الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الراديكالية الشيوعية والبعثية العراقية وانقلاب القيم!

ميثم الجنابي
(Maythem Al-janabi)

2009 / 4 / 4
مواضيع وابحاث سياسية


أدت ظاهرة انتشار وسيادة الراديكالية السياسية في العراق الحديث إلى جعلها إحدى اخطر الظواهر الاجتماعية والثقافية بالنسبة لوجود وآفاق تطور البدائل فيه. ولعل أهم نتائجها الخطرة الحالية تقوم في صعود واستفحال الحركات الراديكالية الإسلامية المتطرفة (الأصولية). إذ لم تكن هذه الحركات سوى الاستظهار المقلوب لزمن الراديكالية الطبقية والقومية الدنيوية الفارغ، أي لزمن السيادة شبه المطلقة للراديكالية الدنيوية (العلمانية) الشيوعية والبعثية. بمعنى إن الراديكالية التي استطاعت إفراغ التاريخ المعاصر للعراق من خلال تهشيم المشاريع الواقعية لبناء الدولة والمجتمع المدني والثقافة العقلانية أدت إلى إنتاج «بديلها» في الراديكالية الإسلامية. إذ تكشف التجارب التاريخية للعراق عن حقيقة تقول، بأنه كلما كانت الراديكالية المتسلطة همجية كلما أصبحت الراديكالية المناوئة لها اشد همجية منها.
ويقف العراق الآن أمام حالة استفحال نماذج من الراديكالية لا تقل همجية من تلك التي أنتجتها. وهي حالة «طبيعية» لا يمكن توقع صيغة أخرى لها في ظروفه الحالية. بل يمكن القول، بأنها ظاهرة سوف تستقوي تدريجيا إلى أن تبلغ ذروة انحطاطها بعد خروجها العارم من سجن التوتاليتارية البعثية «العلمانية» والدكتاتورية الصدامية الطائفية.
فقد اندثر حزب البعث وتحولت بقاياه المتربية بتقاليد التسلط إلى قوى همجية تحترف القتل العشوائي عوضا عن القتل المنظم!! ولم يبق من الحزب الشيوعي الأقدم والأعرق والأوسع جماهيرية والأكثر تأثيرا وتنظيما وقوة دعائية سوى أطلال خربة. بحيث انقلبت كل موازينه الداخلية. وأصبح اقرب ما يكون إلى هيئة هلامية قابلة لكل الصور، من قبول «الامبريالية الأمريكية» والتحالف معها إلى الاندراج في قوائم دينية (شيعية) وقومية صغيرة (كردية) وتابع للبعثيين الجدد (علاوي) وأخيرا إلى ذيل صغير لقوى قومية عرقية صغرى (كردية كما جرى في انتمائه لقائمة "التآخي" في الموصل). بمعنى فقدانه لبوصلة الوطنية العراقية والقومية العربية والرؤية الاجتماعية. وهو فقدان عريق كان في أكثر جوانبه الوجه الآخر لحزب البعث. بحيث جعل منه في نهاية المطاف حزب الأقليات القومية والعرقية. لكنها مكونات لا يمكنه منافسة الآخرين بها أو فيها لأنها محجوزة مسبقا من قبل أحزاب أكثر تماهيا مع مكوناتها! لاسيما وأنها الحالة العادية في ظروف التجزئة العميقة والفعلية للعراق الحالي. وهي نتيجة أظهرتها نسبة الأصوات التي حصل عليها في الانتخابات الأولى عام 2005 بحيث لم تتجاوز نسبة 1%. وهي ذات النسبة التي حصل عليها في كنف أياد علاوي (نهاية 2005)، أي في ظل تغطية سياسية ودعائية ومالية لشخصية سياسية فردية، وليس حتى لحركة أو حزب اجتماعي سياسي بالمعنى الدقيق للكلمة. بينما انحدر في الانتخابات المحلية الأخيرة (2009) إلى حالة التلاشي الفعلي، بحيث تحول إلى "حالة سلبية" تامة في الوعي الاجتماعي. وليس مصادفة أن تكشف الانتخابات الأخيرة عن إمكانية فوز أفراد لحالهم على أحزاب سياسية كبرى. بينما لم يفز أي من ممثلي الحزب الشيوعي والحزب نفسه في أية منطقة من مناطق العراق العربي! وهو مؤشر على انه حزب لا عراقية فيه، أو أنها مجرد بقايا ديناصورية مندثرة ضخمة العظام "هيبتها" أمام عيون الأطفال ومراهقي التفكير السياسي! ذلك يعني إننا نقف أمام حالة تعكس طبيعة الانحدار السياسي للحزب وتحوله إلى كيان من الماضي، مع أن الادعاء الأيديولوجي بالمستقبل يرتقي عنده دوما إلى مصاف المطلق! أما في الواقع فإن المطلق الوحيد هو الإصرار على الابتعاد عن منطق الرؤية الواقعية والعقلانية تجاه الإشكاليات التي يواجهها العراق من خلال الانتماء إلى مكوناته الفعلية، وبالأخص القومية العربية. بحيث جعل منه الحزب "السياسي" الوحيد في ظروف العراق الحالية الذي يفتقد إلى ابسط مقومات المنطق السياسي والاجتماعي والوطني والقومي والطبقي والأخلاقي. ولعل تحالفه الأخير مع حركات قومية عرقية صغيرة كما جرى في الموصل سوى احد الأدلة المثيرة والغريبة في الوقت نفسه. حزب "أممي" وطني عراقي ينطوي تحت جناح أقلية متخلفة بمعايير السياسة والاجتماع والمستقبل في منطقة عربية "متعصبة" في انتمائها القومي! إلا أن هذه الصورة المفارقة والغريبة لا تثير في الحزب الشيوعي "العراقي" شيئا غير "الاعتزاز" الذي يعادل من حيث الجوهر حالة الانفصام التام في الشخصية والرؤية.
