلام.

على النزاع الحالي المرير بين شعبينا، بكل أشكاله العنيفة، ألا ينسينا التاريخ الطويل الذي سبقه، لأنه هو الأساس لمستقبلنا المشترك.

إن المعاناة التي يعانيها الشعب الفلسطيني الآن، والتي نعارضها كإسرائيليين وكيهود بكل جوارحنا لا تمت بصلة إلى ما حدث – أو لم يحدث – في أورشليم قبل 1973 سنة.

إذا كانت هناك أي علاقة أصلا، فهي علاقة معكوسة. فلولا اللا سامية المسيحية المعاصرة لما نشأت الحركة الصهيونية أصلا. وكما ذكرت أكثر من مرة: فقد كان مؤسس الحركة الصهيونية، بنيامين زيئيف هرتسل، قد قال بأن إقامة دولة يهودية هي الطريق الوحيدة لإنقاذ يهود أوروبا. اللا سامية هي التي دفعت - وما زالت تدفع اليهود إلى بلاد إسرائيل.

لولا اللا ساميين لبقيت الرؤيا الصهيونية مجرد رؤيا فارغة من المضمون. ابتداء بمجزرة كيشنيف مرورا بالكارثة وانتهاء باللا سامية في روسيا التي دفعت بمليون يهودي للقدوم إلى إسرائيل مؤخرا - لقد كانت اللا سامية وما زالت أخطر عدو للشعب الفلسطيني، فهناك حقيقة في أقوال الفلسطينيين الذين يقولون بأنهم "ضحايا الضحايا".

إضافة إلى كل التعليلات الأخلاقية، فإن هذا تعليل ضد مقولة يمكن أن يفسرها الا ساميون على أنها أقوال مؤيدة.

عند حلول السلام سنكون في القدس معا يهودا، مسيحيين ومسلمين. أنا أعلم بأنك تحلم بذلك، وكذلك أنا. آمل بأن يتسنى لكلينا رؤية ذلك بأم أعيننا.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. احتجاجات في جامعات عراقية للمطالبة بوقف الحرب في غزة


.. مشاهد من لحظة وصول الرئيس الصيني شي جينبينغ إلى قصر الإليزيه




.. فيضانات وسيول مدمّرة تضرب البرازيل • فرانس 24 / FRANCE 24


.. طبول المعركة تُقرع في رفح.. الجيش الإسرائيلي يُجلي السكان من




.. كيف تبدو زيارة وليام بيرنزهذه المرة إلى تل أبيب في ظل الضغوط