الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


القدس وذاكرة المكان

هيفاء اسعد

2009 / 4 / 4
القضية الفلسطينية


ما بين الحصارات، بسكانها والأماكن، تعيش المدينة المقدسة منذ العام 1967. فمن حصار الجدار وما يفرضه من عزلة للمدينة المقدسة عن التواصل ليس فقط، مع المناطق الفلسطينية الأخرى في الضفة والقطاع، وإنما عن فلسطيني الشتات وعن الزائرين من العالم العربي والعالم اجمع. والى تدمير السوق بملاحقة الضرائب وخنق عائلات القدس بالدخل المحدود ومتطلبات حياة باهظة. ومن مستوطنات، تضيق القدس على ساكنيها حتى للتنفس، بضيق التفافها حول المدينة ملتهمة غالبية اراضيها، الى الحصار الذي يفرض إفقارا للمشهد الثقافي بما يقع عليه من تدمير وتضييق وإغلاق وملاحقة لكل منابره الثقافية الوطنية. مذ ذاك تعايش القدس سياسات إسرائيلية ممنهجة ومنظمة ومستعرة تسعى، ولم تزل، إلى تثبيت قرار إحادي بضم القدس وتغيير طابعها العربي والإسلامي والقضاء على أفق عودتها إلى الضفة الغربية ضمن أي حل سياسي. تلك السياسات والإجراءات التي لم تستهدف الأرض والمباني والشوارع والوجه الثقافي العربي الأصيل والمميز وحسب، بل طال أيضاً الإنسان والمؤسسات بأنواعها وكل ما له علاقة بملامح ومكونات الهوية الوطنية للمدينة بابعادها المختلفة. فكما تنبش في باطن الأرض مخلخلة المرتكزات تحت المدينة العتيقة بمبانيها التاريخية متذرعة بالبحث عن اثار دولتها العتيدة، فإن اسرائيل تعمل بشكل مبرمج ومخطط على تدمير كل ما يمكن ان يدل على الهوية العربية الإسلامية التاريخية لتلك المدينة. فها هي تغلق المؤسسات والمراكز، ثقافية كانت او غير ثقافية. ومن لم تنجح في هدمه من المباني والبيوت، القديمة منها والجديدة، تتركها ليرحل عنها سكانها خوفا من انهيارها فوق رؤوسهم وهم الغير قادرين على ترميمها ان كانوا مالكين او مستأجرين. وهي تعمل جاهدة وبشتى الوسائل على مسخ الهوية الثقافية للمواطن المقدسي، وخاصة الشباب منهم، الى هوية محايدة بعيدا عن الهوية الفلسطينية العربية، عبر سيطرتها على المدارس والمؤسسات الإجتماعية والخدمات، وعبر هلهلة صموده في المدينة او في العمل او حتى الى اطار فكري ثقافي يحافظ على انتماءه ويعزز ارتباطه بالوطن والقضية، وذلك بما تفرضه من حصار وملاحقة لكل خطوة من خطوات يومياته.
فالقدس التي تبقى رابضة منذ سنوات طويلة في عرين الإحتلال، وتظل تعيش المعاناة الفلسطينية بكامل اشكالها في ظل ما ’نفذ، وما زال ينفذ، وعلى جميع المستويات من مشروع صهيوني وضع لترويض المدينة بمجتمعها المقدسي والذي إن كان يحمل في ظاهره التهويد، ولكنه الى جانب ذلك يستهدف الأسرلة للمدينة بتاريخها وواقعها وخطابها هوية وسكانا ومؤسسات.
في وسط ذلك كله، شاهدنا المشهد الثقافي المقدسي بهويته الفلسطينية العربية، وبتاريخه الإسلامي المسيحي، يغادر القدس عبر الأيام والسنوات والعقود. مخلفا في القدس حارات ومراكز ثقافية ومؤسسات سياسية واخرى مجتمعية ومسارح ودور سينما ومتاحف ونوادي عريقة وفنادق ومواقع تاريخية سياحية، كل ذلك يترك في القدس صمودا يلهث ملاحقا من مكان الى مكان، يحاول مرهقا الهروب من احتلال لم يفتأ يتربص به وبعناوينه الإنسان والشارع والبيت. ذلك الصمود الذي يقاوم التنازل واليأس، ويحملنا من شارع الى شارع في البلدة العتيقة، يطمئنا على "القيامة" في حارة النصارى وعلى "اقصى" الإسراء والمعراج بمسار درب الآلام. تلك الحارات والأسواق والأماكن الدينية والمؤسسات والمراكز الفنية والثقافية والتي كانت الى وقت ليس ببعيد، الى ما قبل الإنتفاضة الأخيرة، تعايش مجدا من النشاط الثقافي السياسي، ومن سياحة زاخرة من اجانب يزورون المدينة القديمة تمتعا، او لربما للتضامن والتطوع.