لكننا حالما نضع هذه الحالة الغريبة ونتائج الانتخابات الأخيرة (2009) في العراق، فإننا نتوصل إلى كونها ليست حالة عرضية أو طارئة، بقدر ما أنها نتيجة تراكمت في نسق الرؤية النفسية والذهنية الأيديولوجية للحزب التي حكمت تاريخه الحديث. وليس مصادفة أيضا أن يكون تاريخه السياسي وما يزال بهذا الصدد هو زمن الابتعاد العلني والمستتر عن القومية العربية. وفي هذا يكمن سر هزيمته التاريخية في العراق. وهي عقدة أكثر مما هي عقيدة. ويمكننا تتبع زمنها في زمن العداء المبطن للقومية العربية وصراعه العنيف مع أحزابها، كما تجسد بصورة حادة مع حزب البعث. وهو صراع لا علاقة له بحقيقة العقيدة بقدر ما يعكس عقدة الأقليات عند الشيوعيين وعقدة الهامشية عند القوميين العرب. أما النتيجة فهي إفساد الفكرة القومية والشيوعية، البعث باسم قومية مزيفة، والشيوعي باسم أممية أكثر زيفا.
لم يكن مصير الشيوعيين والبعثيين بوصفهم القوى السياسية التي وحّدت بواعث التمزيق الهمجي للفكرة الوطنية والاجتماعية، سوى النتيجة المترتبة على الخضوع المتعصب لأيديولوجيات مقلوبة من حيث أولوياتها، ومحكومة منذ البدء بفشل محتوم بسبب ابتعادها الفعلي عن إدراك طبيعة المشاكل التي تعاني منها الدولة والأمة. كما أنهما مثلا وتمثلا بطريقة لا تخلو من السذاجة التاريخية فورة الراديكالية العالمية المتراكمة في التقاليد الأوربية. لكن إذا كانت التقاليد الراديكالية الأوربية هي النتاج الوجداني المتناثر على طريق العقلانية العريقة والرأسمالية الأشد تنظيما، فإنها في ظروف العراق المتخلفة لم يكن بإمكانها أن تكون أكثر من نزوع إرادي عادي، عادة ما يلازم الذهنية المتطفلة على مظاهر المعرفة. من هنا تحولها إلى مرتع للجهلة وأنصاف المتعلمين، الذين تحولوا بين ليلة وضحاها إلى«طبقة عاملة» و«جماهير كادحة». ولم تعني هذه الكلمات في الدعاوي الأيديولوجية للشيوعيين والبعثيين في أفضل الأحوال أكثر من مصطلحات منتقاة من قواميس التعليم الابتدائي للطلبة بدون وعي فلسفي يناسبها. بينما كان تاريخ العراق ضعيفا بمعايير التراكم النظري والعملي للأفكار السياسية. بل يمكننا القول، بأنه كان يخلو من تقاليد الفكر النظري السياسي العلمي. من هنا لم تعن كلمات الجماهير والعمال والكادحين وأمثالها في الأيديولوجيات العملية للشيوعية والقومية (البعثية) سوى الوقود التي لا تحتاج لغير شرارة «الفكرة الثورية» لكي تحترق في أتون معارك «وطن حر وشعب سعيد» أو معارك «الوحدة والحرية والاشتراكية». لهذا لم ينتج تاريخ الحرية السعيدة والوحدة الاشتراكية غير دخان الراديكالية الخانق. وتحته كانت الجماهير والعمال والكادحين، أي الفئات الاجتماعية العريضة ترزح تحت عبودية غاية في التعاسة وإفقار مريع وتجزئة جعلت من رجوعها إلى «مصادرها الأولى» أمرا مقبولا ومعقولا بمعايير العقل والوجدان. من هنا رجوع الأقليات القومية إلى أعراقها، والطوائف إلى طائفيتها، والقلقين والفقراء إلى «الإيمان». وهو نكوص جعلت منه الدكتاتورية الصدامية أداتها السياسية الجديدة في حملاتها الإيمانية وهمجيتها القومية وشراستها الطائفية. وفيها نعثر على حالة الانحطاط وذروتها التامة القائمة في مفارقة تعايش راديكالية وعبودية في "أحزاب جماهيرية"!! لكنها مفارقة تطرح بعد قرن من الزمن الضائع، مهمة البحث عن بدائل واقعية لما خلفته الراديكالية السياسية للشيوعية والبعثية في العراق من شيوع الجهل وانبعاث القتل الشامل للعقل والضمير الاجتماعي. وهي بدائل لا يمكنها الاستقرار والنمو ألا في حال استنادها إلى فكرة اجتماعية وطنية ذات أبعاد قومية عربية في العراق. بمعنى قلب المعادلة التاريخية المشوهة التي ابتدأت بفكرة أممية مزيفة و"تكاملت" في أيديولوجية قومية جهوية فئوية طائفية، إلى معادلة تاريخية عقلانية تبدأ بالفكرة الاجتماعية وتتكامل بالفكرة الوطنية لتنتهي بالفكرة القومية، بوصفها حلقات واقعية وضرورية ومستقبلية.
***










التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - حقيقة واقعية
ابو ناهض ( 2009 / 4 / 4 - 07:06 )
المقالة ممتازة لكنها مختصرة وهذا هو الواقع المرير الذي ابتلى به الشعب العراقي وبالاخص اليسار الديمقراطي وواقع العراق هو بحاجة الى قوى وطنية علمانية تنتمي للوطن قبل كل شي وليس لها مصالح انانية ذاتية وهذا يجب ان يحقق بجيل مومن بالوطنية وعلى القوى الشابة ان تبني الوطن الجريح وتعزل كل القوى الحالية برمتها وبناء العراق بايدي قوى بعيدة عن التحزب والطائفية المقيته وليكن الشعار الاساسي - الدين لله والوطن للجميع وارجو من الدكتور ميثم الموفقية والاكثار لمثل هذه الدراسات ولتجميع القوى الخيره ----


2 - مقاربة ممتازة رغم قسوتها
مضر ( 2009 / 4 / 4 - 08:54 )
هذه المقاربة تستحق التوقف ، رغم اننا قد لا نتفق على التفاصيل و لكن التشابهات الجوهرية ، ليس اقلها الايمان بسياسة الحزب الواحد الذي تنحصر فيه الحقيقة ، و ينفرد بامكانية الانتصار و ايجاد حل لمشاكل الشعب ، اضطهاد المخالفين ، عدم التواضع و الاستماع للرأي الاخر ... ألخ هو شيء مشترك بين هذين الحزبين و بالرغم من أن هذا المقال سوف يؤخذ بشكل متشنج من الكثيرين الا ان هناك الكثير مما يمكن التمعن به للخروج من الازمة اذا كان ثمة اي مخرج و اذا لم يكن الاوان قد فات .
ان معالجة الازمة بالاحتفالات و التمجيد المبالغ به الذي شارك به - مثقفون - دون نقد او مآخذه ، يشبه تناول الكحول لحل المشكلة !


3 - حول المقاربات الممتازة
علي الأسدي ( 2009 / 4 / 4 - 14:26 )
كانت جدتي رحمها الله تردد مقولة تناسب الواقعة التي تتطابق إلى حد ما مع ما أبداه السيد مضر بفتوى انقلاب القيم للسيد الجنابي، وهي عصفور كفل زرزور واثنينهم طيارة - مع تحياتي
علي الاسدي :


4 - وجهة نظر
أحمد طالب ( 2009 / 4 / 4 - 15:41 )
يتناول السيد ميثم الجنابي , موضوعة مهمة وخطيرة ولها علاقة
جدلية بتطور العراق الحديث , وعلاقة النصوص والافكار والتي تحولت الى نصوص جامدة ومقدسة والى شعارات فارغة , وخلقت
ثقافة الصوت الواحد العالي والذي يدعي حيازة الحقيقة والنزاهة ويطالب الاخرين بالاعتراف بالتفوق عليهم ,ويشكك بصدق وقدرة
الاخرين في كل المجالات , انه الانتحار والتدمير الذاتي ومع نشوة
ولذة غريبة, محاطة بغرور وقح واستفزازي

اخر الافلام

.. -انفجار داخلي ضد حزب الله-.. هذا ما يخطط له نتنياهو


.. مغاربة يشاركون في مسيرة تنديدا باستمرار العدوان الإسرائيلي ع




.. كم بلغت تكلفة الحرب الإسرائيلية على غزة خلال عام؟


.. عبر الخريطة التفاعلية.. معارك في مخيم جباليا وسرايا القدس تق




.. الدكتور أحمد المخللاتي يروي للجزيرة شهادته خلال الحرب الإسرا