الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


موت الشباب في المخيم

جاكلين صالح أبو طعيمة
(Jaklin Saleh Abutaima)

2009 / 4 / 6
الادب والفن


فلسطين – رفح – الحدود الفلسطينية المصرية
حين كنت صغيرة لم أكن أسمع أن الشباب يموتون، كان في الحارة شباب كثر، لا زلت أرى نصفهم والنصف الآخر رحل، بقيت الحارة هي نفسها، ربما تغير شيئاً قليلاً من ملامح الذين بقوا ... منهم من فقد جزء من شعره في المقدمة، ومنهم من نحتت الشمس لونها على محياه، وذاك انحنى قليلاً، وهذا أرهقه كثرة الصغار وأصبح يسمع كلمة أبي أكثر من ألف مرة، وتتراقص أمامي صورة البنات الصغيرات اللاتي أصبحن شابات وأمهات، هذه قفزة لعبة نط الحبل الرائعة، وهذه آثار الحجلة التي لم يبرحوا لعبها ليلاً أو نهار، حتى كانت أمهاتنا الكبيرات في الحارة يقلن "من يحجل في الليل يحجل على قبور الميتين" كنا نخاف الميتين ونكف عن اللعب، ولم يكن في حارتنا شباب يموتون.

الموت كان عندنا لعبة أو ضحكة لم نفهمها، كنا فقط نخافها، ولم أذكر في منطقتنا كلها أن أحداً قد توفي وبكينا عليه، بل كان يوم وفاته فرحة لنا ليس لأنه فارقنا، لكن كان الكل يجتمع ويجلسون أمام بيت المتوفى ونحن ندور ونلعب ونأكل الطعام الذي يطبخونه في بيت العزاء، حتى أنني أذكر في يوم وفاة جدتي مريم، كان الإسرائيليون قد فرضوا حظر التجول على سكان المدينة، لكن خرج الجميع من رجال ونساء الحارة يعزون ويآزرون، يومها لعب كل الصغار وضحكوا كثيراً، ربما في ذاك الوقت فقط عرفت الموت، فقد بكيت دونهم، وبرغم ذلك كله فجدتي أيضاً كبيرة ومريضة، هذا هو الحدث الأول الذي أتذكره في الموت...

واختلف المشهد، في طفولتنا كان للموت موقعه، كان له جلله الكل يقف يقدر يبجل الحدث، وكان الموت قليل، أما اليوم فالموت كثير في كل مكان، حتى أنك من الممكن أن تزور بيتيّ عزاء في يوم واحد، وفي الأوقات الشديدة يمكنك أن تزور ثلاث وأربع وليس موتى فحسب بل شهداء، والقاتل واحد اسمه ورسمه في نفس اللوحة التي علقوا عليها اسم الشهيد، وبما أننا تقدمنا وتطورنا فقد ضاعت من بين عيوننا عاداتنا وثأرنا، وأصبحنا نعزم على فعل كل شيء إلا صورة القاتل، فلا نأخذ بقصاص ولا نلتفت له أصلاً.

بيوت العزاء الكثيرة والمنتشرة في كل الحارات هي لشباب، شباب لم نكن نعرف أنهم يموتون، شباب لم يكونوا ضمن ثقافة طفولتنا، ليتهم علمونا ذلك يوم توفيت جدتي مريم بأنه سيأتي يوم لا يموت فيه إلا الشباب بدم بارد، يوم لن يُفَرق فيه بين شاب وكبير أو حتى طفل صغير... لم نحسب حسبة ليوم نودع فيه مئات بل ألوف من شباب وشابات ورجال ونساء.
وجاء هذا اليوم الذي لم أحضر فيه بيت عزاء، لكن ما شاهدته رؤى العين... المخيم، آلاف الصور التي تتراشق العابر من هناك، الشهيد عماد والشهيد إياد وابنه بلال، والشهيد محمد وأخيه أحمد، والأم وشهداؤها الثلاثة، والرجل وزوجته، والعائلة كلها، ما أكثر الجماعات في الموت... ما أكثر جماعات الشهداء فيك يا غزة.... في المخيم تتوقف ولا تذرف الدمع بل يتقطع داخلك ألماً وغضباً وموتاً جديد، أهذا هو المخيم؟ هذه هي قلعة الثكالى والأيتام، هذا هو المخيم، أليس هذا المخيم هو الذي كان ملجأً للمهاجرين الفارين من الموت في أراضيهم، لماذا يتبعهم الموت هنا، لماذا يُصِر القاتل على نشر الدم في أي مكان يذهبه شخص اسمه فلسطيني،

الصورة تدمر العقل، تشل التفكير، في كل بيت شاب شهيد، أمام كل بيت يتيم صغير يناظرك ببراءة لم يعرفها الموت ولا القاتل، وصوت صغيرة لم ترى النور إلا منذ قليل تخبرك بابا في الجنة، أبعد هذا هناك صبر للدموع؟ بل هو شلال صارخ .. زوبعة أو إعصار عساها تفيض بغضب القلب وصراخ الروح، عساها تنقلك من أمنيتك بحياة مديدة سعيدة لأمنية بعيدة بعيدة ....
تلك هي صورة المخيم، بل صوت المخيم الممزوج بأنين عبقته رائحة الموت وتنشقته براءة الصغار، هناك أمام الصور الكثيرة الكبيرة والصغيرة، ستنسى أنك كنت تحلم ببيت وزوجة وطفل وعمل، كل الأمنيات تذوب وتتحول لنار دخانها يدمي قلبك قبل عينيك، كل الأمنيات تتحول لكابوس أمام خمس بيوت متلاصقة في كل بيت منها شاب شهيد، شاب في الثلاثين والعشرين وفي الخامسة عشر وصور لأقمار لم يدنسهم بعد روث القاتل فكفنوا في ملابس الميلاد.
وتظل فكرة العقل لصغيرة، هل يموت الشباب؟... هنا نستطيع أن نقول لا يموت إلا الشباب، ويموتون بأعداد حتى أنهم أصبحوا أرقام في أبواق الإذاعات وصور الشاشات، لكنهم لن يصبحوا أرقام أبداً في حضن المخيم، سيظل يذكر المخيم كل دقة قدم لهذا الشهيد، وكل ضحكة صدمت نسمة هواء في عصر يوم أربعاء، سيظل المخيم معبقاً بمسك الشهيد، وترابه سيشهد على خربشاتهم وأصواتهم، سيحملهم في جوفه حين ينساهم الجميع، فربما ننسى وربما نقسى لكن ذاكرة المخيم لا تغفل، هنا فقط سنتخفى في أنفسنا ونترحم عليهم، ونترك ثأرهم والقصاص لهم ونقول... يكفي أن المخيم يذكر ... لكنه لم يكفي فاسم العدو الصهيوني يدق كل عقل وصوته يعلو، هذا اليوم شهيد وغداً أنت غداً أنت... وستظل إسرائيل تقتل والمخيم يحمل حسرات أبنائه كل يوم من جديد، وللمخيم يوم ينفجر فيه ....

إلى شهداء مخيم الشابورة برفح كل الإجلال.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كلمة أخيرة - فقرة غنائية بمناسبة شم النسيم مع الفنانة ياسمي


.. كلمة أخيرة - بعد تألقه في مسلسلي كامل العدد وفراولة.. لقاء




.. كلمة أخيرة - ياسمين علي بتغني من سن 8 سنين.. وباباها كان بيس


.. كلمة أخيرة - المهرجانات مش غناء وكده بنشتم الغناء.. رأي صاد




.. كلمة أخيرة - -على باب الله-.. ياسمين علي ترد بشكل كوميدي عل