كانت القدس ملتقى وطني ثقافي على مدار العام لأبناء فلسطين الذين كانوا يقصدونها من مدن الضفة الغربية وغزة وحتى فلسطين ال48 ومن الخارج ما تسنى لهم ذلك. في ساعات النهار تعج الشوارع بالأجيال ما بين النشاط التجاري والسياسي والثقافي، وفي الليل تمتلء المسارح والقاعات ودور السينما والمطاعم والمقاهي والفنادق بحلقات النقاش والتبادل الثقافي وسمر الليالي وانزوائات العشاق هنا وهناك.
على سورها العظيم كان المشوار يطول، وفي الحكواتي والقصبة لقاءات ونقاشات ومسرح وسينما وعروض لفنون تبدأ بالرسم ولا تنتهي بالغناء ولا الموسيقي. في شارع صلاح الدين سهر الرفاق والأخوة في صحف ومجلات فلسطينية لمقالات كان لها طعم اخر، صحف ومجلات "الفجر" و"الطليعة" و"البيادر السياسي" و"الشعب" و"الكاتب" ووووووووووووو، كلهم كلنا كنا هناك، صحفيين وموزعين وقراء ودور نشر وكتْاب ناشئين وعتاتلة، كلنا نشهد على ذلك الزمان.
نادي الموظفين بعجقة الشباب، وفندق القدس ومطاعم حارة الأرمن بالصفيحة الرقيقة. وفي ساحة المصرارة، بضع خطوات من باب العمود، وفي داخل المدينة العتيقة كان كعك القدس بالسمسم والرائحة والمذاق المميز في انتظار الزوار، في ساعات ما بعد منتصف الليل، من الشباب والصبايا طلاب الجامعات الفلسطينين من بيرزيت ونابلس وغزة او حتى من مدن فلسطين التاريخية الذين كانوا يقصدون القدس ليصلوها مع الفجر، او ما قبل الفجر، بقليل ليكون الكعك والزعتر والبيض المشوي فطورهم المقدسي الذي لا ينسى.
كل ذلك عشناه في القدس وهو حق لذاكرة عريقة لمدينة كان لها مجد في قيادة مقاومة ووعي سياسي وفي تطوير هوية ثقافية وسياسية وفي مسيرة فلسطين. نحن ابناء جيل عشنا تلك الذكريات ولا زالت تقبع في زوايا حنيننا اليها صور لمشهد ثقافي وطني كانت تزخر به القدس بالمكان والمؤسسة والإنسان.
تلك المدينة المقدسة، مدينتنا نحن الذين عايشنا قليلا من عزها ومن مجدها في العشرين سنة ما قبل اوسلوا. تلك المدينة بملامحها وامكانها وعراقة ذاكرتها، التي لا ابنائنا نحن الفلسطينين اينما وجدنا ولا ابناء الأمة العربية، بقادرين على تخيل، ولو قليلا عن اي قدس نتحدث.
جعبة جيل بكامله مليئة بذكريات عن القدس التي اٌريد لها ان تكون عاصمة للثقافة العربية، ثقافة المقاومة والصمود. صفحات ادباء وشعراء لا زالت تمتلء بذكريات عن مدينة لا زالت تقاوم ولو بالبيت والحارة. حناجر مغنيين وفراشي رسامين واعواد عازفين لا زالت تربض في المدينة مصرة على ان لا تنسى الأجيال اللغة العربية والإنتماء. رجال هرمت وهي تجالس الإنتظار في سوق العطارين وحارة السعدية وباب الزاهرة والباب الجديد وباب العمود وفي باب الخليل و....و....و....وما تبقى من اسواق استطاعوا ان يحموها من زحف التهويد في داخل الأسوار للبلدة القديمة. بيوت عتيقة، انهارت او معاندةً تقاوم الإنهيار، تحمل قصصا وحكايات عن الذي في الذاكرة وعن الذي من الممكن ان يعود. نشطاء ومسؤولي مؤسسات وخبراء عمارة وخبراء نضال طويل، عملوا في سنوات الذكريات ولا زالوا يصمدون ويصدقون ان شيئا من القدس من الممكن ان يكون، اذا اردنا ان يكون. فهل نحن نتحدث عن نفس الثقافة للقدس، ثقافة الصمود والمقاومة؟ وهل تستوعب عاصمة الثقافة العربية رؤيا القدس بذاكرة وصمود ومقاومة سكانها واماكنها، ام اننا نتحدث عن عاصمة لثقافة عربية اخرى؟!!!!









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الكونغرس الأمريكي يقر مشروع قانون مساعدات لإسرائيل وأوكرانيا


.. لازاريني: آمل أن تحصل المجموعة الأخيرة من المانحين على الثقة




.. المبعوث الأمريكي للقضايا الإنسانية في الشرق الأوسط: على إسرا


.. آرسنال يطارد لقب الدوري الإنجليزي الممتاز الذي غاب عن خزائنه




.. استمرار أعمال الإنقاذ والإجلاء في -غوانغدونغ- الصينية