الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


فرنشيسكا وودمان .. امتدادات الدادائية وظل الموت المراهق

يوسف ليمود

2009 / 3 / 30
الادب والفن


من فراغ الأزرق إلى رمادي الظل، ومن اسطورة الموت المبكر إلى عبثية السكون في الانتحار البكر، نصطدم بفداحة الجمال الباهظ الثمن، المعشعش في الجدران غير المرئية بين الجلد الأنثوي الموهوب للنعمة، للموهبة، للرؤى، وبين صدأ الواقع المحيط، بالأحرى صدأ الفراغ. ما المقابل الذي ينعم به الفنان إزاء ما تفرزه تقلصات كيانه الشبيه بآلة الهارب تهز أوتارها نسمه عابرة، من جمال؟ هل نشوة لحظة الخلق هي كل حصيلته؟ وهل سيزيد أو يقلل من إشعاعات ترابه كمّ الأساطير التي تروى عنه ويتوالد منها المزيد من الأساطير، بعدما يطلق على صدغه الرصاصة أو يقفز من النافذة في لحظة من عدم احتمال؟ لا شك أن حياة فنانة بازغة، انتهت قبل أن تبدأ، مخلفةً منجزا جماليا مبهرا، أو على الأقل منجزا لا يستهان به، تضفي عليها المأساة هالة تزيد في جمالية المنجز. لكن، أمام فوتوغرافيا فرانشيسكا وودمان، هذه الفتنة الفنية التي قذفت بنفسها من نافذة بناية عالية في نيويورك وهي في الثالثة والعشرين لم تزل، تطغى أسطورة الصورة على أسطورية حياتها ونهايتها المحزنة الأليمة.

هناك أعمال فنية تنبع جماليتها أساسا من طزاجة حسٍ لا ينتمي لعالم الكبار. عالم لا هو طفولي ولا هو ناضج. عدم نضجه شرطه. انسحابيته وجنوحه إلى الخيال محركه. دخوله بين القشور المتآكلة ومناجاته شرانقَ التحلل الخفيةَ أجنحتُه للتحليق في بؤرات جمال مستتر يزيح الستائر عما هو لا مرئي إلى صورة، رؤيا، عري، خوف، ظل، أبيض، بقعة، سواد، ألم، اختفاء، رغبة... ونبوءة موت. تنبع أعمال فرشيسكا وودمان من هذه الحس الفتِيّ غير الناضج، بل تطفح به. في عملها ركض، كأن منجلا خفيا يلاحق خطواتها فتعدو في اللقطات ذات الأنفاس المتلاحقة. تعدو من تركيب إلى تركيب. تعيد ترتيب المفردات الفقيرة حولها: من غرفة خالية إلى فراغ باب إلى مرآة إلى وشاح طائر إلى انعكاسات نهار على حائط متهرئ. تعدو بجسدها وسط كل هذه المفردات. تعدو وعلائم الموت تطفر من مسام الجلد. وفي عدوها يتداخل جسدها مع أجساد الأشياء المختارة للصورة. يصبح عريها جزءا من نسيج الحائط. تصبح كتلتها ظلا بين الوجود والتلاشي. يصبح شعرها المتدلي من زاوية الصورة على الرصيف مرآة لأزهار القرنفل الذابلة جوار الرأس الذي يجرب الارتطام بالأرض. يصبح ثعبان السمك الدائر في الصحن رمزا لأحشاء العري الفادح. تصبح القوقعة صدرها المفتوح. تصبح ساقاها المطبوعتان على الطين سرا في أذن الأرض. تصبح نفسُها أوفيليا عصرية يسبح موتها على الأرض الصلبة القاسية.

