الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


“ليه يا بنفسج ب تبهج وإنت زهر حزين”

لطيفة الشعلان

2009 / 4 / 3
اخر الاخبار, المقالات والبيانات


تذكرت المثقفة اليسارية المصرية أروى صالح بينما كنت أشاهد حلقة يوم الأحد الفائت من السلسلة الوثائقية (لغز رحيل السندريلا) الذي تعرضه قناة “إل بي سي” مرتين في الأسبوع عن مصرع سعاد حسني، فما أن انتهت الحلقة التي عُرض فيها جثمان سعاد بعد سقوطه على الأرض وهي مرتدية ثوب أسود واسع، حتى قمت أفتش في مكتبتي الفوضوية عن كتاب أروى صالح (المبتسرون: دفاتر واحدة من جيل الحركة الطلابية). أما الذي جمع الاثنتين، سعاد وأروى، في رأسي، وفي لحظة زمنية واحدة، فقطعا لم يكن الانتماء وحسب إلى فصيل انساني نادر يُبهج وهو حزين، إنما طريقة الانتحار أيضا، حتى ليمكن أن تتبادلا شعر سعدني السلاموني من دون أن يتضح من كانت المخصوصة منهما، وهي أروى صالح : “ياشقيه جسمك ذنبه إيه ترميه كده .. اشمعنا الموتة دي بالذات .. كان عندك للموت ثلاثين سكه وسكه .. باقي دور واحد بس وجسمك يوصل للأرض ويتفرتك ميت حته”. لكن سمير صبري على أي حال لن يأت في حلقاته بجديد، فيبدو كما لو أن المصريين جميعهم قد حسموا أمر سعاد، فكل من يلتقيه سيؤكد له رواية القتل مسفها نتائج التحقيقيات البريطانية التي خلصت إلى أن الحادث كان انتحارا. وهذا الانكار له جذوره الفكرية والعاطفية: فمن ناحية، للمسلم عقيدة واضحة فيما يتعلق بالجزاء الأخروي الذي يلقاه المنتحر، ومن ناحية أخرى هناك الرفض لفكرة أن من نحبه كان ضعيفا مسلوب الارادة، وعلى مستوى الضمير الفردي والجماعي لا أحد يحبذ فكرة الشعور بالذنب: أين كنّا وعزيزنا يفكر في الانتحار أو يخطط له؟!
أما حين تتوافر البراهين التي تجعل من الانتحار واقعة لامفر من الاقرار بها، فسيميل العقل إلى إسباغ المعاني السياسية أو الفلسفية عليه لإعطائه شكلا من المهابة المتناسبة مع شخص المنتحر أو مكانته الاعتبارية، بشكل يُهمش فرضية الضعف الانساني، أو عذاب الحب، أو الصحة المعتلة، أو احباطات الحياة عموما، وهو الضعف الذي (لايليق بكل أحد).
لن نعدم الأمثلة، هناك تيسير سبول ثم خليل حاوي ثم أروى صالح ولكل منهم قصته. عيسى الناعوري يكشف في رسالة لأسامة فوزي مؤرخة في 20 مايو 1976 سبب انتحار تيسير سبول: ” تيسير انتحر بسبب الآلآم الرهيبة التي كان يعانيها من وجع عينيه ورافقت حياته كلها، ولم تنفع بها علاجات الأطباء، وانتهت به إلى بداية عمى، بحيث لم يعد يرى على مسافة عشرة أمتار. هذه الآلآم كانت أقوى من احتماله، ولاسيما بعد أن أعلن له الأطباء عجزهم عن شفائه ويأسهم من بقاء بصره، هذه الحقيقة عرفتها حين زاملته في مؤتمر الأدباء في بغداد 1969، وأي تفسير فلسفي أو شعري أو عقائدي آخر هو ضرب من العبث والهذيان “.
أسبغ البعض أيضا على انتحار تيسير سبول ما أسبغه المثقفون على انتحار خليل حاوي، أي الاحتجاج على الهزائم والنكسات العربية. لكن ديزي الأمير وهي الأخبر قالت في إشارة إلى نفسه المضطربة: “خليل إذا ظن شيئا صار يقينا يستحيل تغييره”. فمع العصابية يصبح الانتحار خيارا مُفكرا فيه كأي خيار آخر، أو أن غريزة الموت تنبعث من بواطن اللاشعور كحل للأزمة التي يختبرها الشعور. أضف لذلك أن المثقف أو من كان يظن نفسه عقلانيا قد ينصدم بلا عقلانيته أمام اختبارات الحياة. ربما لن يفهم أبدا من يتشبث بفرضية انتحار حاوي احتجاجا على الاجتياح الاسرائيلي أنه مامن ألم أشرف من ألم، إنما هناك ألم أقوى من ألم. الألم المتأتي من هجران حبيب، أو من قصة حب فاشلة، سيكون أكثر فتكا بذات الفرد من الآلام ذات الصيت العظيم في المخيال القومي كالألم الذي يتبع نكسات العربان ووكساتهم. بندقية الصيد كانت خيار خليل حاوي الذي اختبر المعاناة مع ديزي الأمير، لكن هناك من سيكون خياره غير مكلف.. ماذا عن التهام الأطعمة التي لها صفة التبريد كالبطيخ واللبن لإفراغ المرّة السوداء، أو تسليط إحدى العجائز على العاشق حتى ينقل هواه إلى غير المعشوق !
لو فعلت أروى صالح اليسارية خربطات الأعراب هذه فلجأت إلى البطيخ، أكانت بحاجة إلى نشر غسيل مثقفي اليسار حين قالت: “الفتاة التي تواعد مثقفا على اللقاء لا تمني نفسها بنزهة فاخرة‏، أو حتى غير فاخرة‏، وإنما تتوجه إلى مقهى كئيب يشتري لها فيه فتاها المثقف كوبا من الشاي المغلي المر‏،‏ ويبيعها أحلاما تقدمية لا تكلفه سوي أرخص بضاعته‏:‏ الكلام‏ .. يتكلم عن العدالة وزيف قيم المجتمع وأشياء أخرى كثيرة‏، ولكن أهمها‏ بل الهدف الأصلي منها هو الحب الحر الذي لا يحتاج أموالا لممارسته ولا مسؤوليات من أي نوع‏”‏.
المعنى أن لك أن تقرأ انتحار أروى بالقفز من الدور الثاني عشر بقراءة تجربة جيل الحركة الطلابية اليسارية في مصر السبعينات. ستجد طروحات كبيرة وملهمة عن تأثير اخفاقات اليسار وتكسر أحلام جيل الناصرية، لكن في النهاية أنت ملزم بقراءة تجربة أروى المرأة وهي تقول: “يسلك المثقف في علاقته بالمرأة كبرجوازي كبير أي كداعر، ويشعر ويفكر تجاهها كبرجوازي صغير محافظ مفرط في المحافظة”.
مفيد فوزي في برنامج القناة اللبنانية يذكر أن عبدالحليم أبكى سعاد حين قال لها: فني أهم من قلبي. المثقف العاشق عنده دائما ما هو أهم من حبيبته: الفن عند عبدالحليم كان له موازيه البوهيمي عند شباب اليسار الذين كانوا يريدون حبا متحررا لكن بلا تبعات ولا مسؤولية فأكلت منهم أروى صالح (أونطة). صديقها محمود الورداني يقول عنها : “أروى كانت إنسانا حاول أن يحرر روحه ودفعت حياتها ثمنا لهذه المحاولة‏،‏ لكن يجب أن نعترف بأنها كانت مريضة بالاكتئاب‏”. يجب أن نعترف أيضا أن سعاد كانت مريضة بالاكتئاب الذي عمّقه وهم إمكانية استعادة جسد استثنائي لم تعد تملكه. وحاوي أيضا كان مريضا بالاكتئاب. احباط الخارج يتقاطع مع كآبة الداخل. المثقف لن تأخذه الانهيارات السياسية إلى الانتحار كما تأخذ من كان في موقع المساءلة إلا إذا وجدت فيه نفسا معذبة من الجراح ومكابدة الأوجاع الذاتية .. فانتحار هؤلاء لم ينبت فجأة كرسالة سياسية أو عقائدية، بل أنضجته على مهل الصدمات الشخصية والمزاج السوداوي.









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. شبح -الحي الميت- السنوار يخيم على قراءة الإعلام الإسرائيلي ل


.. الحركة الطلابية في الجامعات : هل توجد أطراف توظف الاحتجاجات




.. جنود ماكرون أو طائرات ال F16 .. من يصل أولاً إلى أوكرانيا؟؟


.. القناة 12الإسرائيلية: إسرائيل استخدمت قطر لتعمّق الانقسام ال




.. التنين الصيني يفرد جناحيه بوجه أميركا.. وأوروبا تائهة! | #ال