لا شك أن فراشيسكا وودمان تنتمي إلى طائفة الرائين، ورغم أن سمة الرائي الأساسية، بعد الحدس، هي الخيال، والخيال بطبيعته يجنح إلى الأبعد، أي أن جسد الرائي غالبا لا يكون في الحسبان، إلا أن رؤيوية هذه الفنانة الصغيرة ملتصقة بالجسد. بجسدها تحديدا. يأخذ جسدها في الصورة شيئا من طبيعة المفردات المجاورة له في اللقطة: أمام النهدين شمامة مفلوقة إلى نصفين يتدلى البذر منهما وكأن تجويفهما الملبّد بشراسة منظر الأحشاء البذرية هما القالبان السالبان لموجب النهدين. وحزام اللؤلؤ حول البطن يجد تنويعا على لحنه في جوقة زخارف المفرش القطنية. وظهر البنت العاري يغطيه مشط كامل لهيكل عظمي لسمكة، وانعكاس جسد الفتاة في الزجاج تهبه الظلال والزهور أذرعا وأصابعَ تكمل، في خداع بصري، ما توارى من أطراف الجسد، وكتلة العري الأبيض الحزين في الشمس تجد صداها في زنبقة بيضاء كبيرة هي التوأم النباتي لجسد الأنوثة. الأبيض الأبيض ودائما الأبيض، في كل الصور رغم زادها السوداوي. الستارة التي يطيّرها الهواء في الفراغ أبيض. أطر الأبواب المفرغة عن خواء مخيف أبيض. الثوب المنزاح عن الجسد الأبيض أبيض. المرايا الغارقة في بياضها لا تعكس إلا الأبيض. اللوح الذي يتدلى منه العري المصلوب أبيض. شاهد القبر الحجري يمرق فيه غبش اللحم البشري أبيض. سيقولون الأبيض براءة... إلى آخره، لكن الأبيض، وتحديدا هنا، يتشبث بنفسه فقط كأبيض.

رغم تأثر فرانشيسكا وودمان، في بعض أعمالها، بالفنان الأمريكي - الفرنسي المعروف مان راي، ظلت محتفظة بروحها الخاصة في تلك النماذج المعدودة. غير أن ما يثير الانتباه هو ذلك الحس الدادائي في صورها. فرغم أنها ولدت في سنة 1958، أي بعد أكثر من ثلاثة عقود من تاريخ الحركة الشهيرة، يشعر المرء بميل حدسي لتصورها إلي جانب أصحاب الدادائية الأصليين. العبثية الخاصة التي حكمت منطقها الفني هي نفسها العبثية التي حكمت عليها كقدر ومصير. نتبين دائما شرخا ما في كل مناظرها. في كل أجساد مناظرها. كأن جسدَها شرخ داخل شرخ الصورة.

كل مفردات صورتها، والجسد واحدها، تتجمع كعصير من معاني متداخلة. فكرة التداخل نفسها أحد عناصر هذا العصير. لن يفيد الصورة إن قلنا الوحدة أو الشبق أو الموت أو عددنا معاني أخرى. إنها الرؤيا، الفنية، المركبة، المدفوعة بقوة طردها المركزي. المطارَدة ببكارة شعورها بالمأساة، المستغرقة في عتمة جسد يعرف أنه الأكثر ضوءا، الأكثر إشعاعا، الأكثر بياضا من باقي الأجساد. هل كان حتميا أن ترمي نفسها من نافذة في بناية عالية في قلب مانهاتن سنة 1981 دون أن تكمل الثالثة والعشرين كي لا تسجل آخر صورة لجسدها على الأرض؟!

يوسف ليمود
يتبع: كيكي سميث .. الجسد بين الهنا والهنا
رابط لمادة سابقة ذات صلة:
http://www.doroob.com/?p=34806








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مت فى 10 أيام.. قصة زواج الفنان أحمد عبد الوهاب من ابنة صبحى


.. الفنانة ميار الببلاوي تنهار خلال بث مباشر بعد اتهامات داعية




.. كلمة -وقفة-.. زلة لسان جديدة لبايدن على المسرح


.. شارك فى فيلم عن الفروسية فى مصر حكايات الفارس أحمد السقا 1




.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا